
حين
نزل جهاز الـ navigator (أو كشّاف الطرق) لأوّل مرّةٍ إلى السوق قبل عقدين أو أكثر من
السنين؛ قرّرت أن أستعيره يوماً من جاري كي يرشدني في رحلةٍ لي من مدينة أوكسفورد
لزيارة صديقٍ في الشمال البريطانيّ.
بعد
نصف ساعةٍ من بداية الرحلة، وعند مفترق طرقٍ أمامي، هتف بي الجهاز الكشّاف: خذ
أوّل يمين، ففعلت، وتابعت قيادتي، لكنّه عاد خلال ثوانٍ فهتف: خذ أوّل يمين، ففعلت
وانحرفت يميناً، وللمرّة الثالثة عاد فهتف بي خلال ثوانٍ: خذ أوّل يمين! فقلت في
نفسي: لا بدّ أنّ خطأً ما قد حصل في الجهاز فهو يكرّر العبارة نفسها وبهذا الرتوب
السريع! فقرّرت ألّا أعيرَ أذناً لتعليماته المضطربة وأن أتابع القيادة إلى
الأمام، وإذا بي أجد نفسي أمام طريقٍ مسدود والكشّاف يهتف بي: نعيد الحساب من جديد (recalculating)! حينئذٍ فقط تذكّرت
أنّ الكشّاف يَرى من السماء، وبعيون الأقمار الصناعيّة، ما لا أرى، ويعرف ما لا
أعرف، وإن أوهمني غروري وجهلي بعكس ذلك.
ذكّرني
هذا بغرور الإنسان وجهله، وبتمرّده المتعجرف على أحكام ربّه، الخالق الذي يعرف من
أسرار جسدنا وطبيعتنا وخَلقِنا، ويرى مِن فوقنا ومِن تحتنا ومِن حولِنا، ما لا
ندركه ولا نراه، نحن الضعفاء على هذه الأرض.
عندما
يتناقض قانون الأرض، في بلدٍ يسوده أتباع إحدى الشرائع السماويّة، مع قانون السماء
الذي نصّت عليه كتب هذه الشرائع، فأيّهما يحتمل أن يكون هو الصحيح؟ وكيف نوفّق بين
المتناقضَين؟ ألا يشعر الإنسان، في أيّ بلدٍ من هذه البلدان، بأنّه أصبح ممزّقاً
بين قانونين متناقضين: قانونٍ يَدين به كعقيدة، ويؤمن حقّ الإيمان أنّ من وضعه هو
خالقٌ لا يخطئ، ولا بدّ أن يكون هو القانون الأصحّ، والأكمل، والمنزّه عن الخطأ،
والمُصلِح لحياته وحياة من حوله، وقانونٍ آخر مخالفٍ، صاغه مخلوقٌ يخطئ ويصيب
مثله، وفُرض عليه فرضاً؟
ما
مسوّغات هذا التناقض؟ أهو عدم الإيمان بصحّة ما جاء في هذه الكتب؟ أم هو عدم
الإيمان بحكمة مصدرها السماويّ؟ أم هو انعدام الثقة به وبقوانينه، وعدم الإيمان
بحبّه وكرمه وكماله وسلامة نواياه نحو أتباعه؟ أم هو الاعتقاد بأنّ هذا الإله قد
أحيل إلى التقاعد في عصرنا هذا نظراً لكبر سنّه، وأنّه كان يوماً ما إلهاً
للأقدمين، يكافئهم، ويعاقبهم، ويرسل عليهم الطوفان، ويخسف بهم الأرض، ويمطرهم
بحجارةٍ من نار، ثمّ لم يعد له شأنٌ بمخلوقات القرن الحادي والعشرين؟
هل
هناك تفسيرٌ منطقيٌّ أو علميٌّ آخر بديلٌ لهذه التفسيرات؟ وإلاّ؛ فكيف نفهم هذه
الإشكاليّة المحيّرة لنا، ولعقلِنا، وللعلم، وللمنطق السليم؟
* * *
واليوم،
مَن يحمي الرجل من إغراءات عرض المرأة لجسدها أمامه في الشارع إذا لم يَحمِه
القانون؟
قد
لا يجد المرء مندوحةً هنا عن أن يتساءل، بكلّ براءةٍ وصدقِ نيّةٍ وإخلاص، وأن
يتشوّف للحصول على جوابٍ موضوعيٍّ وعلميٍّ ومقنعٍ لتساؤله: لماذا نحاكِم مَن
يتلذّذ من الرجال المنحرفين بعرض عوراتهم على جاراتهم، ثمّ لا نحاكم من يستمتع من
النساء بعرض أجسامهن، ليس على جيرانهنّ وحدهم، بل على كلّ الرجال، وأمام جميع
الناس، وتحت أعين القانون، عرضاً إجباريّاً لا تستطيع عيون هؤلاء أن تتجنبه،
لكثرته وشموله واتّساعه: مِن أمامِهم، ومِن خلفهم، وعن يمينهم، وعن شمالهم؟ فإنْ
كابَرَ أحدُهم، وصمّم على مقاومة إغراءاتهنّ، وتذكّر قوله تعالى له:
- قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
[النور: 30]
فارعوى،
وأراد أن يقاوم جاذبيّة وجوههنّ، وسِحرَ جدائلهنّ، وفتنة أعناقهنّ وانكشافِ
صدورهنّ، فغضّ بصره، وخفض نظره إلى أسفل، كانت الفتنة عليه أعظم وأشدّ!
ترى،
لو خلا الشارع من الرجال، ولم يكن فيه إلّا النساء، فهل كانت نفوس هؤلاء النسوة
ستحدّثهنّ بالتباري في إظهار أجسامهنّ العارية لبنات جنسهنّ أيضاً، وبالحماسة
نفسها؟
إنّنا
لا نجد ما يفسّر لنا تبذّل المرأة واستعراضَها لجسدِها في الشارع؛ إلّا أحد هذه
الدوافع غير البريئة، بل غير القانونيّة، حتّى تبعاً لقوانين الأرض، بَلْهَ قانون
السماء:
1- تبادلِ
الجنس البَصَريّ مع الرجال عن طريق استمتاعها باستمتاعهم بعرض جسدها عليهم، شأنها
شأن الذي يتعرّى في النافذة أمام جارته، مع فارقٍ واحد: أنّه في حالته جنسٌ
فرديٌّ، وفي حالتها جنسٌ جماعيٌّ.
2- أو
التلذّذ والانتشاء والمفاخرة على الأخريات بعدد التعليقات التي تتناهى إلى أسماعها
من الرجال، ونجاحِها في شدّ أنظارهم إليها أكثر من غيرها.
3- أو
دعوةٍ رخيصةٍ ومبتذلةٍ وصارخةٍ للرجل أنْ: هَيتَ لك، فماذا تنتظر؟
4- أو
تحدٍّ متعمَّدٍ وشامتٍ للرجال أنْ: هأنذا أمامكم، فمن يجرؤ على أن يمدّ يده إليّ
ولو بلمسة، أو يتناولني بلسانه ولو بكلمة؟
5- أو
تقليدٍ أعمى للأخريات اللواتي سبقْنَها إلى ذلك.
أو
كلّ هذه الدوافع معاً! هل عندكم اقتراحاتٌ أخرى أكثر قبولاً ومنطقيّةً لتفسير هذا
التبذّل؟
لو
كنّا منطقيّين مع أنفسنا، ورجعنا إلى ضمير المرأة المتبذّلة، لوجدنا أنّ عَرضها
لجسدها في الشارع؛ لا يعدو عملاً جنسيّاً "إرغاميّاً" تمارسه ضدّ الرجل،
من غير أن يكون له الحقّ في الاعتراض، أو في رفع شكوى ضدّها، أو، لولا خشية
القانون، في التلفّظ بكلمةٍ جنسيّةٍ خارجةٍ قد تَنفلت منه كردّة فعلٍ عفويّةٍ على
التحدّي الذي أمامه، فيكون شأنه شأن من قيل فيه:
ألقاهُ في اليمِّ
مكتوفاً وقال لهُ:
*** إيّاكَ إيّاكَ أنْ
تبتلَّ بالماءِ!
إن
لم يكن هذا تعذيباً ساديّاً متعمّداً ومخطّطاً له ضدّ الرجل، بالتواطؤ بين المرأة
والقانون، فماذا نسمّيه إذن؟
إنّه
لأمرٌ يبعث على الاطمئنان والشعور بالأمان لدى الناس؛ عندما تفرض الدولة قوانينها
التي تتعلّق بحمل السلاح، من سكاكين ومسدّساتٍ وبنادق، في سبيل حماية أمن المواطن
من سوء استعمالها على أيدي المنحرفين والمجرمين، لأنّ وجودها في أيديهم سيغريهم
باستخدامها ضدّ الأناس الآمنين. ولكن من قال إنّ جسد المرأة، عندما يُعرض هكذا
عارياً أمام المنحرفين وضعفاء النفوس، بل ربّما أمام الأسوياء أيضاً، لن يؤدّي بهم
إلى الخروج عن طورهم وارتكاب جرائم الاعتداء والاغتصاب، وما أكثرها في مجتمعاتنا؟
لو
حدث أن تجرّأ صاحبُ مطعمٍ وعرَضَ أمام محلّه على الرصيف لحماً مشويّاً تفوح رائحته
الشهيّة في كلّ مكان، فاجتذب القططَ الجائعة، واختطفت إحداهنّ قطعةً منه وهربت
بها، فهل يحلم أن تعوّضه شركات التأمين عن اللحم المفقود؟
وإذن
كيف نسمح للنساء بعرض لحوم أجسادهنّ في الطريق، وبنشر روائح عطورهنّ المغرية على
المارّة، والقطط الجائعة تجول من حولهنّ في كلّ مكان؟
ولو
ترك ثريٌّ باب بيته مفتوحاً، ووضع مجوهراته ومقتنياته الثمينة على المدخل ليفتخر
بها ويراها كلُّ الناس، فكان أن سطا عليها اللصوص، وربّما فتكوا بصاحبها، فهل
ستعوّضه شركاتُ التأمين، أو تعوّض الورثة عن الخسائر؟
وإذن،
كيف نسمح لكنوز جسد المرأة أن تُعرض على القاصي والداني، ثمّ إذا ما مدّ أحدٌ يده
أو لسانه إليها؛ تَذكّرْنا القانون، وجأرنا بالاحتجاج، وعاقبناه بأقسى العقوبات؟
مَن سيكون الأَولى بالعقوبة في هذه الجريمة المزدوجة الأطراف؟
لنحاول
إدخال حالةٍ من حالات التبذّل إلى مخابرنا العلميّة، فندرس كيف تتجرّأ فتاةٌ منذ
البداية على التبذّل أمام الرجال، جميع الرجال، ليس في نادٍ ليليٍّ، ولا على شاطئ
البحر، ولا في مناسبةٍ خاصّةٍ كانتخاب ملكةٍ للجمال، بل تفعل هكذا كلّ يوم، وفي
عرض الطريق، وعلى أعين الرائح والغادي، والصغير والكبير!
في
أوائل العقد الثاني من عمرها، عندما تظهر على جسد الفتاة علامات الأنوثة الأولى،
سوف تلاحظ، طبعاً، أنّ عيون الرجال بدأت تتّجه إليها! قد لا تدرك في أوّل الأمر ما
وراء نظراتهم واهتمامهم، ولكنّها، مع الوقت، لن تلبث أن تكتشف أنّ الهدف من هذه
النظرات ليس عقلها، ولا عبقريّتها، ولا تفوّقها بميزةٍ ما على غيرها من الفتيات،
وإنّما هو أمرٌ ليس لها فيه أيّ يد: إنّها أنثى!
ولأنّها
إنسانةٌ ضعيفةٌ، كأيّ إنسان، وما زالت أصغر من أن تمتلك الحكمة الكافية لتحمي
نفسها من التبعات المستقبليّة لهذا الذي يجري من حولها، حين يتطوّر أمر النظرات
إلى أبعد من ذلك، تقول لنفسها: إذا كانوا مأخوذين بجسمكِ لهذه الدرجة، فإلى أيّة
درجةٍ ستصل ردّة فعلهم لو تجرّأتِ أكثر، وكشفتِ لهم المزيد من أسرار هذا الجسم؟
وهكذا
ينمو لدى هذه الفتاة الصغيرة موجاتٌ متواليةٌ من النوازع المنحرفة في التحدّيات
الجسديّة المتدرّجة والمثيرة للرجال، ولكلّ تحدٍّ منها متعته الآنيّة الجديدة.
فكشفُ جزءٍ من جسدها هذا العام قد ضَمِن لها أرقاماً لم تتوقّعها أبداً من نظرات
الرجال، فتقول في نفسها: ما دمت أرى من حولي فتياتٍ أخرياتٍ تجاوزنني في كشف
المزيد من أجسادهنّ، فلأنتقل إذن إلى الخطوة الأكثر جرأةً، والأكثر استقطاباً
لنظراتهم..
وهكذا،
وفي سباقٍ مستمرٍّ مع الشيطان، تمارس الفتاة جرأة التبذّل موجةً إثر موجة، لتنمو
هذه الأمواج المتسارعة، وتتحوّل إلى تسونامي تكاد لا تَدَع أمامها شيئاً مما
تأمرها به السماء، ولا الفطرة الإنسانيّة، ولا أبسط المبادئ الأخلاقيّة المتعارف
عليها بين البشر، إلّا أتت عليه، ويصبح طريقُ العودة أمامها شبه مستحيل، ويضيع
المستقبل الذي كان يُرجى لها، كأنثى يمكن أن يتقدّم إليها رجلٌ أمينٌ يتزوّجها،
لتبْني معه أسرةً تُحقّق لها حلم كلّ فتاةٍ في هذه الحياة.
نعم،
لقد نجحتْ في استقطابِ أنظارِ الرجال من حولها، وربحت الجولة التكتيكيّة السريعة
والمؤقّتة معهم، ولكنّها خسرت الجولة الإستراتيجيّة، والنهائيّة، فأخفقت في أن
تظفر بزوجٍ، وفي أن تكون أمّاً، وفي أن تبني أسرةً.
لقد
أقامت السماء، كما تؤكّد شرائعُها الثلاث، التوازن بين الجريمة والعقاب، فأمرت
المرأة بالتحجّب وعدم التبرّج أو إظهار زينتها للرجال، بقدر ما أمرتِ المؤمنين
بالعفّة، وغضّ البصر، والتحلّي بالصبر والإيمان، بل فرضت العقوبة على الرجل إذا
تحرّش بها، بعد ذلك، أو اعتدى عليها بطريقةٍ أو بأخرى:
- 31 وَقُلْ
لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ.. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ
مِنْ زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]
- زِنَى الْمَرْأَةِ فِي
طُمُوحِ الْبَصَرِ، وَيُعْرَفُ مِنْ جَفْنَيْهَا [سِفر يشوع بن سيراخ: 26: 12]
- الْمَرْأَةُ الْحَيِيَّةُ
نِعْمَةٌ عَلَى نِعْمَةٍ [سِفر يشوع بن سيراخ: 26: 19]
- 1 وكذلكَ
أنتنّ أيّتها النساء، اِخضعنَ لأزواجكنّ، حتّى إذا كان فيهم مَن يرفضون الإيمانَ
بكلامِ الله، استَمالَتْهم سيرتُكنَّ من دونِ حاجةٍ إلى الكلام، 2 عندما يَرون ما
في سِيرتِكنَّ من عفافٍ وتقوى. 3 لا تكنْ زينتُكنَّ خارجيّةً بضَفرِ الشعرِ
والتحلّي بالذهبِ والتأنُّقِ في الملابس، 4 بل داخليّةً بما في باطنِ القلبِ مِن
زينةِ نفْسٍ وديعةٍ مطمئنّةٍ لا تَفسُد، وثمنُها عندَ اللهِ عظيم. [بطرس 1: 3:
1-4]
ومن
حقّنا أن نستغرب، بل أن نتشكّك، ونحن نرى قوانين بعض الدول وقد تجاهلت هذا التوازن
السماويّ بين الجريمة والعقاب، حين سمحت للمرأة بعرض كنوز جسدها، وغضّت النظر عن
ممارستها لأقصى التعدّيات والتحدّيات والإغراءات بحقّ الرجل، ثمّ نجدها، في الوقت
نفسه، تفرض على الرجل أقصى العقوبات إذا خسر في هذه التحدّيات، وبدر منه ما يخدش
"عفّة" هذه المرأة أو "حياءها" ولو بكلمة!
وبغضّ
النظر عن فعالية القانون وعقوباته، وعن موقفه المتأرجح، بين السماح للنساء
بالتبذّل في الشارع واستثارة الرجال، وبين إنكاره لحقّ الرجل في الاحتجاج على هذه
التحدّيات، وعلى التعذيب والقهر والإحباط التي تُمارَس ضدّه، بغضّ النظر عن كلّ
هذا وذاك، ما الفائدة التي يمكن أن تجنيها المرأة حين تجعل من كنوز جسدها الثمينة
سلعةً مجّانيّةً تتخطّفها أعين الرجال في كلّ مكان؟ هل هناك إلّا الخسائر تلو
الخسائر، لها وللآخرين؟
ومهما
أحصينا من خسائر لهذا التبذّل؛ فلن تعدل كلّها تلك الخسارة الكبرى، في أنّ المرأة،
بمثل هذا التعرّي، تفقد شخصيّتها كإنسانة، فتتحوّل إلى "شيءٍ" أو
"سلعةٍ" أو "أداةٍ" جنسيّةٍ لا أكثر، لتكون وسيلة استمتاعٍ في
الشارع، وأداةً تجاريّةً في الإعلان، وأداة استهلاكٍ في أماكن الترفيه، أيّ شيء
إلّا أن تكون أداة إنتاجٍ أو إبداعٍ أو عطاء، أو زوجةً صالحةً، أو أمّاً صانعةً
للرجال.
يختصر
لنا المقطع التالي من كتاب كاثرين بولوك؛ الآليّة التي يتمّ بها
"تَشْيِيءُ" المرأة في الغرب وتحويلها عن إنسانيّتها إلى مجرّد جسد:
"قامت كلٌّ من سوزي
أوباك، وسوزان بوردو، ونعومي وولف، وجين أوشر، وكاثرين ماكينون، وأ. دورْكن،
وكثيراتٌ من النسويّات غيرهنّ، بتحليلٍ تفصيليٍّ لصور النساء في الثقافة الغربيّة.
كما درسْنَ مشكلة تَشْيِيء الجسد الأنثويّ، واستخدامه في الإعلان، والصور،
والأفلام الجنسيّة، والرسم، والأفلام السينمائيّة، وغيرها (حيثما وُجدت صورةٌ
للجمال الأنثويّ). والمقولة الرئيسة هنا: إنّ أجساد النساء تُقدَّم بصورةٍ تُرضي
نظرة الذكور الطبيعيّة وشهوتهم: فالمرأة جميلةٌ، وجسدها مثيرٌ جنسيّاً. وفي
اللوحات الفنّية، لا سيّما أشكال الجسد الأنثويّ العاري، وفي الصور الجنسيّة،
كثيراً ما تكون المرأة سلبيّةً، وغالباً مستلقية، وتُقَدَّم بوصفها متاعاً،
ليأخذها الرجل (أو تطلب من الرجل بإلحاحٍ أن يستخدمها). ففي حالة الصورة أو الفيلم
يكون الأخذ بصريّاً، ولو أنّ بعض النّسويّات يَقُلن: إنّ هذا التشْيِيء البصريّ له
آثاره في عالم الواقع، أي إنّه يصوغ النساء كأشياء للاستخدام الجنسيّ (الذكريّ).. ولا
توجد – في المجال الإعلانيّ
– أي علاقةٍ بين المُنتَج
المَبِيع وجسد المرأة المعروض للإثارة الجنسيّة. فالجسد يقدَّم لمجرّد جذب الانتباه،
كما أنّه يثير الرجال، ويعزِّز درسَ كون أجساد النساء مجرّد أشياء. وهذا النوع من
التَّشْيِيء، حسب قول النّسويّات، يَنزع عن النساء إنسانيّتهنّ، ويحوّلهنّ إلى
أشياء، وينكر عليهنّ ذاتيّتهنّ.
وتحتوي
دراسة John Berger عن
الجسد الأنثويّ العاري في تاريخ التصوير (الرسم) الغربيّ؛ ملخَّصاً محْكماً عن
ظاهرة نظر الذكور؛ يُرجَع إليه كثيراً، وهو يستحقّ ذلك. (يقول بيرجر): الرجال
تفعل، والنساء تَظهر. ينظر الرجال للنساء، ويشاهد النساء أنفسهنّ في أثناء حملقة
الرجال فيهنّ. ولا يحدِّد هذا أغلبَ علاقات الرجال بالنساء، فحسب، بل كذلك علاقة
النساء بأنفسهنّ، فالذي يحملق في المرأة ذكَر، وبهذا تُحوِّل نفسها إلى شيء،
وبالتحديد الدقيق: هدفاً للنظر، أيْ منظراً".
تُرى
لو جُنّ الرجال؛ وقرّروا أن يُباروا النساء في ميدان التبذّل والتعرّي، وأن
يُثبتوا لهنّ أنّهنّ غير قادراتٍ على الوقوف في وجههم في معركةٍ أسلحتُها الجرأة،
والوقاحة، والقوّة، والإقدام، والاقتحام، والتكشّف، والابتذال، فماذا سيحدث
للعالم؟
في
استفتاءٍ أجرته إحدى الصحف البريطانية، طَرَحَتْ على الرجال هذا السؤال الصعب: لو
أردتَ أن تتزوّج، ووُضِعتَ أمام خيارين لا ثالث لهما لانتقاء الزوجة: مديرتك، أو
سكرتيرتك، فأيَّهما تختار؟ جاءت إجابات العديد من المشاركين كما يلي:
أتّخذ
من مديرتي عشيقةً، وأتزوّج السكرتيرة.
وعلى
الطريقة نفسها، لو حدث أن عَرضت الصحيفة على الرجال، أيّاً كانت أفكارهم أو
معتقداتهم، صورةً لفتاتين تجلسان على مقعدٍ واحدٍ في حديقةٍ عامّة، ليختاروا
إحداهما زوجة، والأخرى عشيقة: الأولى تفنّنت في الإغراء والزينة والتبرّج، وتعدّدت
الثقوبُ الصغيرة والكبيرة في بنطالها الضيّقِ، من أعلى الفخذين إلى القدمين، ويكاد
صدرها يندلق من سترتها، وبرز من فوق البنطال نصف مؤخّرتها، وو.. أمّا الفتاة الأخرى فغير متزيّنةٍ أو متبرّجة،
وبثوبٍ يغطّي جسدها باحتشام من عنقها إلى قدميها، فأيّهما ستكون هدفاً لمن يبحث عن
زوجة، وأيّهما ستكون هدفاً لمن يبحث عن عشيقة؟
إنّ
المرأة، أيّة امرأة، تَعلم علم اليقين، بل تَذُوق مرارة ذلك، وتتجرّع عواقبه
الكارثيّة كلّ يوم، أنّها كلّما ازدادت قرباً من عيون الرجال، وحرّكت شهواتهم، في
الشارع أو في الإعلان أو في الإعلام، ازدادت بعداً عن قلوبهم، وعن عقولهم، وعن
مستقبلها المحتمل معهم.
وإذا
لم تكن المرأة مكترثةً بقلوب الرجال وعقولهم؛ فكيف لا تكترث بأمنها وسلامتها
والحفاظ على نفسها، فضلاً عن تأمين مستقبلها، كإنسانةٍ وكامرأة، والتطلّع
لارتباطِها برجلٍ يتقدّم إليها لتكون زوجةً له، وربّةً لأسرته؟
التستّر
والاحتشام ما هما إلّا تمنّعٌ، والتمنّع حياء، والحياء أنوثةٌ، والأنوثة جاذبيّةٌ،
ودعوةٌ طاهرة، وهمسةٌ بريئةٌ تخاطب قلب الرجل وعقله معاً.
والتبرّج
تبذّلٌ، والتبذّل صرخةٌ وإغواءٌ، والإغواء قلّة حياء، وقلّة الحياء خشونةٌ،
واسترجالٌ، وتنفيرٌ للرجال من التِماس الحلال، المستقرّ والدائم، ودعوةٌ لهم إلى
الحرام، المؤقّت، وغير المسؤول، والعابر.
عندما
يبحث الرجل عن امرأةٍ محتشمةٍ يتزوّجها، فهذا لا يعني بالضرورة أنّه متديّن، بل هو
تأكيدٌ على أنّه رجل، وأنّه يرى في الاحتشام ذروةَ ما يشدّ الرجل إلى المرأة، من
طهارةٍ، وجاذبيّةٍ، وأنوثةٍ، وتمنّعٍ، وحياء.
وبالمقابل،
عندما ترى الحجاب على رأس فتاة، فقد لا يعني هذا بالضرورة أنها متديّنة، كما سبق
أن بيّنّا، بل ربّما أنبأ حجابُها عن أنّها ذكيّةٌ وعاقلةٌ، بحيث استطاعت أن تكتشف
السرّ الجاذب للرجل، وعرفت كيف تقتنص الزوجَ الذي يبحث متلهّفاً عن الأنثى
الحقيقيّة ليتزوّجها.
* * *
وأخيراً،
لا أرى ما هو أصدق في التعبير عن هذه المعاني؛ من تلك القطعة الأدبيّة الآسرة التي
نشرتها الكاتبة الأمريكية Joanna Francis على
موقعها لتصوير الفَرق بين المرأة
الأمريكيّة، والمرأة الشرقيّة أو المسلمة. وجاءت المقالة تحت عنوان (إن كان لديكِ
فضولُ ممارسة الجنس قبل الزواج..).
وتدعو
هذه الكاتبةُ المسيحيّة أختَها المرأةَ المسلمة إلى عدم الانخداع بالسعادة
المزيّفة التي تعيشها المرأة في أمريكا، لأنّها لا تدرك حقيقة البؤس الذي تعاني
منه النساء هناك، وكيف تُستغلُّ المرأة أبشع استغلالٍ من ِقبل الرجال. وهي تؤكّد
في هذا المقال أنّ المرأة المسلمة، بالمقارنة مع الأمريكيّة، تعيش في جنّةٍ
حقيقيّةٍ ما دامت متمسّكةً بحجابها ومُثُلها.
تقول
جوانا فرنسيس (بتصرّف):
"المرأة المسلمة ما
زالت تعيش حياتها الطبيعيّة كامرأة، كما عاشت أيةّ امرأةٍ طبيعيّةٍ منذ بداية
الحياة.
في
أمريكا، كلّ ما يأتي من هوليود هو مجموعةٌ من الأكاذيب، وتشويهٌ للحقائق على
الأرض، ودخانٌ وأضواء.
إنّهم
يعرضون عليك الجنس وكأنّه أمرٌ طبيعيّ، وعلى أنّه مجرّد تسليةٍ ولا ضرر منه،
لأنّهم يهدفون إلى تدمير النسيج الأخلاقيّ للمجتمعات. هم يحاولون استهدافكِ أيّتها
المرأة المسلمة بسماع الأشرطة والموسيقا التي تدغدغ جسدك، مع تصويرنا نحن
الأمريكيّات، كذباً، بأنّنا راضياتٌ وسعيداتٌ بلباسنا الذي هو أشبه بلباس
العاهرات، والواقع أنّنا، في معظمنا، لسنا كذلك. فالملايين منّا أدمنّ تناول
الأدوية المضادّة للاكتئاب، ويَكرهن أعمالهنّ، ونحن نبكي في الليل من الرجال الذين
ادّعوا أنّهم يحبّوننا، ولكنّهم استغلّونا بأنانيةٍ وتركونا.
إنّهم
يريدون تدمير عائلاتكنّ، ويحاولون إقناعكنّ بالاكتفاء بإنجاب عددٍ محدودٍ من
الأطفال، أو لا شيء على الإطلاق. وهم يفعلون هذا بتصويرهم للزواج على أنّه نوعٌ من
العبوديّة، وتصويرهم للأمومة على أنّها لعنة، وللاحتشام والطهارة والعفّة على
أنّها تقاليد باليةٌ عفّى عليها الزمن. إنّهم كالثعبان الذي أغوى حوّاء بأكل
التفّاحة، فاحذروا من قضمها.
إنّك،
أيّتها الفتاة المسلمة، كالجوهرة الثمينة، وكالذهب الخالص. لباسك المحتشم أكثر
جاذبيّةً من أيّ زيٍّ غربيّ، فهو يضفي عليك سحر الغموض، ويمنحك الثقة والاحترام،
ويحميك من الأعين التافهة، ويُكسبك جاذبيّةً يجب أن تحتفظي بها هديّةً للرجل الذي
سيحبّك ويحترمك لتكوني زوجةً له.
لقد
لاحظتُ، للأسف، أنّ بعض المسلمات يتخطّين الحدود بكشف جزءٍ قليلٍ من شعرهنّ حين
يرتدين الحجاب، في محاولةٍ للاقتراب من المرأة الغربيّة والتشبّه بها. وكيف يمكن
أن يفكّرن بتقليد نساءٍ نادماتٍ على فضيلتهنّ المفقودة، أو سيفقدنها عمّا قريب؟ لا
شيء يعوّض تلك الخسارة. أنتنّ أحجارٌ ماسيّة، فلا تنخدعن بهنّ، ولا تسمحن لهنّ
بتحويلكنّ إلى حجارةٍ لا قيمة لها، لأنّ كلّ ما ترونه في مجلّات الأزياء ووسائل
الإعلام الغربيّة؛ ما هو إلّا أكاذيب. إنّها مَصيَدة الشيطان، إنّه ذهبٌ مزيّف.
لقد
خُدعنا نحن النساء الأمريكيّات حين أوهمونا بأننا سنكون أكثر سعادةً بشغل الوظائف،
وامتلاك البيوت التي نعيش فيها وحدنا لنمنح الحبّ لأيّ رجلٍ نختاره بأنفسنا. هذه
ليست حرّية، وهذا ليس حبّاً. فجسد المرأة وقلبها يشعران بالأمان فقط عند إسداء
الحبّ ضمن مَلاذِ الزوجيّة الآمن، فلا تقبلي بأقلّ من هذا، وإلاّ فلن ترضي عن نفسك
بعد ذلك أبداً، حين يأخذ منك ما يريد، ثمّ يتركك إلى غيرك.
أخواتي
المسلمات، لا تسمحنَ لهم بخداعكنّ، وابقَين عفيفاتٍ طاهرات. نحن المسيحيّات؛ علينا
أن ننظر إلى الحياة كما ينبغي أن تكون فيما يتعلّق بالمرأة. إنّنا في حاجةٍ إليكنّ
لنتّخذ منكنّ قدوةً نقتدي بها. نحن ضللنا الطريق، فاحرصن على طهارتكنّ، وتَذكّرن
أنّ معجون الأسنان لو خرج من الأنبوب فلا يمكن إعادته إليه من جديد".
إنّها
صرخةٌ مبحوحةٌ من قلبٍ جريحٍ لامرأةٍ ترى مياه الطوفان تنحدر عليها وعلى بنات
جنسها من نساء الغرب، مندفعةً بجنونٍ من قمّة الجبل، لتجرفهنّ بعيداً عن تيّار
الحياة السويّة والآمنة، فتحاول أن تُسمع أخواتِها المسلمات تحذيرها اليائس ممّا
سيحلّ بهنّ لو استسلمن لهذا الطوفان، ولو من خلال همسةٍ دافئةٍ وصادقةٍ تهمسها في
آذانهنّ قبل فوات الأوان.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول