الحرية الفردية الجنسانية الأصول والغايات (1)

في تقديري أن موضوع الحريات الفردية لا ينبغي الوقوف فقط عند تجلياته السياسية والحقوقية، التي تظهر عادة في الحراك الواقع على الساحة النضالية، وإنما ينبغي دراسة خلفيته الفكرية والفلسفية المؤطرة لتلك المقولات السياسية والحقوقية، حتى يمكننا ذلك من فهم كنه القضية، من حيث كونها تمتح من مرجعية معينة.

لذلك نقرر بداية أن الخلاف في تناول هذا الموضوع خلاف مرجعي بالأساس، خلاف بين التصور الإسلامي لقضية الحرية الفردية، المبني على أصول الشريعة الإسلامية، ومقاصدها العليا الحاكمة، وبين التصور العلماني واتجاهاته المتعددة، وإن كانت العلمانية من الناحية الإيديولوجية ذات بعد واحد، وموقف مبدئي موحد من الدين عامة، ومن الشريعة الإسلامية خاصة، يؤطره الغزو الفكري الاستعماري، والاستلاب الحضاري، والإحساس بالدونية لدى النخبة المتغربة الفرنكفونية، المتماهية مع المنطومة الغربية والثقافة الاستعمارية في كل شيء.

فقضية المرجعية وتحكيمها في هذا الموضوع الخطير والحساس، أعتبره جوهر الخلاف والصراع، وكنه المعالجة، وإلا سنظل تائهين في بيداء الفكر دون أن نخلص إلى نتيجة مرضية وواقعية، إذ التصور الإسلامي لموضوع الحريات الفردية يختلف تماما عن التصور العلماني.

وهنا أقرر ما سبق أن كتبته تمهيدا لحوار مع العلامة عبد الصبور شاهين رحمه الله حول العلمانية، فقلت " لقد ظلت الشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي مصدر الحكم والتشريع ، ومنبع التوجيه والإرشاد، ومعين التسيير والتأطير للدولة والمجتمع، فكانت لها بذلك السيادة الكاملة، والريادة التامة، بالرغم من فترات الضعف والأفول التي تغشى من حين لآخر سير الدول والمجتمعات الإسلامية، إلى أن أتى الاستعمار الغربي بمنظور جديد لكيفية استعمار دول العالم الإسلامي، وخاصة منه العالم العربي.

فكان مما أتى به ترسيخ العلمانية ثقافة وسلوكا وقوانين، فعمل هذا المستعمر الغاشم كل ما في وسعه لإزاحة الشريعة من دواليب الدولة ومؤسساتها، وأعانه على ذلك أن أنشأ كائنات على شاكلته، وصاغ بشرا على صورته، منسلخين عن حضارتهم، ومتنكرين لهويتهم، لا يرون إلا ما يراه المستعمر، ولا يفكرون إلا بعقليته.

وقد عبر علال الفاسي رحمه الله أصدق تعبير، وبين أحسن بيان، لما آلت إليه أوضاع المسلمين اليوم بسبب السياسة الاستعمارية، والتبعية للأجنبي، فقال رحمه الله بما نصه: "لم يحصل أن فصل المسلمون عن أنفسهم في عصر من العصور كما فصلوا اليوم بسبب الاستعمار الأجنبي الذي هاجم ديارهم وأصابهم في ثرواتهم المادية، ولم يكتف بذلك حتى هاجمهم في لغاتهم وثقافتهم، وصاغ منهم كائنات على صورته، تردد ما يقول، وتعمل بما يوحي به دون أن تدرك أنها تعمل ضد نفسها وتحارب كيانها...

لقد أصبح قسم من المسلمين –وجلهم من المسؤولين في الحكومات الإسلامية- يقومون مقام المستعمر في الذب عن الفكر الأجنبي المتمثل في القوانين المستحدثة، وكيل الطعن المتوالي على الفقه الإسلامي ورجاله ودعاة العودة إليه. بينما يقف أنصار الشريعة وعلماؤها موقف المشدوه، ضعيف السلاح لأنه لا سلطة لهم ولا حول ولا قوة، يواجهون بها هذا الزحف الاستعماري المتستر باسم قادة المسلمين الذين وصلوا للحكم باسم شعوبهم المسلمة ونضالها في سبيل الحرية." (دفاع عن الشريعة، المقدمة)

من هنا دخلت العلمانية العالم الإسلامي، فأحكمت قبضتها بمساعدة من سماهم علال الفاسي بقادة ومسؤولي الحكومات الإسلامية، فهيمنوا على دواليب الحكم والمجتمع بالحديد والنار، وبنشر ثقافة وقيم الأجنبي المستعمر، الذي كانوا يدينون له بالطاعة والولاء، متبرمين من كل قيمهم الدينية والحضارية والعمرانية، صادفين عن كل سبل الرشاد والسداد، فكان أن خرجنا بذلك من الاستعمار الأصغر إلى الاستعمار الأكبر، الذي لم يزد الأمة إلا تخلفا وتقهقرا وارتماء في أحضان أعدائه."

تحرير محل النزاع في هذا الموضوع

وتحرير محل النزاع في موضوع الحريات الفردية يجعلنا نقسمها إلى قسمين: قسم الحرية الفردية فيه مسلمة ومقررة ابتداء، مثل حرية التعبير وإبداء الرأي، وحرية التنقل، وحرية اختيار شريك الحياة سواء من الرجل أو المرأة، لأن المعاشرة لا بد فيها من المساكنة والمرحمة والمودة، وحرية ما طاب من المأكولات والمشروبات، وذلك لا يكون إلا بالاختيار الحر دون ضغط من أحد، وهلم جرا من مثيلات هذه الاختيارات التي فطر الناس عليها "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون." [الروم:30].

وقسم الحرية فيه محل نزاع شديد، واختلاف عريض بين التيار العلماني اللاديني وبين المجتمع المسلم، وتعبيري بالمجتمع المسلم، لرفع الالتباس الذي قد يقع لبعض الناس، فيحسب أن القضية ما هي إلا خلاف بين العلمانيين والإسلاميين، وهذا القسم هو المتعلق بالحرية الجنسية بلا قيد ولا شرط، ولا مراعاة للضوابط الشرعية والأخلاقية. 

في البداية كانت الحرية

وبعد أن بينا سلفا محل النزاع، وكشفنا عن حقيقته، وهو المتعلق بالحرية الجنسية، لا من حيث كونها فطرة مركوزة في جبلة الإنسان، ينبغي أن تصرف وفق مراد بارئها سبحانه وتعالى، ووفق شرعه الحكيم، أعني حسب مقتضيات شريعتنا الإسلامية، وإنما حسب التيار العلماني اللاديني أن تكون هذه الحرية الجنسية سائبة متحررة من سلطة الشرع وسلطة المجتمع، حتى يصير الإنسان فيها كالبهيمة السائمة السائبة، المنطلقة نحو الشهوة الجنسية بدون قيد ولا لجام.

وليس هذا ضربا لمبدأ الحرية التي منحت للإنسان ابتداء، حتى كانت بداية حركته في الوجود، وليس السياسة وحدها كما جنح إلى ذلك أحد الكتاب، ولا الكلمة وحدها كما رأى آخر، وإنما كانت الحرية في البداية لقوله تعالى: وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ." [البقرة35].

لقد خلق الله آدم وأسكنه هو وزوجه الجنة، ومنحهما حرية التصرف، وحرية الفعل، وحرية الحركة، وحرية القول، والدليل على ذلك كله قوله تعالى: "وكلا منها رغدا حيث شئتما"، ونستخلص من ذلك:

أولا: أن السكون يقتضي حرية الحركة والفعل، حيث آدم وزوجه سيتحركان ويتنقلان في الجنة وهذا دليل على الاستقرار واللبوث بها، إذ لا يتصور في معنى السكون عدم الحركية والفعل، وإلا لما تسنى لهما أن يأكلا منها، لأن طبيعة الأكل تتطلب حركة الفعل، وحركة الفعل تستوجب الحرية المعبرة عن الإرادة الإنسانية في تحقيق الفعل أو نفيه.

ثانيا: أن قوله جل علاه "رغدا حيث شئتما" يحمل دلالة على مطلق حرية الأكل والتوسع فيه بلا قيد ولا شرط، لأن نعيم الجنة أعد للتوسع فيه والاستمتاع به، فلا يشمله مفهوم التبذير والإسراف.

ثالثا: أن هذه الحرية قيدت بنهي صادر عن الذات الإلهية وهو قوله تعالى: "ولا تقربا هذه الشجرة..." وهو تقييد اختباري مصلحي، اختباري لمدى ضبط آدم وزوجه للشهوات المغروزة فيهما، ومصلحي لأنه مقرون بمدى الالتزام بالنهي الإلهي المتضمن للمصلحة، فلم تكن بذلك حرية مطلقة، فالحرية المطلقة غير موجودة البتة منذ آدم إلى يومنا هذا، وإنما تتقلص مساحة الحرية أو تتمدد بحسب الأنظمة الحاكمة فإن كانت عادلة تمددت الحرية، وإن كانت فاسدة مستبدة انكمشت الحرية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين