الأم الرحيمة - الأم والرحمة

الأمُّ الرحيمة

عثمان قدري مكانسي

     روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :   (( إنّ لله تعالى مئة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون ، وبها بتراحمون ، وبها تعطف الوحشُ على ولدها ، وأخّر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة )) وفي رواية (( جعل الله الرحمة مئة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابّةُ حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه )) (1) .
     وتظهر رحمة الأم ببنيها في أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واضحة جليّة ، فهي مثال العطف والحنان ، ونبع الشفقة والرأفة ، خلقها الله سبحانه وتعالى ينبوعاً يفيض على أبنائها بالحب ، ويؤثرهم بالرفد والعطاء ، فقد جعلها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صورة حية ، ينفذ منها إلى توضيح رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ، فقد روى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قدم رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بسبيٍ ، فإذا امرأة من السبي تسعى ، إذ وجَدَتْ صبياً في السبي (2) ، فألزقته ببطنها (3) ، فأرضعته ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أترون هذه المرأة طارحةًً ولدها في النار ؟ )) قلنا لا والله ، فقال :(( لَلّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها )) (4).
     امرأة وقعت في ذلّ الأسرِ ، حزينة كاسفةُ البال ، كانت سيدة في أهلها وعشيرتها ، حرّة في كنف رجال قبيلتها ، مطاعةٌ في بيت زوجها ، فجعلها الأسر أمةً مملوكة وجارية مأمورة . . حالةٌ نفسيّةٌ صعبة يَذهلُ الإنسانُ بها عما حوله ، ويعتصر الألم قلبه ، ولكنَّ هذا كلّه لم يلهها عن ابنها وفلذة كبدها ، فقد بحثت عنه جاهدة حتى رأته ، فاحتضنته راغبة ، وألقمته ثديها حانيةً ، وضمّته إلى صدرها بين ذراعيها مشفقة ، امرأة كهذه لا تُسلِمُ ابنها إلى مكروه مهما صغُر ، وتدفع عنه الأذى مهما حقـُر ، وتفديه بنفسها من كل ضرِّ .
     امراة كهذه تَهَبُ ابنها كلَّ ما لديها ، وتسعى جاهدة ما وسعها الجهد إلى الذود عنه . . إنها الرحمة ما بعدها رحمة . . فحين انتبه المسلمون إليها ، ورأوا ما فعلته بولدها قالوا بصوت واحد : لا والله ، لا تسلمه إلى النار ولا تطرحه فيها .
     وهنا يلفتُ الرسول الكريم نظر المسلمين إلى رحمة الله بهم ، لهو تعالى أشدُّ رحمة بهم من هذه الأم بولدها . . أيّ رحمة إذاً يدّخرها الرحيم الرحمن لعباده ؟ والربُّ العظيم الغفور لمن آمن به وأطاعه ، وامتثل أمره ؟
     وهذه إحدى بنات النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحتضَر ابنُها فتودُّ أن يحضر أبوها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفاته ، فترسل إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنّ ابني قد احتُضِرَ (5) فاشهدنا ، فأرسل يُقرئها السلام ويقول : (( إنَّ لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمّى ، فلتصبر ولتحتسب (6) فأرسلت إليه تـُقسم عليه ليأتينّها . . . )) (7) .
     فهذه ابنة الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ شأنها شأن الأمهات جميعاً ، ترى ابنها يذوي ويموت . . وبمن تستعين في هذا المصاب الجلل ؟ إنه أبوها رسول الله ـ صلى لله عليه وسلم ـ ، فحين يرسل إليها أن تصبر وتحتسب تفزع إليه مقسمة عليه أن لا يخيّب رجاءها ، وأن يوافيها ، فهي في أشدّ الحاجة إليه ليهوّن عليها المصاب أو يسرّي عنها في فلذة كبدها . .
     وهذه أم الربيع بنت البراء ، وهي أم حارثة بن سراقة الذي قتل في بدر تأتي إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترجو أن تسمع منه عن ابنها الشهيد ما يثلج صدرها فقالت : يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة ؟ . . فإن كان في الجنّة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء ، فقال : (( يا أم حارثة ، إنها جنانٌ في الجنّة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى )) (8) .
     إن فقدان الولد أمر عظيم يمزق القلب ، ويقطع الأحشاء ، ويفتت الكبد . . . وهي تسأل النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن كان في الجنة فسوف تلقاه إن شاء الله ، وصبرُها على فراقه رفعٌ لدرجتها ودرجته (9) في الجنة ، وإن لم يكن كذلك لتبكينّه بحرقة مَن يفقد العزيز الغالي إلى الأبد . . وهذا ما تستطيعه ، وجلّ ما تقدر عليه . . إنها الأم الثكلى والراحمة العطوف .
     وتعال معي إلى هذه الصورة الرائعة المتجسدة رحمة فيما روته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت :
أ ـ    جاءتني مسكينة تحمل ابنيتن لها . .
ب ـ  فأطعمتها ثلاث تمرات .
جـ ـ  فأعطت كل واحدة منهما تمرة .
د ـ    ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها .
هـ ـ  فاستطعمتها ابنتاها .
و ـ   فشقّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما .
     فأعجبني شأنها ، فذكرت الذي صنعتْ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنّة ، أو أعتقها من النار )) (10) .
     إنه الإيثار الرائع الذي جعلها ـ عن رضا ـ تتخلّى عن نصيبها لابنتيها ، ولهذا كانت الجنّة تحت قدميها ، وأوصى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها ثلاث مرات وربَّع بالأب بعد ذلك .
     وقد مرّ في بحث المرأة الكريمة ما فعلته السيدة أم سلمة رضي الله عنها حين سألت رسول الله    ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إنفاقها على بنيها حين قالت :
أ ـ    هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ؟
ب ـ  ولست بتاركهم هكذا وهكذا .
جـ ـ  إنما هم بَنيَّ . . .
     وتقرّر أنها لن تتركهم قبل أن يجيبها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإيجاب ، فالفطرة أجابتها قبل إجابته .
     وهل يحضُّ الإسلام إلا على المبرّات ، وفعل الخيرات ، والعطف على الأرحام وصلتهم ، وغرس الرحمة والودَّ في المجتمع كي ينشأ الأبناء صالحين أبراراً .
     وقد أورد النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصة المرأة كان ابنها يرضع من ثديها ـ وكل أم تحبُّ أن يكون ابنها وجيهاً ، عظيماً ، يُشار إليه بالبنان ـ فمََرَّ رجل راكب على دابّة فارهة وشارَةٍ حسنَةٍ ، فقالت : (( اللهمَّ اجعل ابني مثل هذا ، وكلُّ امرأة لا ترضى لابنها أن يكون خسيساً فاسداً مرذولاً . . فمرَّت به على جارية يضربونها ، ويقولون : زنيتِ سَرَقْتِ . . فقالت الأم حين رأتها : اللهمَّ لا تجعل ابني مثلها . . (11) .
     أما أم أيمن رضي الله عنها حاضنة النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي تكبره سنّاً بست سنوات ـ خدمته رضي الله عنها حتى شبَّ وبلغ مبلغ الرجال ، وكان يناديها أمي . . كان يجلُّها عليه الصلاة والسلام ، وزوَّجََها من أنصاري فولدت له أيمن ، فلما مات زوجها زَوَّجها من زيد بن حارثة رضي الله عنه فولدت له أسامة (( الحِبَّ ابن الحِبَّ )) ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزورها لفضلها        ـ يقول أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ـ بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزورها ، فلما انتهينا إليها بكتْ ، فقالا لها : ما يبكيكِ ؟ ألا تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ !   قالت : إني لا أبكي أني لا أعلم أنّ ما عند الله خير لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء ، فهيّجتـْهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها (12) .
     فقد أحبته كأفضل ما تحب أم ابنها ، وترجو الخير بوجوده ، وانقطع الوحي حين التحق الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرفيق الأعلى ، أفلا تبكي أغلى الأبناء وأفضل الرجال !! ؟
     والرحمة تنفع صاحبتها ولو اقترفت ملء قراب الدنيا آثاماً ، لأنَّ الراحمين في الأرض يرحمهم الرحمن (( وارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء )) (13) . . فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن َّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( بينما كلب يُطيف بِرَكيّةِ ، قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغيُّ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقَها (14) فاستسقت له به ، فسقته ، فَغُفِرَ لها     به )) (15) .
     وهناك كثير من الأحاديث الشريفة تتحدّث عن رحمة المرأة بمن حولها . . . اللهمَّ ارحم نساء المسلمين ، ودلَّهُنَّ على الخير ، واملأ قلوبهن بحبك وحبَّ دينك ورسولك ، ونحن معهن يا رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين