الإخبار بالغيب وبشائر النصر - النبي والمتنبي
النبي والمتنبي

بقلم: الشيخ خاشع بن الشيخ ابراهيم حقي

قوله تعالى: (الم , غلبت الروم, في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين). لعل من أوضح الأدلة الإعجازية في القرآن الكريم هي قوله تعالى : (الم , غلبت الروم, في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين).
 
كانت الإمبراطورية (الرومانية) تتمتع بمكانتها الحضارية كأرقى دولة في العالم وقد شغل المؤرخين تاريخ زوال الروم ما لم يشغلهم زوال أية حضارة أخرى.‏
ولكن الدولة الرومانية تعرضت لانتكاسة شديدة على يد (فوكايس) الذي أزاح الامبراطور (موريس) بطريقة وحشية وأعلن نفسه امبراطورا وطالب الفرس بالاعتراف به ملكاً على الروم.‏
ولكن كسرى أبرويز الذي كان حليفاً لموريس رفض الاعتراف بالامبراطور الجدبد, وأغار على بلاد الروم وزحفت جحافله عابرة نهر الفرات إلى الشام ولم يتمكن (فوكاس) من مقاومة الجيوش التي استولت على مدينتي (أنطاكية والقدس) فاتسعت حدود الإمبراطورية الفارسية فجأة إلى وادي النيل، وكانت بعض الفرق المسيحية (النسطورية واليعقوبية) حاقدة على النظام الجديد في روما فناصرت الفاتحين الجدد وتبعها (اليهود) ما جعل غلبة الفرس سهلة.‏
ففقد الروم كل ما ملكوا من البلاد , وتقلصت الإمبراطورية الرومانية وبدأ عبّاد النار يستبدون بالرعايا الروم للقضاء على المسيحية فبدؤوا يسخرون علانية من الشعائر المسيحية المقدسة، ودمروا الكنائس وأراقوا دماء ما يقرب من (100000) من المسيحيين المسالمين وأقاموا بيوت عبادة النار في كل مكان وأرغموا الناس على عبادة (الشمس والنار)  واغتصبوا الصليب المقدس وأرسلوه إلى (المدائن) وبإمكاننا أن نتصور الهوة الكبرى التي حدثت بين الروم والفرس من خطاب وجهه (كسرى) إلى الهرقل من بيت المقدس قائلاً:: (من لدن الإله كسرى الذي هو أكبر الآلهة وملك الأرض كلها إلى عبده اللئيم الغافل  (هرقل) إنك تقول بأنك تثق في إلهك, فلماذا لا ينقذ إلهك القدس من يدي....!?).‏
لم تكد أنباء هذا الصراع بين الفرس والروم وغلبة الفرس تصل إلى الجزيرة العربية حتى بدأ صراع قوي بين أهل الإيمان والشراك في (مكة) لأن الفرس كانوا (مجوساً) يعبدون (الشمس والنار)، والمشركون في هذا الجانب يشتركون مع الفرس في عبادة بعض مظاهر الطبيعة المادية  (عبادة الأصنام) بينما المسلمون يشتركون مع أهل الكتاب في الإيمان بالله وباليوم الآخر والوحي وهذه قواسم مشتركة, ففرح أهل الشرك بهذا الانتصار بينما استاء أهل الإيمان وانتهزها المشركون فرصة للسخرية من المسلمين قائلين: ها هم إخواننا انتصروا على إخوانكم وكذلك سوف ننتصر عليكم ونغلبكم ونقضي عليكم إن لم تصطلحوا معنا وتتركوا ما أنتم عليه من الدين الجديد.‏
وكان المسلمون في (مكة) يومئذ في وضع مأساوي لا يحسدون عليه من الضعف وسوء الأحوال المادية والمعيشية حتى اضطروا أن يأكلوا أوراق الشجر.‏
وبينما هم في تلك الحالة البائسة والليل الحالك والشدة في المعيشة تنزل البشرى على رسول الله ] بهذه الآيات الكريمة: ( الم , غُلِبَتِ الرُّومُ ( فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ , فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ , بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء )]الروم: 1-2[.‏
وقد كتب أحد المستشرقين وهو ( أدوار جيبون)تعليقاً على هذا النبأ والبشرى السارة من السماء يقول: لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعاً لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكومة (هرقل) كانت تؤذن بانتهاء الإمبراطورية الرومانية.‏
لكن الحروب التي وقعت بين الروم والفرس فيما بعد ثم انتصار الروم على الفرس للظروف السيئة التي أحاطت بالفرس رجحت جانب الروم وجعلت (كسرى ابرويز) غير قادر على مقاومة سيل الروم فحاول الفرار من قصره, وساعد على ذلك ثورة داخل القصر الملكي نشبت في الإمبراطورية واعتقله ابنه (شيرويه) وزج بأبيه في سجن داخل القصر حتى لقي حتفه في اليوم الخامس من اعتقاله, وقد قتل ابنه (شيرويه) ثمانية عشر من أبناء أبيه (كسرى) أمام عينيه لكن (شيرويه) هو الآخر لم يستطع أن يجلس على العرش اكثر من ثمانية أشهر حتى قتله أحد أشقائه, وهكذا بدأ الصراع والقتال داخل البيت الملكي ولم يكن من الممكن في ظل هذه الأحوال السيئة أن يواصل الفرس حربهم ضد الروم فأرسل (قباذ الثاني) ابن (كسرى ابرويز الثاني) إلى (هرقل) يطلب الصلح وأعلن تنازله عن الأراضي الرومانية كما أعاد الصليب المقدس, ورجع (هرقل) إلى عاصمته (القسطنطينية) في مارس 628 في احتفال مهيب, كان يجر مركبته أربعة أفيال واستقبله آلاف مؤلفة من الجماهير خارج العاصمة وفي أيديهم المشاعل وأغصان الزيتون.‏
وهكذا صدق خبر القرآن عن غلبة الروم في مدته المقررة أي قبل مضي عشر سنين من نزول الآيات كما هو المراد من كلمة (بضع سنين) في اللغة العربية.‏
وبعد هذه السياحة التاريخية والفكرية فيما جاء القرآن الكريم من صدق في أخباره نُعرِّج قليلاً على السنة النبوية والسيرة التاريخية لهذا النبي العظيم الذي اختارته العناية الإلهية ليكون رسولاً إلى العالمين الذي صدق ما أخبر به وكيف أن الأحداث جاءت كما أخبر.‏
عندما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم  ينشر دعوته بأمر من الله إذ أنزل عليه قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) وقفت الجزيرة العربية بقضها وقضيضها تصده عن السبيل وتمنعه من التبليغ.‏
وكان على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مواجهة ثلاث جبهات:‏
أولاها: القبائل المشركة بعد ان أضحوا أعداء دعوته وحياته (في المرحلة المكية).‏
ثانيتها: اليهود الذين يملكون القوة الاقتصادية والمال الكثير (في المرحلة المدنية) بعد الهجرة.‏
ثالثتها: المنافقون الذين تسربوا داخل المسلمين للقضاء على حركتهم في معاقلهم.‏
فكان الرسول عليه الصلاة والسلام يُجاهد في سبيل دعوته ونشر رسالته على كل هذه الأصعدة قوة المشركين - الرأسمالية اليهودية - الطابور الخامس (المنافقون) غير عابئ بما يلقاه من صدٍ وعَنَتٍ وإيذاء صابراً محتسباً واثقاً من النصر.‏
وقف أمام هذا الطوفان العارم والسيل الجارف بعزيمة لا تلين، وكانت وقفاتٍ رائعةً لا مثيل لها ولم يسانده في مواقفه هذه إلا ثلة من أصحابه الأوفياء من المهاجرين والأنصار. وكانوا في شدة من الخوف والعوز والفاقة والحاجة الشديدة إلى الأنصار ينزل القرآن يبشرهم بالنصر والغلبة: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) و(إن جندنا لهم الغالبون) و(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون)(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ]الصف: 8 - 9[ .‏
وفي ضوء هذه الآيات والمسلمون في مكة يعانون الأمرَّين من قتل وتعذيب وتجويع يبشرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالغلبة والنصر ونستشهد بحديثين أراهما كافيين للاستدلال على ما نقول:‏
أولهما: عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم  وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستغفر لنا, ألا تدعو الله لنا? قال صلى الله عليه وسلم  :(كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه, والله ليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.‏
وثانيهما: عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم  إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا قطع السبيل فقال: (يا عدي هل رأيت الحيرة?) قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها قال: (لئن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله. ولئن طالت بك حياة لتُتحَنَّ كنوز كسرى), قلت: كسرى بن هرمز? قال:( نعم, ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يُخرج ماءَ كفه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله), قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لاتخاف إلا الله وكنت ممن افتتح كنوز كسرى. ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم. رواه البخاري.‏
فكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم  وقع وشاهده عدي بن حاتم في حياته إلى كثرة الأموال إلى هذا الحد فإنها ستأتي في زمن عيسى عليه السلام (من علامات الساعة) وتحقق من هذا شيء كثير في زمن عمر بن عبد العزبز رضي الله تعالى عنه حيث عم بعدله وصلاحه الرخاء البلاد الإسلامية وليس بوسعنا أن نفسر هذه الأخبار من منظورنا البشري وفي ضوء المصطلحات المادية ولابد من التسليم بأن صاحب هذه الاخبار عن الغيب لم يأت بها من عنده وإنما هو خليفة عن الله ورسول من رب العالمين (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال).‏
إذ لو كان إنساناً عادياً غير مؤيد بالوحي لاستحال كل الاستحالة أن يتحقق ما قاله: أو يأتي القدر فيًُصدِّق قوله: ألم يكذّب القدر تنبؤات وأولف وهتلر وكارلس ماركس.....!? وهم من هم في عبقريتهم وأوج قوتهم وكما قال البروفسور (ستوربارت) إنه لا يوجد مثال واحد في التاريخ الإنساني بأكمله يقارب شخصية محمد عليه الصلاة والسلام! ولو أننا درسنا التاريخ من هذه الوجهة فلن نجد فيه اسماً منيراً هذا النور واضحاً هذا الوضوح غير النبي العربي.‏
إن هذا الأمر أعظم دليل على كونه صلى الله عليه وسلم  مرسل من لدن الحق تبارك وتعالى كما اعترف السيد (وليم موير) رغم عدائه الشديد للإسلام بهذا الأمر بطريقة غير مباشرة حين قال: لقد دفن محمد مؤامرات أعدائه في التراب وكان يثق بانتصاره ليل نهار مع قلة الأنصار والأعوان رغم أنه كان مكشوفاً عسكرياً من كل ناحية, وبعبارة أخرى: كان يعيش في (عرين الأسد) ولكنه أظهر عزيمة لا نجد لها نظيراً غير ماذكر في الإنجيل من أن نبياً قال لله تعالى: (لم يبق من قومي إلا أنا ) ولعله يشير بذلك إلى نبي الله موسى عليه السلام كما جاء في القرآن: (ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي).‏
وأخيراً فقد جاء الزمن وصدّق كل ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم  وانتشر الإسلام في الأرض غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً, وها به أهل الأرض كلهم وكانت كلمته العليا حتى تفرق أهله فذهبت ريحهم.‏
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين