التجديد والاجتهاد في الفقه السياسي

 

 

 -1-

 

من المعروف أنّ الفقه إنما هو اجتهاد بشري مَبنيّ على فهم النصوص الشرعية وتكييفها مع الواقع، فهو تفاعل بين ثلاثة عناصر: "النص" و"فهم الفقيه" و"طبيعة الواقع"، وإذا تغير أيٌّ من هذه الثلاثة فيمكن للحكم الفقهي أن يتغير. فأما النصوص فإنها أصل ثابت لا يتغير، وأما الفهم فإنه يتغير بتغيّر الفقيه الذي يستنبط الحكمَ من النص، أو بتغيّر طريقة استقرائه واستنباطه، وكذلك يتغير الواقع بين حين وحين. ومن هنا قرر الفقهاء أن الفتوى تتغير بتغير الحال والزمان والمكان.

 

من أجل ذلك كان من واجبات العلماء في كل عصر أن يعيدوا قراءة الواقع المتغير، وأن يجدّدوا دراسة النصوص الشرعية في ضوء الواقع الجديد، ثم يجتهدوا لتقديم أحكام جديدة للواقع المستجد، أو يجتهدوا في تعديل الأحكام القديمة لتناسب الواقع المتغير. وقد غدا هذا الاجتهاد من أشد الضرورات في الزمان الأخير بسبب التسارع الهائل في تغيّر الواقع.

 

-2-

 

ولئن كان التجديد والاجتهاد مندوبَين في أبواب الفقه كلها فإنهما يكادان يكونان واجباً متعيّناً في باب السياسة الشرعية على التخصيص، وذلك لثلاثة أسباب على الأقل؛ أولها أن أكثر أحكام هذا الباب بُنِيَ على واقع سياسي عاشه الأقدمون ولم يعد كثيرٌ منه اليومَ كما كان.

 

الثاني: أن هذا الباب يكاد يكون أقلّ أبواب الفقه اعتماداً على النصوص، فهو قائم في معظمه على مجموعة من المبادئ العامة التي يتسع فيها مجال الاجتهاد، وعلى اجتهادات وممارسات تاريخية للصحابة والخلفاء في العصر الراشدي، وهي بحاجة إلى تحرير لتحديد: ما الذي يُعتبَر منها تشريعاً بإجماع الصحابة، وما الذي يُعتبر اجتهاداً خاصاً بوقته وظروفه؟ أو كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين: "هذه السياسة التي ساسوا بها الأمة هي من تأويل القرآن والسنّة، ولكنْ هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، أم هي من السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زماناً ومكاناً؟"

 

السبب الثالث (ولعله الأهم بإطلاق) هو أن أكثر الأحكام في باب السياسة الشرعية دُوِّنَت في عصور التغلب والملك العَضوض التي فقد فيها العلماءُ الحريةَ الفكرية وعاشوا تحت سيوف السلاطين، فنشأ من ذلك خوفٌ وضعف ترك أثرَه السلبي في كثير من أحكام هذا الباب، التي كُتبت بما يوافق الواقعَ ويبحث له عن المبررات الشرعية، وليس بما يوافق المثالَ الإسلامي العالي الذي كان ينبغي أن يكون هو الأساسَ والمقياس.

 

-3-

 

إن الواقع الذي تعيشه الأمة اليومَ غيرُ مسبوق، من حيث طبيعته السياسية وقوانينه الدولية، ومن حيث حالة الأمة المستضعَفة وفقدانها لكياناتها السياسية المستقلة وللدولة الإسلامية الجامعة. هذا الواقع الجديد يحتاج إلى إعادة تعريف كثير من المصطلحات القديمة، وإلى تعديل الأحكام المتعلقة بالأحوال المتغيرة، واستنباط أحكام جديدة خاصة بالأحوال الحادثة.

 

عندما نتأمل التعريفات القديمة نجد أن كثيراً منها لم يعد صالحاً في عالم اليوم. ولن أحاول الاستقصاء فإنه يطول، بل أكتفي بضرب مثال واحد يُغني عن سواه، وهو تقسيم العالَم إلى "دار الإسلام" و"دار الحرب" اللتين بُنيَ على تعريفهما كثيرٌ من الأحكام.

 

إن دار الحرب التي يتحدث عنها الأقدمون لم تعد موجودةً اليومَ بصفتها التي عرَفوها وعرّفوها، ودار الإسلام لم تعد دارَ إسلام بالمعنى القديم، لأن من شروطها أن يكون المسلم فيها آمناً على نفسه ودينه، كما أن من أظهر خصائص دار الكفر أن المسلم فيها يخشى على نفسه ودينه. من أجل ذلك كره الفقهاء للمسلم أن يسافر بالمصحف إلى بلاد الكفار لكيلا يُهان مصحفه، وكرهوا له المُقامَ فيها خوفاً على سلامته ولئلا يُكرَه على ترك دينه، إلى غير ذلك من أحكام مبسوطة في مواضعها.

 

ثم دار الزمان نصف دَورة، فصار المسلمون أكثرَ أمناً في بلاد الكفار منهم في بلادهم، وصارت الحرية الدينية في كثير من تلك البلاد أوفرَ منها في كثير من بلاد المسلمين، فوجدنا أن الملايين من المسلمين هربوا بدينهم من بلادهم إلى تلك البلاد، أي أنها صارت "دارَ أمان" وصارت بلدانُنا "دارَ خوف". فهل يُعقَل أن يستمر وصف تلك الدول بدار الحرب مع كل ما يترتب على هذا التوصيف، اعتماداً على التصنيف القديم: "دار الحرب هي الدار التي تجري فيها أحكام الكفر ويكون السلطان فيها للكفار، ودار الإسلام هي الدار التي تجري فيها أحكام الإسلام وتكون القوة فيها للمسلمين"؟

 

-4-

 

إن كثيراً من أحكام السياسة الشرعية بحاجة إلى مراجعة وتجديد، لكن هذا جزء يسير من الإصلاح المطلوب في هذا الباب فحسب، فهو يحتاج -بعدُ- إلى التكميل والترميم، لأن المفقودَ فيه أكثرُ من الموجود، حتى على صورته القديمة التي لم تعد صالحة في عالم اليوم.

 

إننا نلاحظ -عندما نقارن باب السياسة الشرعية بأبواب العبادات والمعاملات- تقزّمَ باب السياسة مقارَنةً بتضخّم سائر أبواب الفقه. سوف نجد أن أحكام العبادات والمعاملات مفصَّلةٌ تفصيلاً شديداً لا يكاد يسمح بأدنى نقص أو خطأ، ثم نفاجَأ باختزال الكثير من مسائل السياسة الشرعية وخلوّها من التفاصيل.

 

يكفي أن نقرأ ما ورد في باب البيوع على سبيل المثال: العاقد والعقد والمعقود عليه والإيجاب والقبول واتحاد مجلس العقد وشروط النفاذ وشروط صحة البيع وشروط لزوم البيع والبيع الباطل والفاسد... إلى غير ذلك من الفروع وفروع الفروع من دقائق المسائل وتفصيلاتها. فإذا انتقلنا إلى باب الإمامة وسائر أبواب السياسة الشرعية فلن نجد معشار تلك التفصيلات والتفريعات، وسوف نستنتج -حَزَانَى آسفين- أن علماءنا اهتموا ببيع بيت أو دابّة (فما دونهما) أكثرَ من اهتمامهم بمصير الأمة كلها بما فيها من ملايين، بل مئات الملايين من المسلمين!

 

-5-

 

إننا نواجه اليوم أسئلة كثيرة لا يجيب عنها فقهُنا القديم، ولا بدّ لها من اجتهاد وتجديد. ففي نظام الحكم تواجهنا أسئلة من نوع: كيف يُختار الإمام؟ هل تستمر ولايته حتى الموت أم تُحدَّد بمدة زمنية؟ كيف نطبق مبدأ الشورى في الحكم؟ كيف نختار أهل الحل والعقد؟ ماذا عن الأحزاب السياسية وتداول السلطة؟ كيف نضمن عدالة القضاء واستقلاله ونحميه من هيمنة السلطة التنفيذية؟

 

وفي الجهاد نحتاج إلى مراجعة شاملة لأحكام جهاد الطلب، ونحن بحاجة أيضاً إلى مراجعة أحكام الهدنة والعهود والمواثيق والاسترقاق وعقد الذمة وأحكام الجزية والأحكام المتعلقة بدار الحرب على العموم. أما الأحكام المتعلقة بإمامة المتغلب فأحسبُ أنها ينبغي حذفها بكاملها، من الباب إلى المحراب، والاستعاضة عنها بباب جديد هو "فقه الثورة" (كما سمّاه الفقيه المقاصدي ذو الاجتهادات الواسعة والبحث التجديدي في الفقه السياسي، الدكتور أحمد الريسوني).

 

ثم إن من أكبر التحديات التي تواجه الفقه السياسي الإسلامي المعاصر التعامل مع حالة الدولة القُطْرية التي وُلدت في العصر الأخير ولم تكن في الأزمنة السابقة، فقد نشأت معها مشكلات لم تكن في الماضي، كحالة المواطَنة، والحقوق الدينية والثقافية المتساوية للأكثريات والأقليات، بما فيها حرية العبادة وحرية الدعوة. مع ملاحظة أن أيّ تقنين لوضع الأقليات غير المسلمة في بلدان المسلمين لا بدّ أن ينعكس على وضع الأقليات المسلمة في البلدان غير الإسلامية، وهنا نحتاج إلى استعمال مكثف لفقه المصالح والموازنات لاختيار ما يصلح للأمة، ليس في بلدان المسلمين فحسب بل في العالم كله.

 

-6-

 

المحزن أن أكثر الذين يكتبون في السياسة الشرعية اليوم ما يزالون عالة على الماوردي، صاحب كتاب "الأحكام السلطانية" الشهير، مع أنه كتبه في ظروف سياسية عصيبة تأثر بها واضطُرّ إلى مسايرتها، فقد عانت الخلافة العباسية في زمانه من الضعف والتفكك وظهور الدويلات المستقلة وتسلط البويهيين الشيعة على مركز الحكم في بغداد، فاضطر إلى مجاراة ذلك الواقع الكئيب فيما كتبه عن ولاية العهد وشروط الوزارة وإمارة الإستيلاء، مسوِّغاً أموراً واقعة لم يجد قدرةً على مغالبتها ومدافعتها. وماذا يستطيع أن يكتب مَن يعيش تحت سلطان تلك الدولة؟ إنه لن يملك من الجرأة أكثر مما سيملكه أي فقيه سياسي يكتب في السياسة الشرعية وهو تحت حكم الأسد في سوريا أو القذافي في ليبيا أو صدام حسين في العراق.

 

إننا نقبل اليوم ما كتبه الأقدمون في السياسة الشرعية بلا مساءلة، ويرى كثيرون أن استشهادهم بآراء الماوردي وأبي يعلى والجويني وابن تيمية والآمدي وابن خلدون وابن فرحون في السياسة الشرعية كافٍ لإقامة الحجة، على الرغم من أن أولئك الفقهاء كانوا مجتهدين، وأن أكثر أحكامهم اجتهاد مطلَق لا يكاد يستند إلى نصّ صريح صحيح تصحّ المحاججة به والركون إليه، وأن في بعض ما اختاروه غرائب لا يقبلها عقل، كقولهم أن الواحد يكفي لعقد الإمامة العظمى، وهو اختيار أبي الحسن الأشعري والباقلاني وابن حزم وغيرهم من الفقهاء، حتى قال القلقشندي في "مآثر الأناقة": "لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع كفى".

 

أي أن أيّ رجل عَدْل من قرّاء هذه المقالة يملك أن يبايع رجلاً يتوسّم فيه الخير فيصبح إماماً لألف مليون مسلم! أرأيتم أعجبَ من هذا الرأي وأبعدَه عن الصواب!

 

-7-

 

إن الواجب الذي يحمله علماء الأمة اليوم عظيم، فإن عليهم أن يَنْقضوا باب السياسة الشرعية كاملاً ثم يعيدوا بناءه على أساس صحيح، مُهتدين بالنصوص الشحيحة والقواعد الكلّية والمقاصد العامة للشريعة، لأن أكثر ما دوّنه الفقهاء في هذا الباب دوّنوه -كما قلت آنفاً- في عصور التغلب والمُلْك العضوض، في ظروف سياسية وأمنيّة جعلتهم أَسارَى للواقع العليل. ولأن أكثر مسائل هذا الباب ظنّية مَبنيّة على النظر والاجتهاد، وهو أمر قرره إمام الحرمين الجويني في "الغياثي" فقال: "إن معظم مسائل الإمامة عَرِيَّة عن مسلك القطع خليَّة عن مدارك اليقين"، وأكده الغزالي في "المستظهري" فقال: "أكثر مسائل الإمامة وأحكامها مسائل فقهية ظنية يُحكَم فيها بموجب الرأى الأغلب".

 

لقد وقعَت في هذه المشكلة أجيالٌ سابقة فقابلَتها بجرأة وشجاعة وبحثت عن الأجوبة الجديدة للمسائل الجديدة، فها هو الجويني يفترض في كتابه العظيم "غياث الأمم" حالة شاذة ويضع لها الحلول، وهي حالة انعدام الإمام وحالة غياب الأئمة المجتهدين وحالة خلوّ الزمان عن أصول الشريعة. وها هو ابن تيمية يبحث حالة البلدان الإسلامية التي احتلها التتار الكفار وحكموها بغير شريعة الإسلام، فينتهي إلى أنها ليست دار إسلام وليست دار حرب، فلا يصحّ أن نطبق عليها أياً من أحكامهما، بل هي صنف ثالث يجمع بين الصنفين.

 

وما هذا وهذا إلا مثالان من عشرات، بل مئات من الحالات التي تحلّى فيها فقهاؤنا الأقدمون بالجرأة فاشتقوا أحكاماً جديدة لنوازل حادثات، ولو شئت الاستقصاء لطال المقام. فإذا كان اجتهاد أولئك الفقهاء الكبار مقبولاً عندنا اليوم فمِن باب أَوْلى أن يُقبَل اجتهادُ غيرهم من علماء العصر الذين يدركون ظروفه وملابساته، وهي من الحادثات والنوازل التي لم تكن في الأزمنة الماضية. فهل نجد في علماء العصر ومَجَامع الفقه والفتوى من يتصدّر لهذه المهمة الجليلة النبيلة، أم سيبقى فقهنا السياسي المعاصر عالة على فقهاء الزمان القديم؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين