الاستقامة أساس صلاح المجتمعات

عناصر المادة

1- الاستقامة مفهومٌ شاملٌ للفرد والمجتمع2- مظاهر خادعةٌ، واستقامةٌ ضائِعةٌ

مقدمة:

الإيمان بالله والاستقامة على شريعته أساس الدّين القيّم، وقوام الحياة الكريمة، وقد أمَر الله سبحانه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأتباعه من المؤمِنين بـالاستِقامة على الدِّين؛ كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].

والاستقامة تكون وِفق أمر الله لا وِفق رغبات العبد كما قال سبحانه: {كَمَا أُمِرْتَ}، فحدّد المعيار في الاستقامة، لذا فإنّ عنوان الاستقامة: لزوم الطاعة وحسن الاتّباع، كما في الحديث (قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ). [ 1 ]

بمعنى لا يجدك حيث نَهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.

1- الاستقامة مفهومٌ شاملٌ للفرد والمجتمع

كما أنّ الاستقامة عنوان الرّشاد الذّاتيّ للفرد، فإنّها كذلك أساس صلاح وُرشد المجتمعات، وصِمّام أمانٍ لها، وحصانةٌ ضدّ فسادها واعتلالها، إنّها مفهومٌ شامل يخاطَبُ بها الفردُ فيقوِّم سلوكه ويهذِّب خلُقه، كما يخاطَبُ بها المجتمعُ كله فيتعاهد على فريضةٍ جماعيةٍ تجعل منه مجتمعًا حيًّا نابضًا يدفع الخبَثَ ويقرّ الفضيلة، فيتمتّع بحصانةٍ ذاتيّةٍ تكون عونًا للفرد على استقامته، وعنوانًا للصّلاح العامّ لمؤسّسات المجتمع ومجالاته وشخصيّاته، وإنّ المتأمّل في حديث السّفينة يجد أنّ الاستقامة ليست مسؤوليّةً فرديّةً فحسب، بل هي واجبٌ مجتمعيُّ مُناطٌ بجماعة المسلمين عامّةً، عن ‌النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثَلُ ‌الْقَائِمِ ‌عَلَى ‌حُدُودِ ‌اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا). [ 2 ]

ففي هذا المثل الذي ضربه المصطفى ع توضيحٌ رائعٌ يُبيّن أنّ فريضة الاستقامة لا تقوم على قدمٍ واحدةٍ، وهي ذات الفرد، وإنّما تقوم على قدمين اثنتين، والقدم الثّانية هي تواصي المجتمع على الاستقامة، وهذه هي الّتي تَقي القدم الأولى مِن أن تزِلّ، فهي أمانٌ وسندٌ، ولا يمكن تصوّر الاستقامة دونها، وإنّ في حديث الرَّجل الّذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا برهانًا واضحًا على أنّه يصعب بناء استقامة الفرد في بيئةٍ ومجتمعٍ فاسدٍ، فالبيئة الصّالحة هي بيئةٌ ملائمةٌ لتنمية صلاح واستقامة الأفراد، عَنْ ‌أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ ‌أَعْلَمِ ‌أَهْلِ ‌الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ ‌أَعْلَمِ ‌أَهْلِ ‌الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ). [ 3 ]

وهنا إشارةٌ وفائدةٌ جليلةٌ في أنّ المجتمع الصالح أساسٌ متينٌ تستند إليه الاستقامة.

2- مظاهر خادعةٌ، واستقامةٌ ضائِعةٌ

صرنا نرى اليوم التّديّن مجرد مظاهر خادعةً، أو عباراتٍ جوفاء تتردّد في المجالس، أو شعاراتٌ لأجل التّكسّب وخداع النّاس، بينما نرى السّلوك المجتمعيّ يُعاني أشدّ المعاناة مِن انعدام الاستقامة في كثيرٍ مِن مجالاته، صرنا نرى الأمانة عملةً نادرةً في السّوق والمهن، والعدلَ مجرّد شعاراتٍ رنانةٍ يُمتهن تحتها الضّعفاء ولا ناصر لهم، ويسود السّفهاء على حساب المال العامّ والمصلحة العامّة، ولا رادع لهم لا مِن سلطةٍ ولا مِن رقابةٍ مجتمعيّةٍ، نرى الظّلم لدى كل متنفّذٍ ولا أحد يردعه، وكأنّ السّاحة غدت غابةً ينتصر فيها الأقوى، ولا مجال لا لاستقامةٍ ولا تقوى!

ثمّ نرى دعواتٍ باردةً -هنا وهناك- لدعوة الضّعفاء إلى لزوم الطّاعة والاستقامة، فهل أصبحت الاستقامة شأنًا خاصًّا بالمُستضعَف والمعدوم! يُطالَب بالصّبر والاحتساب، بينما يُترك الظّالم والمقتدِر دون أن يستطيع أحدٌ أن يُشير إليه أو يردعه بكلمةٍ!

ثمّ بعد ذلك يتحدّث الجميع بضرورة التّغيير للأفضل، وتحسين أحوال مجتمعاتنا، وكأنهم لم يقرؤوا قول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ ‌مَا ‌بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرّعد: 11].

لقد جعل الله التّغيير مرهونًا بتغيير القوم المجتمع، فالخطاب هنا للمجتمع بأكمله للتّغيير، وهنا سرٌّ وحِكمةٌ عظيمةٌ؛ أنّ التّغيير ينبغي أن يكون مسؤوليّةً مُجتمعيّةً ينهض بها المجتمع، ليكون المجتمع نابضًا حيًا، يُنكر المنكر، ويعرف المعروف، ويدفع الباطل، هذا المجتمع هو المجتمع الذي يحسب فيه كل مُنحرفٍ عن الاستقامة ألف حسابٍ، هذا المجتمع هو الذي يعي مفهوم الاستقامة بشمولها وجوهرها، يفهم الاستقامة بأنّها استقامة مجتمعٍ بأكمله، وليس مجرّد دعوى لفئةٍ لا تملك مِن زمام الأمر شيئًا، فنُمطرها كلّ يومٍ بدعوات الاستقامة!

خِتامًا:

الاستقامة هي جوهر الدّين ولُبُّ الإيمان، وكما أنّ الله جعل الماء أساس حياة كلّ شيءٍ فكذلك الاستقامة أساس حياة كلّ فعلٍ أو قولٍ، فهي تشمل مجالات الحياة كلّها، فأيّ مجال لا يكون باستقامةٍ هو ناقصٍ مشوَّهٌ، وفي الحديث: (اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا). [ 4 ]

أي لن تستطيعوا أن تُلمّوا بكلّ جوانب الإسلام، ولكن تعاهدوا ذلك، وعليكم به ما استطعتم، لذا قال صلى الله عليه وسلم: (سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، ‌وَأَبْشِرُوا). [ 5 ]

وهو توجيهٌ كريمٌ لجبر ما قد يحصل مِن ضعفٍ بشريٍّ وقصورٍ إنسانيٍّ.

ولنعلم أنّ الاستقامة طريقها واحدٌ، وأمّا السّبل المتفرّقة فكثيرةٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنْ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا)، قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ، وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: (هَذِهِ السُّبُلُ، لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ). [ 6 ]

1 - مسند أحمد: 15417

2 - صحيح البخاريّ: 2439

3 - صحيح مسلم: 2766

4 - مسند أحمد: 22378

5 - صحيح البخاريّ: 6467

6 - مسند أحمد: 4437

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين