الإسلام حضارة الغد

التقديم للبحث:

فقد شهد العالم حضارات متعددة في بقاع مختلفة المكان وفي عصور مختلفة الزمان ازدهرت حينا ثم ذبلت وأشرقت ثم غربت وأقبلت ثم أدبرت بعضها كان في الشرق وبعضها كان في الغرب، وبعضها شمل قطرًا أو قطرين، وبعضها شمل أقطارا بعضها بقي قرئًا أو قرنين وبعضها دام قرونًا وأعصارا.

ولكن العالم لم يشهد حضارة مثل الحضارة السائدة اليوم؛ فقد اتسع نطاقها حتى أثرت في أقطار الأرض كلهاء شرقيها وغربيها باديها وحاضرها ولذا غدت توصف ب «العالمية» وإن كان الغرب أباها وصانعها.

كما أنها ملكت الإنسان من القدرات والوسائل ما لم تملكه حضارة من قبل وهيأت له من أسباب الرفاهية ومظاهر التنعم ما لم يتهيأ له في تاريخه الطويل؛ بل وما لم يكن يحلم به أو يدور بخاطره.

ومع هذه المكنة والقدرة الهائلة لم تراعِ هذه الحضارة فطرة الله في الإنسان ولم تحافظ على الخصائص الذاتية للإنسان، ولم تبالِ بمستقبل الإنسان، ومصير الإنسان، حتى غدا علم الحضارة وتقدمها ذاته خطرًا عليها وكاد ينطبق على هذه الحضارة وأهلها ما ذكره القرآن: { حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس]

كان عيب هذه الحضارة أنها استغنت عن الله وعزلته عن الحكم في ملكه وتصرفت كأنها صاحبة الخلق والأمر في هذا العالم وعظمت كل ما هو مادي وهونت كل ما هو معنوي واعتبرت التقدم في إنتاج أكبر كم من السلع والخدمات وإشباع أكبر قدر من اللذات والشهوات، ولو كان ذلك على حساب القيم والأخلاق.

فلا عجب أن ضمرت روحها وإن كبر جسمها وانطفأ نورها وإن بقيت نارها فأصبحت دنيا لا دين وعلمًا بلا إيمان، وتمثالا بلا روح.

وهذا حكم على الغالب والسائد من غير شك فقد توجد بذور خير، ومصابيح هداية هنا وهناك؛ سنة الله في خلقه؛ ولعلها هي التي تؤخر سقوط هذه الحضارة. ولكن العبرة بالغلبة وللأكثر حكم الكل، كما قال فقهاؤنا من قديم.

وهذا هو الذي أقلق المخلصين من أهل العلم والفكر والأدب والسياسة: أن يصيب هذه الحضارة ما أصاب ما سبقها من الحضارات ويجري عليها القانون الإلهي الذي لا يحابى ولا يحيف.

ونحن المسلمين نخاف على هذه الحضارة ما يخافه النقاد المخلصون من أهلها لأن ما فيها من خير ينتفع به الجميع، وما فيها من شر وخطر على الجميع، ويهمنا أن نستبقي خيرها وأن نتفادى شرها.

ولن يكون ذلك إلا من خلال الرسالة الحضارية التي يحملها المسلمون للعالم، وهي رسالة ربانية إنسانية أخلاقية، تتميز بالتوازن والتكامل، وتهيئ الإنسان ليقوم بعمارة الأرض وخلافة الله، وعبادته تعالى بالعلم النافع، والإيمان الصادق والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر.

إننا لا نريد أن نهدم الحضارة المعاصرة: لأنها ستنهدم على رؤوس الجميع، وإنما نريد أن نحميها من نفسها وأن نقدم لها طوق النجاة من غرق يهددها ويهدد البشرية معها.

إننا وحدنا نملك البديل وهو الإسلام؛ الذي بعث الله به جميع رسله: وأنزل به جميع كتبه، وارتضاه الله منهاجًا لجميع خلقه، على أن نحسن نحن الفهم له والعمل به، والدعوة إليه، وأن نقدمه للناس نموذجًا يرى لا كلامًا يقال.

وبذلك نكون الأمة التي أرادها الله بقوله: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]

وأصل هذا الكتاب بحث قُدِّم للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بعمان في دورته التاسعة المنعقدة في صيف سنة 1993م ولكني كنت حذفت منه الفصل الثاني اختصارا والآن أعيده إليه ليكتمل البحث كما أضفت إليه بعض الفقرات في بعض المواضع؛ تتميمًا للصورة، وخصوصا بعد انعقاد مؤتمر السكان بالقاهرة في سبتمبر 1994م.

تحميل الملف