الثورة السورية ومستقبل البشرية -12-

تابع جهاد المعركة :

إن الجهاد دعوة إلى الحق ، والى الهدى ، وإلى العدل وإلى الحرية وإلى السلام ، ولذلك فهو بحاجة إلى قيادة متدينة حكيمة ، وجيش إسلامي متميز بجنديته وأخلاقه والى فقه ووعي وإدراك وتخطيط .

1)- قيادة متدينة :

" إن العقيدة الراسخة ضرورية لكل قائد عسكري ومدني، ولكل فرد من أفراد الشعب، ولكنها بالنسبة للقائد العسكري قضية مصيرية، وهي التي تميّز بين القائد الحق والقائد المزيّف.

وليس قائداً حقّاً مَن لا يتحلَّى بالعقيدة الراسخة التي تجعله موضع ثقة رؤسائه ومرؤوسيه على حد سواء.

وليس هناك شخص واحد يولي ثقته قائداً متفسخاً منحلاًّ، لا رادع يردعه ولا ضمير يؤنبه.

وتبادل (الثقة) بين القائد ورجاله، تجعلهم يسيرون وراءه إلى الموت، وهم لا يسيرون قطعاً إلى الموت وراء قائد لا يثقون به.

ولكنَّ القول بأن العقيدة الراسخة ضرورية لكل قائد لا تغني عن كل قول، فالواقع أنها الأساس الرصين للقيادة الرصينة المنتصرة، وعلى هذا الأساس تبنى صفات القائد المنتصر الأخرى.

وكما يُشَيَّد البناء الشامخ المتين على أساس قوي متين، كذلك تشيّد كل صفات القائد المنتصر على أساس العقيدة الراسخة المتينة، وبدون هذه العقيدة لا قيمة لصفات القائد الأخرى كما لا قيمة للبنيان المشيد على جرف هار.

ولعل الذين دققوا بإمعان، في سِيَرِ قادة العرب والمسلمين الفاتحين في أيام الفتح الإسلامي العظيم، وفي سِيَرِ قادة العرب والمسلمين المنتصرين بعد أيام الفتح الإسلامي العظيم، قد وجدوا أن (القاسم المشترك) في صفاتهم جميعاً، على اختلاف أجناسهم وطبائعهم والزمان الذي عاشوا فيه والمكان الذي ترعرعوا فوق أرجائه والظروف التي أحاطت بهم والبيئة التي تأثروا بها - على اختلاف كل هذه المؤثرات التي تبني السجية وتشيّد الشخصية وتوجه الرجال - هذا (القاسم المشترك) بينهم جميعاً هو تمسكهم بتعاليم الدين الحنيف، ورغبتهم الصادقة في إعلاء كلمة الله.

كانوا أبطال الإسلام لا أبطال شعوبهم التي ينتسبون إليها، وكانت الفكرة الإسلامية تملأ نفوسهم ومشاعرهم: يضطرمون بها ولا يؤمنون بغيرها. ولم تكن تحدوهم في جهادهم أية فكرة قومية أو عنصرية أو إقليمية.

فإذا نحن أسبغنا على هؤلاء القادة الفاتحين والمنتصرين أو على مشاريعهم وأهدافهم وجهادهم في سبيل الله أية صفة أخرى غير الصفة الإسلامية، وإذا نحن نسبناها إلى بواعث قومية أو عنصرية أو إقليمية، فإنا بذلك نجني على سِيَر هؤلاء الأبطال الإسلاميين العظام، إذ نجرِّدهم من أروع الحوافز البطولية وأشرفها، كما نجني على الواقع وحقائق التاريخ.

لقد كانوا قادة (مبادئ) لا قادة (مصالح) .

قادة الفتح الإسلامي من الصحابة والتابعين، كانوا في الوقت نفسه علماء عاملين، يحملون السيف بيد والمصحف بيد أخرى، وكانوا قادة ودعاة في آن واحد، يفتحون من أجل الدعوة، ويَعْرِضون الإسلام على الناس بدون إكراه.

والقادة المنتصرون كانوا يحرصون أن يكون إلى جانبهم في الميدان أشهر العلماء العاملين، وقد مرت بنا فيما سلف أسماء قسم من هؤلاء العلماء الأجلاء.

هذه العقيدة الراسخة التي كان يتحلى بها القادة ، وأولئك العلماء الأعلام الذين كانوا وراء أولئك القادة، جعل القادة الفاتحين والمنتصرين يقودون رجالهم من (الأمام)، يقولون لهم: "اتبعونا"، ولا يقودون رجالهم من (الخلف)، يقولون لهم "تقدموا إلى الأمام"، ثم يستأثرون بالأمن والدعة والراحة.

والقائد الذي يثبت أمام الأعداء، يثبت رجاله أعظم الثبات، والقائد الذي يهرب من الميدان يسبقه جنوده في الهروب إلى ساحة الأمان.

وقد كان جيش الألمان في الحرب العالمية الثانية في الجبهة الإفريقية ضعيفا مندحراً، فأصبح بقيادة المشير رومل قوياً منتصراً.

وكان الجيش الثامن البريطاني في الحرب العالمية الثانية في شمال إفريقيا قبل تولي المشير مونتكومري قيادته جيشاً منهزماً، فأصبح بقيادة مونتكومري جيشاً مظفراً.

إن فضائل القائد تنتقل إلى رجاله بالعدوى، كما أن رذائله تنتقل إليهم بالعدوى أيضاً، لذلك كان اختيار القائد العقيدي خدمة للجيش والأمة والبلاد.

وتولي قائد تافه مقاليد القيادة، من مصلحة العدو ما في ذلك أدنى شك.

ولعل اختيار القائد العقيدي الذي يتسم بصفات القيادة الأخرى ضرورة حيوية للعرب والمسلمين - خاصة في مثل هذه الأيام.

واختيار القائد غير الملتزم بالعقيدة الراسخة، مهما تكن صفاته القيادية الأخرى، من مصلحة العدو أيضاً دون ريب.

وقد جرّب العرب والمسلمون في ظروف مختلفة ومناسبات شتى، قادة لا عقيدة لهم فكان ضررهم أكبر من فائدتهم، وكان هدمهم أكثر من بنائهم، على الرغم من تيسر بعض الصفات القيادية المتميزة في قسم منهم.

فقد استطاع هؤلاء تكديس الأسلحة، ونجحوا في القضايا المادية، ولكنهم أخفقوا في (بناء الرجال)، ونجحوا في (تحطيم الرجال)

وكانت النتيجة أن الأسلحة الضخمة والأعداد الهائلة من الجنود، لم تُجْدِ نفعاً حين التقى الجمعان.

إن الجيش ليس كتلاً ضخمة هائلة من البشر والسلاح، بل لا بد أن تكون المعنويات العالية التي هي العقيدة الراسخة إلى جانب السلاح والبشر، ليكون جيشاً حقاً، وإلا فسيبقى جيشاً من قوارير ... ولا أزيد ... ثم إن قادة إسرائيل متمسكون بالعقيدة الصهيونية التي هي عبارة عن الدين اليهودي والقومية اليهودية.

والعقيدة لا تقاوم إلا بعقيدة أصلح منها وأفضل، لها مقومات البقاء، لأن البقاء للأصل، وتلك هي سنة الحياة.

والتمسك بعقيدة فاسدة، أفضل من عدم التمسك بأية عقيدة.

وقد انتصرت إسرائيل بالعقيدة اليهودية على العرب الذين تخلوا عن عقيدتهم، وهكذا انتصرت العقيدة الفاسدة على من لا عقيدة لهم، وتلك هي سنة الحياة أيضاً.

قال هيرتزل في خطابه الافتتاحي الذي ألقاه في المؤتمر الصهيوني الأول عام (1897م) المعقود في مدينة (بال) السويسرية: "الصهيونية هي العودة إلى حظيرة اليهودية قبل أن تصبح الرجوع إلى أرض يهود".

في جيش إسرائيل حاخامات على رأسهم حاخام الجيش الأكبر، وهم يتمتعون بسلطات دينية في الجيش لا نظير لها في الجيوش العالمية الأخرى.

وفي جيش إسرائيل تُجرى مسابقات سنوية في التوراة دراسةً وحفظاً وتفسيراً، يكرّم المتفوقون فيها أعظم التكريم وينالون أغلى الجوائز.

كما أن الجيش الإسرائيلي يقيم الشعائر الدينية عند حائط المبكى، وأفراد سلاح المظلات الإسرائيلي يؤدون قَسَم الولاء لإسرائيل عند هذا الحائط: يحملون البندقية بيد والتورات بيد أخرى.

ولست أستطيع أن أفهم، كيف يستسيغ عربي أو مسلم يتمتع بكامل عقله، ويدّعي الإخلاص لأمته، أن العقيدة الإسلامية تتناقض مع القيادة، وأنها لا تقود إلى النصر.

إن تعاليم الإسلام، تُعِدُّ المسلم ليكون جندياً متميزاً في جيش المسلمين، وتزوّده بإرادة القتال، وتكوّن جيشاً لا يُغلب من قلة أبداً.

وحين تمسّك المسلمون بهذه التعاليم، في حياة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام وأيام الفتح الإسلامي العظيم، بهروا العالم بإنجازاتهم العسكرية الفذة، وثلُّوا عرش كسرى وزعزعوا عرش قيصر وحملوا رايات المسلمين شرقاً وغرباً من نصر حاسم إلى نصر حاسم.

وقد أثبت الباحثون المسلمون وغير المسلمين أيضاً، أن انتصارات المسلمين يومذاك كانت انتصارات عقيدة بدون أدنى شك."([1])

 

 


[1] )  بين العقيدة والقيادة محمود شيت خطاب دار الفكر الطبعة الأولى بيروت 1392-1972 ص 473-488 باختصار 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين