الاتفاق التركي الأمريكي.. كل يغني على ليلاه

وفقا للتسريبات – حيث لم يعلن نص الاتفاق ولا تفصيلات بنوده - فإن الاتفاق التركي الأمريكي  يشمل إقامة منطقة عازلة بطول مئة كيلومتر وعمق أربعين كيلومتر، وطرد تنظيم داعش والجماعات المتطرفة الأخرى مثل جبهة النصرة من هذه المنطقة، كما يشمل أيضًا منع طائرات النظام السوري من التحليق فوقها.

 

و بناءًا على هذا الاتفاق سيسمح لطائرات التحالف الدولي والطائرات الأمريكية باستخدام قاعدة إنجرليك للقيام بطلعات استكشافية، ومهام قتالية داخل الأراضي السورية، ويجيز أن تقوم الطائرات التركية بمهام مشابهة عند الحاجة، ويتيح أيضًا للتحالف الدولي استخدام قواعد عسكرية في ديار بكر وباطمان وملاطية جنوب شرقي البلاد عند اللزوم.

 

بخصوص القوات الكردية، تشير بعض المصادر إلى أن الاتفاق لم ينص على استهداف وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) والتي تخوض هي الأخرى معارك ضارية ضد تنظيم داعش، ما لم تشكل تهديدًا مباشرًا للحدود التركية، أو تقوم بتغيير الديموغرافية السكانية للمناطق التي تسيطر عليها!.

 

واضح للعيان أن الاتفاق التركي الأمريكي جاء نتيجة ضغط  الحاجة، وليس حصيلة قناعات مشتركة نحو تحقيق هدف مشترك لأطرافه، حيث شكل الاتفاق فرصة ثمينة للطرفين التركي والأمريكي على حد سواء، فهو بالنسبة لتركيا فرصة ذهبية لتأمين حدودها من إرهاب تنظيم حزب العمال الكردستاني وفروعه داخل تركيا وخارجها، والحيلولة دون قيام كيانات انفصالية تهدد أمنها الاستراتيجي من جهة، ولإزالة الغموض والشكوك التي وجهت إليها من قبل الغرب حول تهاونها مع تنظيم داعش، وتأمين حدودها من خطر راديكالي إرهابي من المحتمل أن يصيبها شرر كيره في أي لحظة. في الطرف المقابل نجحت الولايات المتحدة في إيجاد موطئ قدم استراتيجي مهم يسمح لطائراتها بقصف مواقع تنظيم داعش بفعالية وكثافة أكبر، وبكلفة أقل حيث وفرت مسافات الطيران الطويلة التي كانت تقطعها طائرات التحالف قبل قصف أهدافها.

 

ومن الواضح أيضا أن الاتفاق التركي الأمريكي عبارة عن عنوان كبير وخطوط عريضة لم تأتِ تحته بنود تفصيلية توضحه وتفسر إشكال بنوده، إنما تُرِك لكل طرف أن يفهمه بالطريقة التي يريد، حسب مجريات الأحداث ومعطيات الساحة المتقلبة.

 

ولا يبدو طرفا الاتفاق مشتكيان من هذه الحالة، ربما لقناعتهما بأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، بسبب تضارب الأولويات لدى كليهما، ففي الوقت الذي يركز فيه الأمريكان على محاربة تنظيم داعش ويتغاضى عن كل انعكاسات تلك الحرب الجانبية حتى لو كانت تصب في صالح نظام بشار الأسد ووتقوي الحركات الكردية الانفصالية، يشدد الطرف التركي على أن سبب الإرهاب ومنبعه هو النظام السوري، وأن تنظيم داعش وسواه من التنظيمات المتطرفة ما هي إلا ردات فعل وظواهر عرضية تزول بزوال مسبباتها، وأن الخطر الأكبر يكمن في الحركات الانفصالية التي بدأت تمارس عملية تغيير البنية الديمغرافية لشمال سورية تحديدا وذلك تمهيدا لفرض واقع جديد يفضي إلى تقسيم سورية، مما سيدخل منطقة الشرق الأوسط بأسرها في أتون صراعات عرقية طائفية وحروب لا تنتهي في المدى القريب.

 

استطرادا وعلى سبيل المثال فقد ادّعى مسؤولو حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) بأن جهدهم موجه لحماية المناطق الكردية فقط، لكننا نراهم اليوم يقاتلون إلى جانب قوات نظام بشار الأسد في دير الزور، بعد أن أعلن بشار الأسد بنفسه عن الصعوبات التي يواجهها نظامه على صعيد نقص جيشه وعجز قواته عن خوض المعارك في جميع أنحاء سورية، كما أن التجنيد الإجباري الذي فرضه هذا الحزب في المناطق التابعة لنفوذه، وعمليات التهجير القسري التي يمارسها بحق المكونات السورية الأخرى غير الكردية باتت تثير مخاوف حقيقية ليس فقط عند الأتراك بل عند السوريين أيضًا.

 

اشتكى كثيرون من عدم وضوح معالم الاتفاق التركي الأمريكي، وأبدوا مخاوفهم من غموض الأمريكان وتباين مواقفهم خصوصًا فيما يتعلق بالمنطقة الآمنة أو النظيفة "Clean Zone" كما اصطلح على تسميتها مؤخرًا. لكن مرونة الاتفاق قد تعني مزيدا من الخيارات لدى الطرف التركي فيما يتعلق بالقضية السورية، خصوصا إذا أثبتت المعارضة الوطنية السورية بشقيها السياسي والعسكري رشدا ونضوجا من شأنه أن يقوي يد الأتراك ويدعم توجههم، حيث سيكون هناك مجال واسع للحركة، فقد تشكل المنطقة النظيفة رئة يتنفس منها السوريون، وملاذًا آمنا بديلا عن حياة التشرد والنزوح، وربما تتطور إلى نواة لتجربة ديمقراطية ناجحة بمعونة الأتراك ودعمهم. وهنا تقع المسؤولية الكبرى على الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة ومن خلفه الحكومة السورية المؤقتة، بأن تثبت جدارتها في إدارة المنطقة الآمنة، لأن الهدف من تأسيس الحكومة المؤقتة كان لإدارة المناطق المحررة تحديدًا.

 

صحيح أن الدول الشقيقة والصديقة لا تزال تضن بتقديم الحد الأدنى من الدعم المالي للائتلاف الوطني السوري والحكومة السورية المؤقتة، وبدل تقوية المؤسسات الوطنية السورية الشرعية المعترف بها دوليا ترجح تلك الدول دعم فرقاء سوريين بعينهم وأحزاب ومجموعات وتكتلات محسوبة عليها، مكرسة بذلك انقسام المعارضة السورية وشرذمتها. فإن الأمر بالنسبة للسوريين بات يشكل مسألة حياة أو ممات، ووجود وطن من تفتته وتقسيمه، لذلك لا خيار أمامهم سوى النجاح، فقد يكون الاتفاق التركي الأمريكي آخر فرصة لهم للحفاظ على وحدة تراب وطنهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين