الإسلام شريعة الحنيفية السمحة

أطفالنا والعبادة (8)

الإسلام شريعة الحنيفيّة السمحَة

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

الإسلام هوّيّة المسلم وانتماؤه، والبدهيّة الكبرى التي تقوم عليها حياته، ولكنّها في الوقْت نفسه هوّيّة غَائبة أو مغيّبة، وبدهيّة مجهولة أو مشوّشة، عندَ كثير من المسلمين الذينَ أخذوا دينهم بالوراثة والتقليد، سوَاء على مسْتوى الفهم، أو على مستوى السلوك والممارسة.. وكذلك عندَ أولئك الذين يقفون منْ دين الله موقفَ الرفض للاحتكام إليه، والعداوةِ له والصدّ عنه.. ومن ثمّ فإنّ حقيقة الإسلام وهوّيّته بحاجة إلى توضيح مفْهومَها وتعميقه، وتبيين معانيها وتفصيلها، وكشف ما يعارضها، ويخرج عن حدودها وحقيقتها، ليهلك من هلك عن بَيّنة، ويحيا منْ حيَّ عن بيّنة..

 

فالإسلام هو الديْن الذي ارتضاهُ الله للبشريّة منْ لدن آدم عليه السلام، إلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلَّم: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ.. (19)} آل عمران، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الخَاسِرِينَ (85)} آل عمران.

 

وحقيقة الإسلام: الاستسلام لأمر الله تعالى ونهيه، وطاعته في شئون الحياة كلّها، يقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قَالَ: أَأَقْرَرْتُمْ، وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي، قَالُوا: أَقْرَرْنَا، قَالَ: فَاشْهَدُوا، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، طَوْعاً وَكَرْهاً، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} آل عمران.

ولا تُقْبَلُ دعوَى الإيمان بغير الاستسلام لحكْم الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم، والرضا بكلّ ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)} النساء.

 

إنّ الاجتهاد ساحته كبيرة مفتوحة، لمن كان أهلاً له، ولكنّه لا يدْخل في القطعيّات، والبدهيّات المسلّمات، إنّه يدخل في كلّ ما لا يضرّ اختلاف التنوّع فيه، وما يختلف الموقف منه على حسب اختلاف العادات والأعراف، لأنّه بُنيَ في الأصل على العرف والعادة، وما كان سبيله كذلك يغيّره العرف والعادة..

وإذا لم يسلم الإنسان وجهه لله وهو محسن، ويستجيب لطاعته واتّباع شرعه.. فلمن يستجيب.؟! ما البديل له عن ذلكَ.؟!

 

لقد عرفت الإنسانيّة بدائل كثيرة توجّه الإنسان إليها بالحبّ والرجاء، والخوف والرهبةِ.. فهل كانت خيراً للإنسان من توجّهه إلى الله وحدَه.؟!

لقد عبد الإنسان الخارج عن طاعة الله الحجر والشجر، والشمس والقمر، وتذلّل للحيوان والجماد، وأتفه الأشياء وأسخفها وأخسّها، ممّا يُستحيا من ذكره، وتَأباه كرامته.. ومنهم من ألحد في الله وعبد هواه، أو عبد الطواغيت، وأهواء الظالمين الكُبراء.. فهل أغنى ذلك عن الإنسان شيئاً، أو حقّق له سعادة وأمناً.؟!

 

إنّ مزايا هذا الدين وخصائصه أكثر وأضخم من أن يتناولَها مقال، أو يحيطَ بها بحث، ولكنّ هناك مزيّة كبرى، ينبغي أن لا يغفل الوالد والمربّي عن غرسها وتعهّدها والتأكيد علَيها، وهي أنّ الإسلام شريعة الحنيفيّة السمحَة، كما جاءَ نصّ ذلك في الحديث عن (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلا بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ) رواه أحمد في المسند في باقي مسند الأنصار برقم /21260/ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ.

 

" فهيَ حنيفيّة في العقيدة، سمحة في التكاليف والأحكام، وإنّما خصّها الله بالسمَاحة والسهولة واليسر لأنّه أرادها رسالة للناس كافّة، والأقطار جميعاً، والأزمان قاطبة، ورسالة هذا شأنها من العموم والخلود، لابدّ أن يجعل الله الحكيم في ثناياها من التيسير والتخفيف والرحمة ما يلائم اختلاف الأجيال، وحاجات العصور، وشتّى البقاع " العبادة في الإسلام، للدكتور يوسف القرضاوي ص/195/.

 

وإذا كانت وجهة الإسلام التيسير ورفع الحرج، فكلّ من يبغي التشديد والتعنّت، إنّما يعاند روح الإسلام، ومآله إلى هلاك وبوار، وقد دعا عليه النبيّ صلى الله عليه وسلَّم بذلك، فقال صلى الله عليه وسلَّم: (ألا هلك المتنطّعون.! ألا هلك المتنطّعون.! ألا هلك المتنطّعون.!) رواه مسلم وأبو داود وأحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه، قالها ثلاثاً، ليدلّ على اهتمامه بخطر هذا الأمر وآثاره السلبيّة على دين الله تعالى..

وجاء في الحديث عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً: (إيّاكم والغلوّ.! فإنّما أهلك من قبلكم الغلوّ) رواه مسلم.

 

وكان من شمائله الكريمة صلى الله عليه وسلَّم: " أنّه مَا خُيّر صلى الله عليه وسلَّم بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس عنه " رواه البخاريّ.

وعندما بعث معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعريّ أميرين إلى اليمن أوصاهما صلى الله عليه وسلَّم بقوله: (يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا) رواه البخاريّ.

 

ويحذّر النبيّ صلى الله عليه وسلَّم أمّته من مَغِبّة التشديد على النفس بغير ما كلّف الله به عباده فيقول صلى الله عليه وسلَّم: (لا تشدّدوا على أنفسكم، فيشدّد عليكم، فإنّ قوماً شدّدوا على أنفسهم، فشدّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار: {.. وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا.. (27)} الحديد. والحديث ذكره ابن كثير في تَفسيْر الآية الكريمة، عن مسند أبي يعلى، وهو في كتاب الأدب من سنن أبي داود: باب في الحسد، انظر العبادة في الإسلام ص/197/.

قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله: " وهذا ذمّ لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه، ممّا زعموا أنّه قربة تُقَرّبهم إلى الله عزّ وجلّ ".

 

" وقوله: (لا تشدّدوا يشدّد عليكم) إخبَار بأنّ تشديد الإنسان على نفسه سبب لتشديد الله عليه. وتشديد الله إمّا تشْريعيّ تكليفيّ، وإمّا تشديد كوْنيّ قدريّ وفقاً لنظَام الله في الأسبَاب والمسبّبات، فالتشديد بالشرعِ، كمن يشدّد على نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الشرع الوفاء بِه. والتشديد بالقَدر، كفعل أهل التزمّت والوسوسة، شدّدُوا على أنفسهم، فشدّد القدر عليهم، حتّى استحكم ذلك فيهم، وصار صفة لازمة لهم، وما ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم ". العبادة في الإسلام، للدكتور يوسف القرضاويّ ص/198/.

 

فعلى الوالد والمربّي أن يَغرسَ هذه الحقائق في نفس الطفل والناشئ، ويتعهّدها بالتوجيه والرعاية، ويؤكّد عليها في كلّ مناسبة، لينشأ الطفل نشأة سويّة، بعيداً عن الغلوّ والتطرّف، يأخذ من دين الله بما كلّف الله به عباده دون تنطّع، ولا تشديد..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين