الأمير ألب أرسلان ومعركة ملاذ كرد

الأمير ألب أرسلان (ت: 465 هـ) ومعركة ملاذ كرد

عبد المعين الطلفاح

تولى أمر السلاجقة بعد طغرل بك ابنُ أخيه السلطان الكبير: ألب أرسلان، وكان كعمه قائدًا ماهرًا، محبًا للعلم والعلماء والجهاد، مطلعًا على تاريخ الأمم، كانت أولى أعماله توطيد أركان دولته، ولـمَّا اطمأنَّ لاستقرارها؛ أخذ يخطط لتحقيق أهداف السلاجقة، في التوسع في الأراضي البيزنطية، وتطهير بلاد الشام من رجس الفاطميين العبيديين، وإسقاط خلافتهم في مصر، وتوحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية السنية، ونفوذ السلاجقة.

أخذ ألب أرسلان يوجه الجيوش إلى شمال بلاد الشام، ويخوض المعارك مع البيزنطيين؛ ليحول دون تحالفهم مع الفاطميين ضده، وكان له ذلك، حيث أوقع بالبيزنطيين هزائم متتالية، مكنته من بناء قاعدة له في بلادهم، ثم توجه بعدها جنوبًا إلى حلب؛ فحاصرها حتى صالحه أميرها، على أن يكون تابعًا له، ويدعو على منابرها للخليفة العباسي وللسلطان السلجوقي، وبعد هذا الصلح أخذ السلاجقة يتوسعون في بلاد الشام، يطهرونها من الفاطميين، فوصلوا إلى بيت المقدس ويافا، وطردوا الفاطميين منها، وخطب فيها للخليفة العباسي، وللسلطان السلجوقي.

 

معركة ملاذ كرد (463هـ) (1)

أثارت انتصارات السلاجقة في بلاد الكرج وأرمينية، وما حولها حفيظة بيزنطة، وأردك الإمبراطور البيزنطي: أرمانوس أن ألب أرسلان يصبغ غزوه لبلاده بالطابع الجهادي، وأن الحرب بينهم وبين السلاجقة أمرٌ لا مفر منه؛ فخرج لهم بجحافل أمثال الجبال، مدججة بمختلف أنواع الأسلحة، قُدر عددها بـ (300) ألف مقاتل، فيهم عدد كبير من البطارقة، وقد عزموا على إبادة الإسلام وأهله، والقدر يقول لهم: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: 72]، وما إن علم ألب أرسلان بخروج الروم لقتاله؛ حتى استعدَّ لهم، وكان في قلة من أصحابه، تقدر بـ (15) ألف مقاتل، ومع هذا أصرَّ على ملاقاة جيش الروم الكبير.

أرسل ألب أرسلان لملك الروم يعرض عليه الصلح، لكنه تكبر وطغى، وتوعد أن يفعل ببلاد المسلمين ما فُعل ببلاد الروم؛ فحمي ألب أرسلان بعد ذلك لخوض المعركة، فلبس حنوطه واستعدَّ للموت، ومرَّغ وجهه بالتراب، وابتهل إلى الله بالدعاء، واستنفر جنده، وحضهم على الصبر والثبات، ثم لقي الروم يوم الجمعة والخطباء على المنابر يدعون للمجاهدين، وذلك عام: (463 هـ)؛ فزلزل الله الروم، وقذف الرعب في قلوبهم؛ فانكسروا، ونصر المسلمين عليهم؛ بعد أن قتلوا منهم مقتلةً عظيمةً، وأسروا خلقًا كثيرًا، كان على رأسهم: ملك الروم أرمانوس نفسه، وكان هو أول امبراطور بيزنطي يقع أسيرًا بأيدي المسلمين؛ فجيء به إلى ألب أرسلان، فافتدى نفسه ومن معه من الأسرى بأموال كثيرة؛ بعد أن قبَّل الأرض بين يديه، وقبَّل الأرض إلى جهة الخليفة العباسي؛ إجلالًا وإكرامًا (2).

يطلق بعض المؤرخين على معركة (ملاذ كرد) اسم الملحمة الكبرى؛ لأنها تعتبر من المعارك الفاصلة في التاريخ، فهي أكبر نكسة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية، توسع بعدها السلاجقة في جوف آسيا الصغرى توسعًا كبيرًا، ونشروا الإسلام فيها؛ وأسسوا فيما بعد ما عرف في التاريخ باسم: (سلطنة سلاجقة الروم)، وإذا كانت معركة اليرموك قررت مصير بلاد الشام؛ فإن معركة ملاذ كرد قد قررت مصير آسيا الصغرى، وبررت للتدخل الأوربي فيما بعد فيها، وقطعت التحالف البيزنطي الفاطمي.

وهكذا استطاع الأمير ألب أرسلان غزو بلاد الروم مرتين، وكسر شوكتهم، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية، وإعادة الهيبة للخلافة العباسيَّة، كما استطاع تطهير بلاد الشام من الفاطميين، وكاد أن يتملك مصر، ثم توفي عام (465 هـ) وعمره أربعون سنة، فعليه رحمات الله، ثم خلفه ابنه ملكشاه.

 

الهوامش:

(1) جاء ذكر هذه الواقعة في كتب التاريخ بأسماء مختلفة، منهم من سماها: ملازكرد، ومنهم من سماها: منازكرد، ومنهم من سماها: مانزيكرت، وغيرها من الأسماء.

(2) ينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 8/223، وينظر: ابن كثير: البداية والنهاية، مصدر سابق، 12/100، وينظر: الذهبي، محمد بن أحمد، العبر في خبر من غبر، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، د. ت) 2/313، وينظر: اليافعي، عفيف الدين عبد الله بن أسعد، مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1417/1997) 3/67، وينظر: طقوش، تاريخ سلاجقة الروم في آيبا الصغرى، مصدر سابق، ص: 48.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين