الإسراء والمعراج - 5

ألقيت في المغرب في رمضان المبارك 1406= 1986.

أيها الإخوة المؤمنون: إنها لمناسبة كريمة وذكرى عظيمة أن نتحدَّث إليكم عن الإسراء والمعراج، وهما من أجلِّ وأعظمِ ما أُكرم به النبي صلى الله عليه وسلم، وإننا إذا نتحدث عن هذه الذكرى الطيبة الغالية نتحدثُ وقلوبنا باكية دامية من هول الفجيعة التي حلَّت بالمسلمين في عقر دارهم ومقدساتهم، إذ استولى اليهود الأشرار على أُولى القبلتين وثاني الحرمين المسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء وكان منه المعراج.

فحديثنا الليلة إليكم عن المسجد الأسير الكسير الباكي الذي ينتظر من أبناء الإسلام أن يحرروه من أيدي الغادرين الصهاينة، حديثنا الليلة عن المسجد الأسيف المحزون الذي كانت لرسول لله فيه آيات من المعجزات البينات، وكان له منه صعود إلى السموات.

ولعل في حديثنا هذا ما يؤكد المشاعر الإسلامية والعزمات الإيمانية من نفوس رؤساء المسلمين وملوكهم وحكامهم، فيكون اجتماعُ كلمةٍ وتوحيدُ صفٍ وعَزْمةُ صدقٍ وحملة إيمان، يعقبها نصر من الله مبين، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وما ذلك على الله عزيز.

وبعد هذا نقول: الحمد لله الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي عُرِجَ به إلى السموات العُلى وأوحى إليه ربه ما أوحى.

ليلة الإسراء والمعراج

يبتهج المسلمون في بقاع الأرض بهذه الليلة المباركة وحقَّ لهم أن يبتهجوا بها ويحتفلوا بحلولها، فقد كان فيها معجزات كبرى: كان فيها مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، وكان فيها عُروجه من بيت المقدس إلى السموات العلى، وكان فيها أنْ رأى مِنْ آيات ربه الكبرى، قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير﴾.

وقال جل وعز: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾.

نعم لقد رأى صلى الله عليه وسلم آيات باهرات، وعجائب مشرقات، وبشائر فائقات بالغات، وحدَّثَ أصحابه بها، ورواها عنه الجم الغفير، وقبل أن نتحدث عن تلك الآيات التي رآها، نحب أن نرجع إلى الزمن الذي حدث فيه الإسراء والمعراج.

حدثت هاتان الآيتان العظيمتان في السنة الثانية عشرة من مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت تسمى تلك السنة: عام الحُزْن، وإنما سميت بذلك لِـما لقيَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشدائد والمصاعب الفادحة.

فقد توفيت في تلك السنة زوجته خديجة رضي الله عنها، أحبُّ الناس إليه وأعطفهم عليه وأفضلهم تأييداً له وتثبيتاً.

كما توفي في تلك السنة أيضاً عمه أبو طالب، وقد كان عمه أعز نصير له وأقوى مدافع عنه وحامٍ له من أذى قريش واعتدائها عليه، وبعد موت عمه أبي طالب استطالت قريش على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذاها، حتى كانوا ينثرون التراب على رأسه وهو سائر في الطريق، ويُلْقُون أقذارَ الشاة على ظهره وهو يصلي، فكان هذا العام عاماً مُحلَولِكَ الظلام شديد القَتَام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما رأى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم استهانة قريش به وشططها عليه، توجه إلى الطائف يلتمس النصرة من أخواله بني ثقيف، ويطلب العون منهم والمنعة بهم من قومه، ولعلهم يقبلون منه ما جاء به من الدين الحق والدعوة إلى توحيد الله تعالى وعبادته سبحانه.

ولما انتهى إلى الطائف، عَمَدَ إلى سادة ثقيف وأشرافهم، وجلس إليهم وكلمهم فيما جاءهم من أجله، مِنْ طَلَبِ نصرته لنشر الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فرَدُّوه أقبحَ رد وأسوأه، وخذلوه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له في طريقه صَفَّين، فلما مر بين صفيهم جعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا رضخوها بالحجارة حتى أدموا رجليه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أزلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعَضُديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، وكان معه زيد بن حارثة خادمه، فكان يقيه أذاهم بنفسه، حتى لقد شُجَّ زيدٌ في رأسه شجاجاً كثيرة.

فخَلَصَ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاه تسيلان دماً، وعمد إلى بستان من بساتينهم فاستظل في ظل شجرة منه وهو مكروب موجع مهموم، ثم جعل يدعو بهذا الدعاء:

اللهم أشكو إليك ضَعفَ قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحمَ الراحمين أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملَّكتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسعُ لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصَلُحَ عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنْزِل بي غضبك، أو يحِلَّ عليَّ سخطُك، ولك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.

قال صلى الله عليه وسلم: فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرتُ فإذ فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا به عليك، وقد بعث إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسَّلم عليَّ فقال: يا محمد إنَّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهم الأَخْشَبَين - يعني جبلي مكة - فعلت. فلم يجبه الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم إلى شيء من ذلك، بل قال: أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا.

ثم تضيق به نفسه صلى الله عليه وسلم أين يتوجه؟ فهؤلاء أخواله وأقاربه بنو ثقيف كان منهم هذا الأذى والتجهم له! وكيف يرجع إلى مكة وهذه قريش تنكرت له وترصدت له الأذى في كل طريق من طرق مكة وشعابها؟

ثم يعزم أن يعود إلى موطنه مكة، فيبعث إلى الأخْنَس بن شَريق أحد زعماء مكة ليجيره فيدخلَ مكة في حمايته وجواره، فيرفض الأخنس أن يجيره، فيبعث إلى المُطعِم بن عديّ أحد وجهاء مكة وكبرائها ليجيره فيدخلَ رسولُ الله مكة في حمايته وجواره، فيجيبه المطعم بن عدي، ويتسلح هو وأولاده وأتباعه، ويخرجون جميعا حتى أتوا الكعبة المعظمة، فأَشهدوا الناسَ حولها أن محمدا سيدخل مكة في جوارهم وحمايتهم، ويبعث المطعم بن عدي إلى رسول الله أن ادخُل مكة في جواري آمناً محروساً. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله.

فالأيام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة أيامٌ شديدة عصيبة جداً، بل كانت أشد أُلقِيَّةٍ لقيها رسول الله من قومه، ودعاؤه فيها ينطق فيها بذلك، وهل هناك شيء أشد ألماً على الإنسان من أن يدعو إلى الحق والخير فيُقابَلَ بالتهكم والأذى؟ وأن يذهب لأُناس ليستعينَ بهم فيردوه ويسفِّهوا رأيه ويُغْرُوا به صبيانهم، فيضربوه بالحجارة ويضعوا في طريقه العواثير، ليضحكوا منه ويزيدوا في إيذائه.

ثم هو بعد هذا لا يأمن أن يعود إلى وطنه آمناً مطمئناً، فيستنجد بفلان فيرده وبفلان فيرده، حتى قيض الله له من أجاره على خوف من قومه وسفهاء عشيرته.

إنها لأيام ثقيلة حمراء، وإنها لتضيق النفس بها وتتقطع حبال الصبر عندها، وتطيش الأحلام والألباب من وقوعها، ولا يستطيع أن يتحملها إنسان مهما أوتي من الجلادة والصبر إلا أن يكون من الرسل أولي العزم، فكان لابد أن يعقب هذه الفترة العصيبة القاسية إنعاشة سماوية روحانية تُزيح هذه الآلام، وتُبدد هذا الحزن المخيم، وتَقْشَعُ ذلك الكرب الآخذ بالأنفاس والتلابيب، فكانت معجزة الإسراء والمعراج، فكان فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم عزاءٌ وتسلية، وترفيه وتأنيس، واستقدام وإيحاء، والتقاء بالرسل والأنبياء، وسُمُوٌّ فوق البشرية، وعلو فوق الإنسانية، وآيات كبرى ومِنَحٌ عظمى، وإكرام من الله تعالى ليس فوقه إكرام.

روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

أُتيتُ بالبُراق - وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه – قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يَربِطُ بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاختَرْتُ اللبن، فقال جبريل: اخترتَ الفطرة. ثم عَرَجَ بنا إلى السماء، فاستَفْتَح جبريلُ فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه. ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عَرَجَ بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال. محمد. قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا، فرحَّبا ودَعَوَا ليَّ بخير، ثم عَرَجَ بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه. ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أُعطي شَطْرَ الحُسْن، فرحب ودعا لي بخير.

ثم عَرَجَ بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه. ففُتِحَ لنا فإذا أنا بإدريس، فرحب ودعا لي بخير، قال الله عز وجل: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾، ثم عَرَجَ بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه. ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بهارون، فرحب ودعا لي بخير، ثم عَرَجَ إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه. ففُتِحَ لنا فإذا أنا بموسى، فرحب ودعا لي بخير، ثم عَرَجَ إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه. ففُتِح لنا، فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف مَلَك لا يعودون إليه.

ثم ذَهَبَ بي إلى سِدرة المنتهى، وإنَّ وَرَقَها كآذان الفيلة، وإذا ثَمَرُها كالقِلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها.

فأوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض عليَّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوتُ بني إسرائيل وخَبَرْتُهم. قال: فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب! خَفِّفْ على أمتي. فحَطَّ عني خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حَطَّ عني خمسا. قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمد! إنهنَّ خمسُ صلوات كل يوم وليلة، لكلِّ صلاة عَشْرٌ، فذلك خمسون صلاة، ومن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كُتِبَتْ له حسنة، فإنْ عمِلَها كُتِبَتْ له عشرا، ومن هَمَّ بسيئة فلم يعملها لم تُكتب شيئا، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ سيئة واحدة. قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه.

وقد صدَّر مسلم بهذه الرواية عن أنس الروايات التي ساقها عن أنس وأبي هريرة وابن عمر وأبي ذر وابن عباس وفيها ما ليس في هذه.

ثم ركب صلى الله عليه وسلم البُراق، ورجع إلى المسجد الحرام في مكة، فصلى فيه صلاة الغداة أي الصبح، وحدَّث بإسرائه ومعراجه أولَ من حدَّثَ أمَّ هانىء بنتَ عمه أبي طالب رضي الله عنها فأمسكت بردائه وقالت: أُنشِدُك الله يا ابن عم أن لا تحدث بهذا قريشاً فيكذِّبُك من صدَّقك. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ردائه فانتزعه من يديها، وخرج فانتهى إلى نفر من قريش، فيهم المطعم بن عدي الذي أجاره في دخول مكة وفيهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل وغيرهم من رؤوس المشركين، فابتدره أبو جهل فقال له: هل من جديد يا محمد؟ قال: نعم، إني صليتُ الليلةَ العِشاء في هذا المسجد، وصليتُ فيه الغداة، وأَتيتُ فيما بين ذلك بيتَ المقدس، فنُشِرَ لي رَهْطٌ من الأنبياء وكلَّمتُهم. وقصَّ على المشركين ما رآه فلما سمعوا ذلك أَعظَموا هذا الحدث، فقال المطعم بن عدي: يا محمد، كلُّ أمرك قبل اليوم كان أَمَـمَـاً - أي سهلاً مستقيماً مقبولاً - غيرَ قولك اليوم، أشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهراً صعوداً وشهراً هبوطاً، وأنت تزعم أنك أتيته في ليلة واحدة، واللاتِ والعزى لا أصدقك، وما كان هذا الذي تقوله قط.

فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا مُطْعِم بئسَ ما قلتَ لابن أخيك، جَبَهْتَهُ وكذَّبتَه! أنا أشهدُ أنه صادق. فقال مُطْعِم: يا محمد، صِفْ لنا بيت المقدس وعَدَدَ أبوابه. فجلا الله له بيت المقدس، فطفِق يخبرهم عن أوصافه وأبوابه باباً باباً، فقالوا: أما النعت فو الله لقد أصاب، يا مُطْعِم، دعنا نسأله عما هو أغنى لنا من بيت المقدس، يا محمد أخبرنا عن عِيرنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيتُ على عِيرِ بني فلان بالرَّوحاء، قد أضلوا ناقة لهم، وانطلقوا في طلبها، فانتهيتُ إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدحُ ماء فشربتُ منه فسَلُوهم عن ذلك. فقالوا: هذه واللاتِ والعُزى آية. قال: ثم انتهيتُ إلى عِير بني فلان، فنَفَرَتْ منيَّ الإبل وبَرَكَ منها جملٌ أحمر لا أدري أكُسِرَ أم لا؟ فسَلُوهم عن ذلك. فقالوا: هذه أيضا آية. ثم سألوه عن العِدَّة والأحمال والهيئات، فتمثلت له العِيرُ فأخبرهم عن كل ذلك، وقال: تَقدُمُ يوم كذا مع طلوع الشمس من الثَّنِيَة، وفيها فلان وفلان، يقدُمُها جملٌ أَورَق. قالوا: وهذه آية.

فلما كان ذلك اليوم خرجوا يشتدُّون ويركضون نحو الثنية التي وصفها لهم، فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس ليكذبوه، وإذ هم كذلك يرتقبون، قال قائل منهم: هذه الشمس قد طلعت. فقال آخر: وهذه العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق فيها فلان وفلان. ثم قالوا: هذا سحر مبين! فأنزل الله تعالى قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾.

نعم إنها فتنةٌ على المنافقين ومنحة ورحمة للمؤمنين، فتنة على المنافقين لأنها أظهرت خفاياهم وكشفت طواياهم، وعرَّفت المجتمع والتاريخ بحقائقهم ودخائلهم، ورحمةٌ للمؤمنين فقد زادتهم إيقانا وغَذَّتْهم إيماناً، وتلقوا بشائر ربهم وشرائع دينهم، مبتهجين مسرورين، إنها ليلة ما أبركها من ليلة، وإنها منحة ما أكرمها من منحة، وإنها ذكرى ما أقدسها من ذكرى، يؤذِن الإسراء والمعراج فيها ببدء انتشار الإسلام وامتداده من جزيرة العرب إلى مختلف بقاع الأرض، وأولها بلاد الشام التي أسري برسول الله إليها وعَرَجَ منها إلى السموات العلى.

اللهم رُدَّ علينا بيت المقدس، ورُدَّ لنا عزتنا وكرامتنا، ورُدَّنا إلى دينك رداً صادقاً جميلاً، لنحمي بيتك المقدس ونطهر أرض الإسراء والمعراج ونكون كما أمرتَ: خيرَ أمة أُخرِجت للناس.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين