إنسانية العفو في الإسلام

               


بقلم الدكتور محمود أحمد الزين


العفو خلق إنساني كريم يدعو الناس في كثير من الأحيان ـ حين تذهب عنهم العصبية ـ إلى أن ينضموا إلى أهل هذا الدين ويدخلوا في نطـاق هـذا الدين الإنساني النبيل دين الإٍسلام .العفو من أخلاق الفضل لا من أخلاق العدل فقط ، فالعدل أن تأخذ حقك من الآخرين والفضل أن تهب الناس ما لا يجب لهم عليك وتتنازل عن حقك لهم رحمةً وتفضلاً وإحساناً .وقد حثنا الله عز وجل على العفو فقال تعالى : [وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ] {النور:22}  وهذه الآية جاءت في مناسبة الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سمعة زوجته يوم حادثة الإفك وهو أمر قد يحسبه الناس هيناً وهو عند الله عظيم بل إن الله سبحانه وتعالى أمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب الذين كانوا يرغبون في أن يردوا المسلمين عن دينهم حسداً من عند أنفسهم فقال سبحانه وتعالى : [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {البقرة:109}  ولم يأمر بعقابهم إلا بعد أن تمادوا في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونقضوا عهده وتحالفوا مع أعدائه وحتى في حالة الحرب والتي اشتد فيها أذى المشركين أهل الأوثان يوم غزوة أحد حيث قتلوا من أصحابه سبعين رجلاً ومثلوا بهم أسوأ التمثيل أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بالعدل عند الانتقام ثم حثهم على الصبر والعفو والتسامح فقال سبحانه : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير الصابرين ) وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كلها يعامل الناس بالعفو والتسامح والإحسان فكان العفو عنده خلقاً دائماً إلا أن يجد أن الإنسان الذي عفا عنه لا يتعامل معه معاملة من يعترف بالعفو ويعترف بالحق بل يعامل النبي صلى الله عليه وسلم معاملة من يريد أن يستغل عفوه ويستغل رحمته حينئذٍ يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم معاقبة الحق لا معاقبة الظلم معاقبة العدل ـ الذي هو ميزان الله عز وجل ـ إذا لم ينفع الفضل مع ذلك الإنسان و كان على هذا الخلق مع الناس جميعاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن لقي الله تبارك وتعالى كان يعامل الأفراد بذلك وكان يعامل الجماعات بذلك وكان يسأل الله عز وجل للناس الرحمة مع أنهم قد ظلموه وهذا من أعظم أنواع العفو التي يمكن أن يأتي بها إنسان صاحب خلق إنساني رفيع .رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله تعالى وأعلن دعوته للناس آذاه قومه إيذاءً شديداً وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما كان ساجداً عند البيت جاءه رجل من قريش فأخذ أقذار ذبيحة كانت قد ذبحت فألقاها على ظهره صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ما نالهم من النبي صلى الله عليه وسلم إلا العفو و إلا الصفح .كثير منهم آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذاءً شديداً وأظهر ما يُرى هذا في موقفه صلى الله عليه وسلم يوم الطائف سلط عليه أولئك الكافرون الرفضون دعوته سلطوا عليه سفهاءهم ومجانينهم وصبيانهم أن يرموه بالحجارة وأن يشتموه وخرج صلى الله عليه وسلم من الطائف والحجارة تصيب عقِبيه ـ أي قدميه من خلف ـ فتدمى أقدامه صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتهى إلى خارج البلد جلس يدعو الله عز وجل فيقول صلى الله عليه وسلم في دعائه : ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُحِلّ بي غضبك أو تُنْزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ) يأتيه حينئذٍ ملك الجبال فيقول له : ( إن الله عز وجل أمرني أن أطيعك فيهم فإن شئت أن أطبق عليهم الجبال فعلت ) فما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقول : ( لا يا أخي عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله ) وهذا كثر منه صلى الله عليه وسلم كلما آذاه قومه كان يقول : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) نعم ، الله تبارك وتعالى حث رسوله صلى الله عليه وسلم وحث أمة رسوله صلى الله عليه وسلم على العفو وبذلك كانوا يعاملون الناس وكانت هذه المعاملة سبباً لدخول كثيرين منهم في الإسلام .كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أصحابه وجاءه وفد من الأعراب قال سيدهم : يا رسول الله إن قومي قد أسلموا وإنه جاءتهم هذه السنة سنة قحط ولا نبات في بلادنا وإني أخشى أن يتشاءموا ويقولوا ما أصابنا هذا إلا من هذا الدين فلو أعطيتني شيئاً أنفقه عليهم خشية أن يتركوا هذا الدين ويتشاءموا به ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ شيء فإذا برجل يهودي يقال له : زيد بن سُعْنَة أو زيد بن سعية حسب اختلاف الروايات ، زيد هذا عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرضه مقداراً من التمر كبيراً على أن يعطيه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم القادم فأخذ منه النبي صلى الله عليه وسلم ليعطي أولئك المحتاجين .وههنا تظهر رحمته صلى الله عليه وسلم يستدين لينفق وهذا مما لا يقدر عليه إلا أولوا العزم من أنبياء الله عز وجل ومن كان على سيرتهم .ثم جاء هذا الرجل زيد بن سعنة قبل أن يحين الأجل بقليل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أعطني حقي قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الأجل لم يحن ) فأخذ الرجل برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند عنقه وشده شداً عنيفاً حتى أثّر في عنقه وقال : يا محمد أعطني حقي فإنني ما علمت يا بني هاشم إلا أنكم قوم مطل أي تماطلون في أداء الحقوق  .لم يزد النبي صلى الله عليه وسلم على أن تبسم في وجهه وإذا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه يغضب لهذا الأذى فيقول : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا الكافر فقد آذى لله ورسوله .فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عفا عن الرجل يا عمر كنت أنا وهو أحوج منك إلى غير هذا ، كنتُ أحوج إلى أن تأمرني بحسن الأداء وكان أحوج إلى أن تأمره بحسن الطلب فيقول اليهودي زيد بن سعنة : "أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله " والله يا رسول الله ما حملني على ما صنعت إلا أني قرأت أخلاق الأنبياء في التوراة فوجدت صفات الأنبياء ونظرت إليك فوجدتها كلها فيك إلا هذا الخلق لم أجربه فجربته اليوم وهو أن النبي يسبق حلمُه غضبَه وعفوُه انتقامَه ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً وقد رأيت ذلك يا رسول الله وهذا ما دعاني إلى الإسلام .هذا جانب من جوانب صفح النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو تطبيق لأمر الله عز وجل وقدوة للناس جميعاً ، تطبيق لأمر الله تعالى في قوله :
[وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ] {النور:22} وقدوة لكل إنسان مسلم ليتعامل مع الناس بالإنسانية فيكشف للناس جميعاً أن دينه دين الإنسانية فهذا هو التعامل الذي يسوق الناس إلى الإسلام ،والجهاد لم يكن يوماً من الأيام سبب قهر الناس على الإسلام وإنما الجهاد مرادٌ منه كسر شوكة الطغاة الذين يحولون بين أممهم وبين معرفة الإسلام ثم يعطي الإسلام للناس حريتهم ويعاملهم بأخلاقه الإنسانية ، يعاملهم بالرحمة ،يعاملهم بالعدل، يعاملهم بالصفح ، يعاملهم بالإحسان ليعرفوا أن هذا كله من رحمة الله الذي أنزل هذا الدين .هذا الدين الذي جعل فيه الأخلاق الإنسانية الكاملة التي يعيش الناس في ظلها مرحومين متآخين متعاونين على ما تحتاجه الحياة الإنسانية .ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو القدوة المثلى في كل موقف من المواقف في العفو والصفح ولو أنت ذهبت تنظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدتَها كلها قائمة على هذا العفو .كنتُ قلتُ : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أخلاقه العفو ولكنه كان إذا وجد الذي يعفو عنه لا يعرف قيمة هذا المعروف ويريد أن يستغله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعامله بالعدل .أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر رجلاً يقال له : أبو عزة الجمحي كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد الغزوة قال : يا محمد إني رجل ذو عيال وإنما عندي بنات لا كاسب لهن فإن شئت أن تعفو عني فعلت فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون فداء وشرط عليه أن لا يهجوه ولكن الرجل بعد أن عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى مكة وراح يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويطعن على دعوته إذاً هذا رجل لا يستحق العفو وما زاده العفو إلا إيذاءً و إلا إجراماً ويوم أحد وقع في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب العفو من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا والله لا تمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمداً مرتين ) المخادع لا يستحق العفو والصفح ولذلك عامله رسول الله صلى الله عليه وسلم ههنا بالعدل فقتله لأنه جاء يقاتله ومن جاء يقاتلك كان حريصاً على قتلك فإذا ظفرت به فمن العدل أن تقتله لا سيّما إذا لم ينفع معه العفو .العفو هو الخلق الإنساني النبيل الذي أمرنا الله عز وجل به ودعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وكان فيه قدوتنا المثلى .والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين