استعباد العقول

 

حكاية صينية قديمة من القرن الرابع عشر اسمها "سيد القرود" تقول :?( كان هناك رجل استطاع البقاء على قيد الحياة من خلال احتفاظه بمجموعة من القردة ، وكان الرجل يجمع القردة كل صباح ويأمر أكبرها أن يقودها إلى الحقول لجمع الفاكهة . 

وكان "سيد القردة" يفرض على قردته الكادحة تقديم عُشر ما يجمعون، ويعاقب كلَّ قرد لم يفعل بجلده  دون رحمة. 

كانت معاناة القرود عظيمة، ولكنها لم تجرؤ على الشكوى. 

وفي يوم من الأيام سأل قرد صغير القرود الأخرى قائلاً: هل هذه الحقول مِلك للرجل ؟. فأجابوه: كلا، ثم تساءل القرد الصغير فقال: إذاً هذه الحقول مِلك لنا جميعاً ، أليس كذلك ؟ ، فأجابوه : بلى . 

قال: فلماذا يتوجب علينا تحمل القهر والذل لخدمة الرجل .؟!!

?فهمت القردة جميعها ما كان يرمي إليه القرد الصغير فقامت بتمزيق قضبان أقفاصها واستعادت ملكية أرضها ، وامتنعت عن العمل لخدمة الرجل، وفي النهاية مات الرجل جوعاً ).

إذا استبدلت (مجتمع القرود) في القصة الرمزية  بكلمة (العوام) لـ "عبد الرحمن الكواكبي" في هذه الفقرة فستجد أفضل تفسير لرموز هذه القصة : ( العوام هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا ، وإذا خافوا استسلموا ، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا ، ومتى قالوا فعلوا . والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة ، فإذا ارتفع الجهل وتنور العقل، زال الخوف وأصبح الناس لا ينقادون لغير منافعهم ، وعند ذلك لابد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال ).

إن الرمز الأساسي في هذه القصة أن قوة المستبد الحقيقية ليست في قوة البطش ، بل في شعب جاهل تابع خائف يسير كالقطيع لا يسأل ولا يفكر ، ويوم يعود للشعب وعيه فستنهار قوة الديكتاتور وأعوانه مهما بلغوا من بطش .

ولذلك فالعدو الأساسي لهذا النمط من الحكام هو ( الوعي ).

وأقرب المقربين له وأكثرهم مساعدة له هم من يقوم بتزييف الوعي من إعلاميين وسياسين وكتاب وفنانين .. هؤلاء هم أهل الحظوة فهم بمنزلة سحرة فرعون :( وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا أَإِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ . قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ).

وأعدى أعدائه هم من يفكرون ويخططون ويعملون على كشف الزيف وإضاءة شمعة في ظلام فساده وبث الأمل وروح العمل في التخلص منه .

ونظرة سريعة في سجون الطغاة تأتيك بالنبأ اليقين ، فنزلاؤها من الجواهر النادرة التي تلمع بالوعي في ظلام الزيف الذي ينشره .

ومن جميل رموز هذه القصة أن الذي استنكر هذا الوضع الشاذ وبدأ يفكر ويطرح الأسئلة هو قرد صغير ، يعني ليس من هذا الجيل الذي تعود على السخرة .

ولذلك فالسلطة الديكتاتورية تربي هذا الجيل في مدارسها على التلقين والحفظ والبعد كل البعد عن تربية العقلية النقدية والتساؤلية ، وتعتبر المشاركة السياسية للطلبة جريمة .

أما باقي عناصر تشكيل الوعي من مجتمع وفن وثقافة وإعلام ... فهدفها تركيز الخداع عن طريق الإلهاء والإفساد .

إن عودة الوعي وإعادة الثقة للشعب في قدراته هي أم المعارك ، ويوم يعود للشعب وعيه ، ويكتشف قدراته ويمتلك زمام المبادرة ويقرر عدم العودة للأقفاص الحديدية،  ويحطم قيوده ، يومها لن يصبح هو الشعب الذي عرفه الديكتاتور وركب على ظهره زمناً ، وسيصرخ بدهشة صرخة القذافي المشهورة : ( من أنتم ).؟!!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين