الأستاذة يمان علي الطنطاوي - الداعية المربية والمعلمة الناصحة
الأستاذة يمان بنت علي الطنطاوي
بقلم: مجد مكي
ولدت في دمشق في التاسع عشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1955، وفيها عاشت إلى أن أنهت قسماً من دراستها الابتدائية.
* انتقلت إلى مكة المكرمة مع والدها الشيخ علي الطنطاوي سنة 1964، وفيها أتمت دراسة المرحلتين الابتدائية والإعدادية.
* تزوجت عام 1970 الأستاذ نادر حتاحت الذي بدأ حياته مدرساً، ثم عمل في مجال المحاسبة وارتقى حتى صار المدير المالي لواحدة من الشركات الكبرى في المملكة، واستقل بعد ذلك بعمله حيث أنشأ "دار المنارة" للنشر والتوزيع، وقد اختصت بنشر وتوزيع كتب الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله)، استمرت في الدراسة من منزلها حتى حصلت على الثانوية العامة، وخلال ذلك أنجبت ولديها: (عمرو وعلاء) وبنتيها: (عبادة وعفراء).
* تفرغت لتربية أولادها، وبعد عشرة أعوام من الانقطاع التحقت بقسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز وحصلت على البكالوريوس عام 1409هـ، عُيّنت معيدة بجامعة الملك عبد العزيز في قسم الدراسات الإسلامية وانقطعت ثانية عن الدراسة لتتفرغ للتدريس ثم عادت لها لتحصل عام 2003 مـ على درجة الماجستير بامتياز مع مرتبة الشرف والتوصية بطبع بحثها الذي كان بعنوان "مفردات المذهب الحنفي في الطهارة والصلاة".
* درّست في جامعة الملك عبد العزيز ثماني عشرة سنة موادّ كثيرة منها الفقه والتفسير والثقافة الإسلامية بجميع مستوياتها، كما دأبت بانتظام على إلقاء الدروس الفقهية الأسبوعية لمجموعات من الشابّات غير الجامعيات، بالإضافة إلى محاضرات في هيئة الإغاثة العالمية وسواها من الهيئات والجمعيات.
* وكان يقلقها تمييع الثوابت والأصول الإسلامية لدى المسلمين وقابلية تغييرها والتهاون بها، لذا كانت تسعى لتثبيت الأصول التي لا يمكن لها أن تتغير، فاجتهدت بجمع خمسة أصول من خلال أسماء الله وصفاته جمعت بها توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، وكانت مهتمة أن تنعكس على حياة الناس. وكانت تشرف على مشروع (طود) الذي تتلخص رؤيته بـ: "ردم الفجوة بين الثوابت الإسلامية وشخصية المسلم".
توفيت في حادثة سيارة قربة جدة ليلة الجمعة الثامن عشر من شوال سنة 1429، الموافق للسابع عشر من تشرين الأول 2008 أثناء عودتها من حضور وليمة عقيقة عند بنت أختها بمكة المكرمة وبعد طوافها في البيت الحرام قبيل ساعة من رحيلها إلى الدار الآخرة .
كتبت عنها ابنتها عفراء زوجة الأخ علي بن هاشم معيني :
أنا اليوم في الثالثة والعشرين.. أمٌ لطفلين.. وأشعر أنني طفلةٌ صغيرة أضاعت أمها في السوق.. تستند على الحائط لتحتمي به.. فحمايتها ليست معها.. أمانها بعيدٌ عنها.. تدعوا الله أن تجد أمها سريعاً..
لكنك رحلت.. ورحل معك ظهرٌ يحميني.. حمايةٌ تحيطني.. حبٌ وعاطفةٌ تُغرقني..
لكم أحسست بالفخر حين تشبهينني بك.. أو يُشبهني الناس بك.. لكم أحسست بالثقة بنفسي وأنت تدعمين تصرفاتي.. مهما تأكدت في قرارة نفسي أنني فعلت الصواب وأيدني من حولي.. لا أرتاح إلا بدعمك.. حتى وإن كان ابتسامةً منك تكفيني..
- يا ماما سلمي لي على جدي وجدتي وخالتي بنان..
أذكر كل هذا.. أبكي وأحمد الله.. أحمد الله أن متِّ يوم الجمعة.. أحمد الله أن مت فوراً بلا ألم.. أحمد الله أن ودعت الحرم بعد العقيقة.. أحمد الله أن دفنت بسرعة.. أحمد الله أن قدَّر لي وداعك.. أحمد الله على سرب الحمام الذي واساني.. حلَّق فوق المقبرة وحطَّ على قبرك بسكينة أراحت كل من كان..
أحمد الله أن قدَّر لي أماً مثلك.. لم تقل يوماً إلا ما تفعل.. عالية الهمة.. قوية.. صادقة.. حكيمة.. معطاءة..
أعجبت بك أماً وزوجةً وكنةً وأستاذةً وجدة.. وأتمنى أن أكون ولو جزءاً منك..
عندما دخلنا البيت بعد خمسة أيامٍ من وفاتك.. بكيت أكثر من قبل.. قلت: اليوم ماتت أمي..
مستغربة.. حزينة.. متألمة.. ومشتاقة لك.. أتمنى أن أجدك في أركان البيت.. كيف سآتي إلى هنا بدونك؟! كيف سأربي أولادي بدونك؟!
مهما حدثت الصغار عنك لن أَفيك حقك..
لك علي أن أفعل ما وعدتك.. ولك على أنني سأسير على خطاك.. أن أكون أماً رائعةً كما كنت لنا.. زوجةً مثاليةً كما كنت لأبي.. ابنةً بارةً بك وبأبي.. وأمةً طائعةً لربها.. عسى الله أن يُبلغني ما بلَّغك..
اللهم ارحم أمي.. اللهم اغفر لها..
ووسع مدخلها.. واجمعني بها في جناتك)..
وقالت عنها أختها أمان :
يمان توأم روحي، أختي الصغرى.. وعيتها طفلة وعرفتها شابة وصاحبتها سيدة وأستاذة جامعية.. يمان إنسانة دؤوب، إذا قررت الوصول لغاية سعت لها بكل طاقتها. كنا صغيرات، وكان الوالد يخاف علينا من نسمة الهواء.. لذا عند أقل تعب يقول لا تذهبن إلى المدرسة.. لا تدرسن. كنت أسر بذلك، أما هي فكانت تضع الكتاب تحت السرير وتدرس على الضوء الخافت، وتحرص على دوام المدرسة مهما كانت الظروف، حتى أنها في مرة من المرات (وكانت في السنة الابتدائية الرابعة وكنا نسكن عمارة الكعكي بمكة في الدور الثامن) نزلت بالمصعد فلم تلحق بحافلة المدرسة، ومع هذا أصرت على اللحاق بها وظلت الحافلة تسير وهي تركض وراءها، كلما توقفت لأخذ طالبة أسرعت الخطو حتى لحقت بهت في المسفلة.. وركبت ووصلت إلى المدرسة. كانت تحرص على أن تكون الأولى دائماً، ومع هذا فهي مثلي تحب القراءة. قرأنا معاً كتب الأدب العربي ودرسنا معاً الفقهَ والحديث.. ثم تزوجت أنا بعد الثانوية وتزوجت وهي في المتوسطة، وقررت إكمال دراستها بعد الزواج فأكملت منازل.. مع إنجابها ولدين. ثم قررت إكمال دراستها الجامعية، فداومت ودرست ونجحت بتفوق، ثم أصبحت أستاذة.. لست أنا من يذكرها في ميدان الجامعة بل طالباتها.. كانت مخلصة في عطائها، واضحة في عباراتها، لا تحب الكلام الكثير لكنها توصل الفكرة بكل وضوح. درست عندها ابنتي فقالت إن خالتي يمان دائماً تستشهد بأقوالك وتقول أختي أمان.. مع أنني كنت أستشهد بأقوالها رغم أنها تصغرني ودرست الشريعة بعدي، إلا أنها فاقتني حفظاً ورواية.
في حياتها كان التصميم يصبغ حياتها.. إذا صممت على شيء فعلته. أعطيها الفكرة فتنفذها أكثر مني، وتحافظ على تنفيذها بإتقان.. لا تحب الاعوجاج بل تحب الوضوح، ولا تسلك إلا الطريق المستقيم. كانت معطاءة، وأظنها كانت ممن ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
وأهم ما يميزها السرعة، تعيش في عمل يجب أن تسرع به.. وهذا حصل معها في حياتها، فها هي أنجزت مهمتها في عجلة ورحلت تاركة أسرة لا تستطيع الحياة بدونها.. تركت فراغاً في حياتنا لا أتخيل كيف سنتحمله.. لكنني ما أؤمن به في الفقد أن مكان أحبتنا في حياتنا سيظل محفوظاً في هذا الفراغ، ولو أننا حاولنا ملأه.. عندها فإننا سنفقدهم.
وقال عنها ابن أختها الدكتور مؤمن مأمون ديرانية:
(فقدت اليوم خالتي.. خالتي الصغرى التي لا يفصل بيني وبينها إلا ثماني شهور.. رفيقة أيام الصبا وصديقة أيام الشباب.. وكنت أدخرها أختاً لأيام الشيخوخة.. فشاء الله أن يختارها إلى جواره.. عليها رحمة الله.
بفقدها اليوم فقدت جزءاً من عمري الذي مضى، وأحسست بالموت أكثر من أي وقت مضى. الموت الذي نقترب منه كلما فقدنا عزيزاً ثم نعود لدنيانا بعد حين، لكني اليوم وأنا أفقد إنساناً بهذا القرب أجدني أحسّ، مع حرقة القلب، أحسّ بلفح رياح الموت وهي تأخذ أحدنا وتترك بقيّتنا إلى حين، إلى أجل محدود إذا جاء وقته ليس لأحد أن يتأخر عنه. عندما نفقد إنساناً بهذا القرب لا تعود الأيام بعده كما كانت قبله أبداً، بل تبدأ حقبة جديدة علينا أن نحياها بدونه).
وقال عنها ابن اختها مجاهد مأمون ديرانية
(كانت من أجود من عرفت من الناس، إذا أتاها المال احتارت كيف تنفقه، ثم لا يمضي غير قليل حتى تصرّفه فلا يكاد يبقى منه شيء! وإذا سمعَت بقوم محتاجين سبقَت يدُها بإخراج المال من محفظتها عقلَها في التفكير بالإنفاق، وإذا سمعنا بمصرف من مصارف الصدقة فأخرجنا من الجيوب العشرات وجدناها قد أخرجت المئات، فإذا أخرجنا المئات وجدناها تخرج الألوف، فكانت سابقة أبداً. ولسوف يفتقدها اليوم أناس كانت تسعهم بما آتاها الله من فضل ومال.
وكانت قد درست وتفقهت في الدين حتى صارت مرجعاً للسائلين والسائلات، فلا ترد عن هاتفها متصلاً ولو جانبه حسن اختيار الوقت، ولطالما قطعَت عملها واقتطعت من وقت راحتها لتجيب سائلة أو تفتي مستفتية. ولسوف يفتقدها اليوم أناس كانت تسعهم بما آتاها الله من فقه وعلم.
وكان يسعها أن تجيب بمقدار ما تقتضيه المسألة من الفقه وتمضي، ولكن الكثيرات ممن يستفتينها كنّ يجمعن إلى الاستفتاء استشارة، وتخلط الواحدة منهن مسألتها بمشكلتها، فكانت تنفق من وقتها ساعة أو نحوها في الحالة الواحدة في المرة الواحدة، ثم تتكرر الحالات وتتكرر الاتصالات... رأيت كثيراً من ذلك غيرَ مرة، فكانت تقطع حديثها معي، وربما تركت الغرفة كلها إذا كانت المشكلة التي تعالجها ذات خصوصية وسرية، فلا تكشف سر أحد لأحد ولا تنشر مشكلات بعض الناس على سائر الناس. ولسوف يفتقدها اليوم أناس كانت تسعهم بما آتاها الله من حب واهتمام.
لقد فتحت بيتها وقلبها وجيبها لمئات من القريبات والصديقات، ولسوف يفتقدها اليوم مئات من القريبات والصديقات)
رحمها الله تعالى وأجزل ثوابها ورفع درجتها في المهديين وأخلف لها في عقبها في العابرين وجعلها من ورثة جنة النعيم.