إمام دار الهجرة..انصاف وتواضع وورع

كان الإمام مالك - رحمه الله تعالى - غاية في الإنصاف والتواضع والورع، عميق الفقه، بعيداً عن الإعنات والأنا والتكلف، وما قصته في رفضه أمر المنصور تعميمَ كتابه الموطأ إلا صفحة من تلك الصور.

 

يقول الامام مالك رحمه الله: «لما حج أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إني عزمت أن آمر بكتبك هذه التي قد وضعت (يعني الموطأ) فتنسخ نسخاً، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها، ويدَعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدَث؛ فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم.
 
قلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا! فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به، ودانوا به من اختــلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وإنّ ردَّهم عما اعتقدوه شديد، فدَعِ الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم» ( المصدر :الموطأ، رواية محمد بن الحسن1/5) ، فهذا نموذج من أعظم صور التعلق بالحق والتجرد له والبعد عن التعصب والأنا.
 
وكان - رحمه الله تعالى - شديد التعلق بكتاب الله - تعالى - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، نابذاً لما عارض ذلك.
 
ومن المأثور عنه في هذا المضمار قوله: «ليس كل ما يقول الرجل - وإن كان فاضلاً - يُتَّبع، ويُجعَل سنة، ويذهب به إلى الأمصار، قال تعالى: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:٧١-٨١][ ترتيب المدارك1/182].
 
وكان يحذِّر أصحابه من التعلق برأيه في مواجهة النص؛ حيث قال: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه»[الاعتصام 2/301]. ذلك أنه كان يرى أن صلاحَ خَلَفِ الأمة لا يكون إلا بانتهاج ما كان عليه سَلَفُها من التمسك بالكتاب والسنة، ولذلك قال: «لا يُصلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها»[ الرد على الجهمية12].
ولقد كانت محبة السنة النبوية والذود عنها والسعي إلى حفظها؛ أحد أهم الأسباب التي دفعته إلى تصنيف موطئه الذي توخى فيه اختيار أصحّ أحاديث أهل الحجاز وأوثق ما نُقِل من أقوال الصحابة، مع أصوب فتاوى التابعين، من غير انتصار لرأي، أو نبذ لحقيقة، أو رفض لحجة.
وقد ورث عن مالك كبراء علماء المالكية منهجه، فذموا التعصب لمذهب ووسموه بكل نعوت القبح.
يقول أبو العباس المقري، وهو من كبراء علماء المالكية: «قد ضل بعض الناس، فحمله التعصب لمذهبه على التصريح بما لا يجوز في حق العلماء الذين هم نجوم الملة»[نفح الطيب 2//521]، بل عد المقري معارضة النصوص بأقوال الرجال من أشنع أنواع التعصب وأبشع صنوف التنكب عن الحق، فذكر جملة من القواعد الفقهية تعد جواهر في هذا الخضم، حيث يقول: “ لا يجوز رد الأحاديث إلى المذاهب على وجه ينقص من بهجتها، ويذهب بالثقة بظاهرها؛ فإن ذلك إفساد لها وغضٌّ من منزلتها، لا أصلح الله المذاهب بفسادها، ولا رفعها بخفض درجاتها، فكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»[ قواعد المقري 2/396].
ويطالعنا بقاعدة أخرى نحن أحوج ما نكون إليها في هذا الزمان الذي استشرى فيه التعصب المذهبي والتعلق بآراء الرجال بعيداً عن أي مستند من الوحي، فيقول: « لا يجوز التعصب للمذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحِجَاج وتقريبها على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ والمرجوحية عند المجيب كما يفعله أهل الخلاف، إلا على وجه التدريب على نصب الأدلة والتعلم لسلوك الطريق بعد بيان ما هو الحق؛ فالحق أعلى من أن يُعلَى عليه وأغلب من أن يُغلَب»[قواعد المقري 2/397].
وهكذا نجد النظرة نفسها عند الإمام القرافي حين يبين مسلكه في كتابه الذخيرة قائلاً: «وقد آثرت التنبيه على مذهب المخالفين لنا من أئمة المذاهب الثلاثة ومآخذهم في كثير من المسائل؛ تكميلاً للفائدة، ومزيداً في الاطلاع؛ فإن الحق ليس محصوراً في جهة؛ فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى وأعلق بالسبب الأقوى»[ الذخيرة1/135].
وهذا الإمام الشاطبي يبين أسباب التعصب المذهبي ومضاره وأنه خروج على منهج السلف بقوله: «ولقد زلّ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال؛ أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم؛ فضلّوا عن سواء السبيل»[الاعتصام 2/302].
وخلاصة القول: إن الإمام مالكاً من أعلم علماء الأمة، وأكثرهم تعلقاً بالدليل، وأوضحهم مسلكاً، وأنصعهم عقيدة، وأبعدهم عن التعصب لرأيه أو رأي غيره، ولم يكن يترك الدليل ليعارضه بآراء الرجال، وكذلك كان كبار علماء المالكية.
ذلك أن الارتماء في أتون التعصب المقيت يتعارض مع المنظومة الإسلامية، وتقلاه العقول السليمة لما يُفضي إليه من تمزق المجتمع الإسلامي، وفُشوّ المشاحنة والبغضاء والإعراض عن الوحي، وهو الأمر الذي يتعارض مع نصوص كثيرة ظلت تدعو إلى الألفة والمحبة ونشر الإخاء، كقول الله - جل ذكره -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: ٣٠١]، وقوله - تعالى - : {وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: ١٧]، وقوله - جل وعلا -: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: ٠١]، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن دخول المؤمنين الجنةَ مشروط بتحابُبِهم «والذي نفسُ محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا..»[مسلم]، فالأصل الضامن للنجاة يتمثل في التزام المحجة البيضاء التي ترَكَنا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي سار عليها الامام مالك وغيره، رحمهم الله جميعاً.
ترجمة مختصرة للإمام مالك بن انس رحمه الله تعالى – (موقع الفقه)
اسمه ونسبه :
مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن عمرو بن الحارث إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة .
ينتهي نسبه إلى قبيلة يمنية وهي ذو أصبح .
مولده ونشأته وصفاته :
ولد سنة ثلاث وتسعين للهجرة ـ على الصحيح ـ في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فرأى آثار الصحابة وتتلمذ على يد تلاميذ الصحابة .
كانت أسرته أسرة علم ، فطلب العلم صغيرا .
طلبه للعلم :
ـ قال لأمه أنه يريد أن يذهب ليطلب العلم فألبسته أحسن الثياب وعممته ثم قالت اذهب فاكتب الآن .
ـ جلس إلى ابن هرمز نحو من سبع أو ثمان سنين .
ـ قال مالك سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي للعالم أن يورث جلساؤه قول لا أدري .
ـ درس على يد ابن شهاب الزهري عالم الحديث والتابعي الجليل .
ـ سئل مالك هل سمعت عن مالك بن دينار : قال رأيته يحدث والناس قيام يكتبون فكرهت أن أكتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنا قائم .
ـ قال الإمام مالك كما في طبقات المالكية : حج أيوب السختياني حجتين فلم أكتب عنه الحديث ، فلم حج حجته الأخيرة جلس في فناء زمزم فكان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فكتبت عنه .
ـ درس الإمام مالك على يد ربيعة الرأي من فقهاء المدينة السبعة .
تدريسه ونشره للعلم :
ـ لم يجلس للتعليم إلا بعد أن شهد له سبعون من أهل العلم أنه أهل للفتوى .
ـ علم العلم في المسجد فلم يرى عليه غير ضحكة أو اثنتين في خمسين سنة ثم في آخر حياته درس في بيته لمرضه .
ـ ولك أن ترى درس للإمام مالك لتراه : أبيض الثياب يغتسل ويتطيب ويجلس في مجلس عليه الوقار .
ـ وقد سئل عن مسألة افتراضيه فلم يجب قال السائل : لم تجب قال الإمام مالك : لو سألت عما ينفعك أجبتك .
ـ جاءه رجل من المغرب في مسألة فقال قل للذي أرسلك لا أعلم قال من يعلم قال الذي علمه الله .
ـ ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة سنة 99 ـ 101 فأعجب به مالك ، ثم كان من بعده ولاة غيروا وبدلوا.
ـ سنة 130 هـ دخل أبو حمزة المدينة واستباحها فأثر هذا على الإمام مالك لكنه لم يخرج على ولاة الأمر ولم يقف في صف الناس الذين كان يعتقد الإمام أنه يصدق فيهم قوله تعالى : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " . فلم يسع في فتنة ولم يداهن ولاة الأمر بل وعظه ونصحه للولاة محفوظ .
ابتلاؤه في ذات الله :
سنة 146 هـ في عهد أبي جعفر المنصور ابتلي وضرب فثبت .
ورعه وزهده وعبادته :
كان الإمام مالك يقول : لا خير فيمن يرى نفسه في حال لا يراه الناس أهلا لها .
وكان إذا سئل كثيراً ما يقول لا أدري .
تعظيمه للسنة :
كان كغيره من الأئمة يعظم السنة ويقول إن صح الحديث فهو مذهبي .
وكان يقول قل ليلة إلا وأنا أرى فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا ، فمن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا كيف يكون مع سنته صلى الله عليه وسلم في اليقظة .
ثناء العلماء عليه :
ـ قال عن نفسه : ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك .
ـ قال الشافعي : إذا جاء الحديث فمالك النجم .
ـ قال البخاري : أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر .
وفاته : توفي سنة تسع وسبعين ومائة للهجرة ودفن بالبقيع وهو ابن خمس وثمانين سنة .
أصول مذهبه :الكتاب ـ السنة ـ الإجماع ـ القياس ـ الاستحسان ـ الاستصحاب ـ المصالح المرسلة ـ الذرائع ـ العادات والعرف .
انتشار مذهبه :مصر والسودان وبلاد المغرب والأندلس .
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين