الإنسان الجديد

"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

 إن لك أن تقرر بأن المسلم حين يُهل بهذه التلبية الربانية الكريمة، بحرقة وشوق، وصدق وحنان، إنما ينبغي له أن يصير إنساناً جديداً، صح منه العزم على بدء حياة جديدة، كلها نأي عن الشيطان، وطاعة للرحمن، ذلك أنه حين يلبي.. يخاطب خالقه السميع البصير، القوي العزيز، الرؤوف الرحيم، دون أن يكون ثمة حجاب أو واسطة..

 يخاطبه معترفاً بالتقصير، مقراً بالذنب، طامعاً بالتوبة والغفران، وغسل الخطايا ومحو الآثام..

 يخاطبه بذلك وبغير ذلك، فيهيج الشوق فيه، وتتضرّم العواطف الخيّرة المباركة في أعماقه، فيرق القلب، ويصفو الوجدان، ويفيض الحنان، ويشعر بأنسام الرحمة وإشراقة القبول، يتلقّاها بكينونته كلها، ويستقبلها بوجوده جميعاً فيغدو أهلاً لتلقي هذه البشائر في حركاته وسكناته، ونومه ويقظته، وطوافه وسعيه، وتعبه وراحته.

 كيف لا..!؟ وهو يعيش في هذا الجو الروحاني المبارك الذي امتد وتعاظم حتى تغلغل في أعمق أعماقه، وسرى منه مسرى النفس، وجرى فيه مجرى الدم في العروق، وتدفق في قلبه وعقله، ونفسه وروحه، وملك عليه كيانه كله، ومنافذ الحس والرؤية، وطرائق التلقّي والفهم، وأساليب التعامل والإدراك، ووسائط المعايشة بكل جوانبها، وأنماط السلوك بكل شعابه، فإذا به شلّالٌ من نور، وأَلَقٌ من هداية، وبسمة من غفران، ورضى من قبول، وينبوع من خير، ومعين من صدق وحنان، وطهر ونظافة، وسمو وارتفاع، حتى لكأنه بشرى مجسّدة من بشريات الرحمة، تكاد تقول: هنيئاً لكم أيها الحجاج!.. وطوبى لكم وحسن مآب!.. لقد تقبّل الله عز وجل منكم مسعاكم فلن تنقلبوا من ضيافته خائبين.

ولا يخطئ المسلم أن يلمح في فريضة الحج بما تضمّنه من أركان وشروط، وواجبات ومندوبات عنواناً وعلامةً ودليلاً، على أمانة الأمة الإسلامية لما ورثت من ملة أبيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، من التوحيد النقي الخالص، الذي لا تعكِّر صفاءه شائبة قط، ومن تعظيم الله عز وجل، تعظيماً يليق به في بيته الحرام، الذي جعله مثابةً للناس وأمناً، وموسماً للجود الإلهي الكبير، حيث تتدفق رحمته الواسعة الكبيرة، على ضيوفه الشعث الغبر، القادمين من بلاد بعيدة، الباذلين المال بطيب نفس، المحتملين المشاق برضى وارتياح، فيستجيب وهو الغفور الرحيم، غافر الذنب وقابل التوب، يقبل دعاءهم، ويغفر خطاياهم، ويعطيهم عطاء القدرة التي لا حد لها، والجود الذي لا ساحل لكرمه ومنحه وسخائه.

لا يخطئ المرء أن يلمح ذلك، ولا يخطئ كذلك أن يرى في كل شعيرة من شعائر الحج، وفي كل نسك من مناسكه، هدية من هدايا البر والجود، ورحمة سابغة غنيّة، وروضة من رياض القبول والغفران، يرتع فيها المؤمن هانئاً سعيداً، فثمة عطاء الكريم المنّان، وأكرمْ به من عطاء!.. وثمة إحسان ذي الجلال والإكرام، وما أعذبه!.. وما أغزره!.. وما أطيب عبيره الطيب، ونَشْره الذكي، ومسكه الفواح، ونوره الوهاج!..

إنه الحج، فرصة ربانية غنية، نورانية ثرية، يبث فيها المؤمن أشواقَه الحارة، وتطلعاتِ قلبِه الملهوف، وحبَّه الصادق، ودعاءه الخاشع، ورجاءه الضارع، ودموعه الأبيّة الحرّى، التي لا تسيل إلا بين يدي خالقه عز وجل، يسكبها شوقاً إلى كل ما يرضي مولاه، وخوفاً من كل ما يسخطه ويغضبه.

إنه مثابة الروح التي طال بها الحنين، والنفس التي ألحّ عليها الظمأ، والقلب الذي استبدّت به الأشواق، إنه المثابة التي يتلقى المؤمن في كل ساعة من ساعاتها عطاءً إلهياً مباركاً، وزاداً روحياً من السمو والتقوى، يشعر بها كل الذين تفتّحت قلوبهم للنفحات الكريمة، والتجليات الحبيبة، وزالت عن أبصارهم الغشاوة، وعن بصائرهم ران الغفلة، فإذا بهم وقد تسربلوا ثوب العبودية الخالصة لله عز وجل، وائتزروا بعزة الذلة إليه، وقوة الافتقار والتضرع له، وتجردوا من كل قوة سوى قوته، وبرئوا من كل حول سوى حوله، تماماً كما تجردوا من المخيط وتوشّحوا ملابس الإحرام، وهُرِعوا يطوفون ويسعون، ويبكون ويستغفرون.

وما يكاد المؤمن في حجّه يفرغ من تلقّي واحدة من تلك النفحات الربانية الكريمة، حتى يسعد بثانية تليها؛ وهكذا دواليك.

وحين تقول: عطاء الكريم الجواد فلا غرابة ولا عجب، وعندما تقول: إحسان ذي الجلال والإكرام فحدِّثْ ولا حرج، وحين تقرر بأنه الجود الرباني اللانهائي الذي لا يحده شيء قط فبالغْ ما استطعت فيما تتصور من هذا الجود، فكل الذي تتصور أقل من القليل في كرم الله عز وجل، وإذا قلت: إنه العفو والمغفرة والاستجابة فلا حرج، فالكل في رحاب البيت العتيق، وفي ضيافة رب البيت العتيق، ومن دخل هذه الرحاب فهو آمن، ومن قصد تلك الضيافة فهو فائز.

وبعد؛.. فإننا إذ نقدم أعمق التحية والتهنئة لحجاج بيت الله الحرام، بأعظم وأكرم وأنجح رحلة يقوم بها إنسان، وإننا إذ نزف لهم بشائر الخير والقبول والفوز لا يفوتنا أن نضع أيديهم وأنفسهم، وإدراكهم ومشاعرهم على أنَّ الحج هو عهد وموثق أنْ يستقيم الحاج على دين الله، وأن يجنّد نفسه لخدمته، وأن يكون من دعاته وأنصاره، الساعين لإعلاء رايته، العاملين لطلوع فجره البهيج، المجاهدين من أجل قيام دولته، وتكوين مجتمعه، وسطوع نوره في جميع ربوع العالمين.

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين