الثورة السورية ومستقبل البشرية -9-

جهاد الاستعلاء :

قال تعالى ?  وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ  ?  (آل عمران : 39) وقال تعالى ?  وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ  ? (محمد : 35)  وقال سبحانه في قصة موسى عليه السلام ?  قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى  ?  (طه : 68).

قال القرطبي : ?  وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ  ?  أي لكم تكون العاقبة بالنصر والظفر ?  إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ  ?  أي بصدق وعدي .([1])

وقال سيد قطب : " وأنتم الأعلون . . عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها الهداة لهذه البشرية كلها وهم شاردون عن النهج ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . . فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص " ([2])

وقال : " أنتم الأعلون . فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم . أنتم الأعلون اعتقادا وتصورا للحياة . وأنتم الأعلون ارتباطا وصلة بالعلي الأعلى . وأنتم الأعلون منهجا وهدفا وغاية . وأنتم الأعلون شعورا وخلقا وسلوكا . . ثم . . أنتم الأعلون قوة ومكانا ونصرة . فمعكم القوة الكبرى : والله معكم . . فلستم وحدكم . إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار . وهو لكم نصير حاضر معكم . يدافع عنكم . فما يكون أعداؤكم هؤلاء والله معكم؟ وكل ما تبذلون ، وكل ما تفعلون ، وكل ما يصيبكم من تضحيات محسوب لكم ، لا يضيع منه شيء عليكم ، لن يتركم أعمالكم .. ولن يقطع منها شيئا لا يصل إليكم أثره ونتيجته وجزاؤه ." ([3])

إن الإنسان يختار العلو الذي اختاره الله رب العالمين , وخاطب به أنبياءه  ، فقال سبحانه لنبي الله موسى عليه السلام : ?  قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى  ?  (طه : 68). وخاطب به المؤمنين ?  وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ?  (آل عمران : 39)

وهذا الاستعلاء بحاجة إلى : تخليص النفس من الوهن ، وبحاجة إلى التغيير النفسي لتكون مؤهلة للاستعلاء والنصر .

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم : ?  وَلاَ تَهِنُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأعلون إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ ءَامُنَواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ  *  وَلُِيمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَـافِرِين * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَـاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ  ?  (آل عمران : 139-142)

لقد نزلت هذه الآيات بعد غزوة احد تخفيفا لما أصاب المسلمين من ألم وجراح ، وطلبا منهم ألا يضعفوا ولا تنهزم أنفسهم ولا ييأسوا ولا يستسلموا ، لأن الهزيمة مرض فتاك ، وأخطرها الهزيمة النفسية " لأنها الممهدة والسابقة لأي هزيمة حضارية وعسكرية، ولذلك يعمد الأعداء على بث الهزيمة النفسية بكل الوسائل ليتحقق لهم النصر العسكري .... إن الهزيمة النفسية تفوق بكثير في آثارها ونتائجها الهزيمة العسكرية ، لأن الهزيمة العسكرية قد تتحول إلى نصر يوم أن تنطلق الإرادة لتواجه التحدي، لكن الهزيمة النفسية تظل تقيد إرادة الإنسان، وتعطل قدرته على المقاومة، وتدفعه للشعور بالإحباط لتقضي على أي أمل للإصلاح، وبدلاً من أن يبحث عن أي سبيل للخروج من الأزمة يكتفي المحبط بالعويل والصراخ، وأن لا مجال للخروج من الأزمة إلا بالاستسلام والرضا بالواقع." ([4])

ومع اليأس والإحباط النفسي يتصور الإنسان أن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية هو واقع لن يتغير ولا فائدة من الوقوف أمام الأعداء ، فالغرب لا يقهرون ، وهذا ما يريده الأعداء ... فيعيش الإنسان ذليلا ، فاقدا للكرامة ، فاقدا للحرية ، فاقدا للإنسانية .. ولذا كان الوعيد الشديد من الله سبحانه وتعلى ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ? ( يوسف : 87)

ولكن الإنسان المؤمن سواء كان فردا أو جماعة " المؤمنون الموصولة قلوبُهم بالله النديَّة أرواحهم بروحه، الشَّاعرون بنفحاته المحيية الرخيَّة ، فإنَّهم لا يَيْئسون من روح الله، ولو أحاط بهم الكَرْب، واشتدَّ بهم الضيق، وإنَّ المؤمن لفي روحٍ من إيمانه، وفي أنسٍ مِن صلته بربِّه، وفي طُمَأنينة مِن ثقته بمولاه وهو في مضايق الشدَّة، ومخانق الكروب "  ([5])

انه لا يتعامل مع الأسباب وإنما مع خالق الأسباب ، ومدبر الأمور سبحانه الذي بيده كل شيء واليه يرجع كل شيء .

انه لا يتعامل مع الأسباب .. ففي الحروب الصليبية زحفت أوربا كلها ، واحتل المسجد الأقصى قرابة تسعين عاما ، لا يدخله مسلم ولا يرفع عليه أذان .. ثم كان النصر ..

وهجمت وحوش المغول تهدم وتدمر وتقتل وتذبح فلا تدع أمامها أخضرا ولا يابسا إلا أحرقته وسالت الدماء في الطرقات كالسيل فقد قتلوا من المسلمين مليونا في بغداد وحدها ، فكم قتلوا في باقي المدن والدول الإسلامية التي اجتاحوها حتى هزيمتهم في عين جالوت في فلسطين ..

لقد كان جيش الصليبين والتتار أسطورة لا تقهر في ظن كثير من الناس ولكن تم تدميرها .. بجهاد الاستعلاء المتمثل في التصدي لفكر الهزيمة النفسية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية ، وهذا التصدي لن يكون إلا بسلاح العقيدة ، والصبر على تغيير النفوس لتكون مستسلمة لله سبحانه .

إن الوصول إلى الاستعلاء بحاجة إلى تغيير أنفسنا  ، فالهزيمة النفسية والهوان والتبعية سببها الحقيقي إساءاتنا لأنفسنا  ?  قل هو من عند أنفسكم  ?  (آل عمران : 165)

قال تعالى ?  إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ?  (الرعد: 11) " إن الأقوام والمجتمعات، لا تتغير إلا بمغير، وهو مغير من داخلها، لا من خارجها، وهو أن تغير ما بأنفسها لغير الله ما بها، أي تغييره من الشر إلى الخير، ومن الانحراف إلى الاستقامة،  ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الغواية إلى الرشد، ومن الكسل إلى العمل، فيغير الله حالها من الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العزة، ومن التشرذم إلى الوحدة، ومن الانفراط إلى التماسك، ومن القنوط إلى الأمل، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الاستضعاف إلى التمكين([6])

ولن نستطيع تغيير أنفسنا إذا لم نعرف هويتنا ومن نحن ؟ إذا لم نعرف الواجبات الملقاة علينا بدلا من التساؤل عن الحقوق فقط ، ولذا يتساءل الناس أين نحن الآن بعد ثلاثة أعوام من قيام الثورة ؟ وهذا التساؤل هو سبب التشاؤم والغفلة عما يجري من حولنا من مخططات ومؤامرات .

وهو سبب للتنازع والاختلاف والاضمحلال الفكري ، ونقص الخبرة السياسية ..

وحتى نخرج من هذه الغفلة والتنازع والانحسار السياسي يجب أن نلغي هذا التساؤل ، ونسأل سؤالا آخر ، فيه الأمن والأمان  ، وفيه سعة الأفق والتعاون رغم الاختلاف : من نحن ؟

إن الإجابة على هذا السؤال سوف يجعلنا نغير من أنفسنا ونتعرف عليها ، ونتبين حقيقة إسلامنا وهويتنا وبالتالي نضع أقدامنا على الصراط المستقيم  لبناء الإنسان والحضارة  ، ونرسم إستراتيجيتنا الذاتية التي لا تعتمد على التبعية والانطواء تحت الغير .

نحن أمة الحضارة والبناء والجهاد والعدل والحرية والسلام .

يقول أديب الفقاء وفقيه الادباء علي الطنطاوي رحمه الله تعالى :

"نحن المسلمين!!

هل روى رياض المجد إلا دماؤنا؟ هل زانت جنَّات البطولة إلا أجساد شهدائنا؟ هل عرفت الدنيا أنبل منا أو أكرم ، أو أرأف أو أرحم ، أو أجلَّ أو أعظم ، أو أرقى أو أعلم؟

نحن حملنا المنار الهادي والأرض تتيه في ليل الجهل، وقلنا لأهلنا: هذا الطريق!.

نحن نصبنا موازين العدل، يوم رفعت كل أمة عصا الطغيان.

نحن بنينا للعلم داراً يأوي إليها، حين شرده الناس عن داره.

نحن أعلنَّا المساواة ، يوم كان البشر يعبدون ملوكهم ، ويؤلِّهون ساداتهم.

نحن أحيينا القلوب بالإيمان ، والعقول بالعلم ، والناس كلَّهم بالحرية والحضارة

لنا المستقبل .. المستقبل لنا إن عُدنا إلى ديننا. نحن المسلمين!([7])

 

وعندما نعي من نحن و نتغير يغير الله حالنا ، وقد وعدنا سبحانه " ?  وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا  ?  ( النساء: 141) " إنه وعد من الله قاطع . وحكم من الله جامع : أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين؛ وتمثلت في واقع حياتهم منهجاً للحياة ، ونظاماً للحكم ، وتجرداً لله في كل خاطرة وحركة ، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة . . فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً .

وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك ، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين ، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله ، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان . إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية؛ ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون ففي " أحد " مثلاً كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول - e - وفي الطمع في الغنيمة . وفي " حنين " كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا . . نعرفه أو لا نعرفه . . أما وعد الله فهو حق في كل حين .

نعم . إن المحنة قد تكون للابتلاء . . ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة ، هي استكمال حقيقة الإيمان ، ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه ، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين .

على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك . . إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح ، وكلال العزيمة . فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً . فأما إذا بعثت الهمة ، وأذكت الشعلة ، وبصرت بالمزالق ، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق . . فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد . ولو طال الطريق .

كذلك حين يقرر النص القرآني : أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً . . فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر؛ والفكرة المؤمنة هي التي تسود . وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصوراً وشعوراً ، وفي حياتها واقعاً وعملاً . وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها . فالنصر ليس للعنوانات . إنما هو للحقيقة التي وراءها . .وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان ، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان . ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك . . ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء ، وألا نطلب العزة إلا من الله .

ووعد الله هذا الأكيد ، يتفق تماماً مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون . .

إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى ، التي لا تضعف ولا تفنى . . وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها . . ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية ، أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعاً .
غير أنه يجب أن نفرق دائماً بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان .

 إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية . ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل . وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . . ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن " حقيقة " الكفر تغلبه ، إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها . . لأن حقيقة أي شيء أقوى من " مظهر " أي شيء . ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان ، إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق . وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل . مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون . . ?  بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق  ? ، ?  ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً  ?  .([8])

 

 


[1] ) الجامع لأحكام القرآن محمد بن احمد القرطبي دار الفكر 4/206

[2] ) في ظلال القرآن سيد قطب ص 480

[3] ) المرجع السابق ص 3346

[4] ) بحث فكر الهزيمة خطر وسبل مواجهته ، د. محمد حسن بخيت. بحث مقدم إلى مؤتمر "الإسلام والتحديات المعاصرة" المنعقد بكلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية  في الفترة: 2-3/4/2007م

[5] ) في ظلال القرآن ص 2026

[6] ) الصحوة الإسلامية من المراهقة الى الرشد، للدكتور يوسف القرضاوي، ص: 115

[7]قصص من التاريخ - علي الطنطاوي - المكتب الإسلامي -  ص 15.

[8] )  في ظلال القرآن سيد قطب دار الشروق ص 782

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين