إماتة الإسلام هي الهدف الأخير

 

لم ينقض عهد النبوة الخاتمة والخلافة الراشدة حتى كانت ألوية الإسلام ترفرف على جنبات الشرق الأوسط كله، وحتى استطاعت شعوبه العانية أن تكسر أغلال الأسر الروماني والفارسي وتتنفس الصعداء بعد ذل طويل!!

 

أجل تحررت مصر والشام بعد استعباد قرون، وتحررت عن اليمين والشمائل أقطار رحبة في أفريقية وآسيا، واستوطن الإسلام هذه البلاد كلها بعد ما ارتضاه أهلها ودخلوا فيه أفواجاً وجماهير...

 

والشرق الأوسط وما حوله مجمع القارات المعمورة، ومهد الديانات والحضارات الكبرى، ومهب رياح التغيير في العالم كله.

 

والأمة المهيمنة عليه تملك مفاتيح الشرق والغرب، وتقدر على فرض نفسها في كل مجال، أو على القليل أمة لا يجوز تجاهلها، وإسقاط حسابها!!

 

فكيف إذا اعتنقت رسالة سيالة تمتد من قلب إلى قلب، وتنتقل من شبر إلى شبر؟!

 

إن هذا الوضع يتيح لها فرصاً رائعة، ويرشحها لمكانة مرموقة، ويلقي بين أصابعها بإمكانيات ضخمة...!!

 

وآباؤنا الأوائل عندما طووا راية الروم والفرس وخلعوهما في هذه البقاع رسخوا أقدامهم فيها بالعدل والمرحمة، وجعلوا منها منطلقاً لأداء رسالتهم الكبرى.

 

فكانوا يصدرون للعالم الشرائع والمثل، والأخلاق والأفكار كما نصدر نحن الآن النفط والقطن وأشياء أخرى...!!

 

ولا ريب أن هذه المكانة الجغرافية كما تمنح الكثير تكلف الكثير، ويقدر ما تعين الأصدقاء تؤلب الأعداء...

ومن هنا فإن خصوم الإسلام بذلوا على مر العصور جهوداً متتابعة لحرمانه من هذه الميزة وشنوا الحروب صريحة وغادرة لزلزلة هذا الكيان وزحزحة أصحابه عنه...

 

وإننا لنكون على حظ كبير من الغباوة إذا ظننا أعداءنا سيتركوننا نحيا بديننا كما نشاء في تلك الأوطان الطيبة الغالية... وما الحروب الصليبية في صورتها القديمة ثم في صورتها الحديث إلا ترجمة دقيقة لرغبات خصومنا في الخلاص منا ومن ديننا...

 

إنهم يودون أولاً الاستيلاء ولو على موضع قدم.. فإذا تم لهم ذلك كان المعبر الذي تنساح منه جيوشهم في أحشائنا لتجهز علينا بوسيلة أو بأخرى...

 

وليس المهم أن يكون هذا الموضع مصر،  أو الشام، أو كليهما، أو قطعة منهما... المهم هو الحصول على رأس الجسر الذي يمر منه العدوان...

 

ولي المهم أن يكون هذا الهجوم عسكري الطابع، فقد تكون الأساليب الأخرى أجدى وأنكى وإن طال المدى..!!

 

ولا نستطيع هنا التأريخ للمحاولات الثقافية والاقتصادية والسياسية التي سلكها الغرب للقضاء علينا، وإنما نكتفي بآخر تلك المحاولات وأدهاها وأقساها...

 

لقد قفز الأوربيون في الأعصاء الحديثة إلى مقدمة القافلة البشرية، واستغلوا أخطاء المسلمين وخطاياهم فنحوهم بقوة عن مكان القيادة وتولوا ههم تلك الوظيفة...

 

وشهدت الأرض الأمة العربية الإسلامية تنحدر إلى السفح بعد ما كانت في القمة، كما شهدت الأوروبيين الذين كانوا عمياناً في القرون الأولى يتأنقون في مدنيتهم الجديدة، ويدلون بها على الآخرين.. ومن السفه أن ألوم خصمي على مهارته وتفريطي، لقد كنا وما زلنا سبب ما ألم بنا من كوارث!!!

 

وفي قيادة الأوربيين للعالم أخذوا يعون الخطط في أناة ودهاء للقضاء على خصومهم الأقدمين، وضمان بقائهم إلى آخر الدهر قادة الدنيا وسادتها! ولكن كيف والدهر قلب ؟ وللحضارات والدول أعمار كما للأفراد؟

 

هنا شرع العقل الاستعماري الذكي يفكر، ويقلب الأمر على وجوهه، ويحتال للبلاء قبل وقوعه من أين يمكن أن يجيء الخطر،وكيف يتم تلافيه من الآن؟؟

 

لقد تألفت لجنة دولية بأمر السير هنري كابيل باترمان رئيس الوزارة البريطانية، وتمصلت فيها كبريات الدول المستعمرة، واستمع أعضاؤها إلى الرئيس البريطاني وهو يقول: إن الإمبراطورات تتكون وتنمو وتقوى، ثم تستقر حيناً من الدهر، ثم تبدأ طريقها إلى الغروب رويداً رويداً، ثم تتلاشى وتزول.

والتاريخ مليء بهذه الأطوار والأدوار التي انطبقت على شتى الأمم والنهضات دون استثناء... فهناك امبراطوريات روما وأثينا والهند والصين، وقبلها بابل وآشور ومصر. فهل لديكم أسباب أو وسائل تجنبنا هذا المصير، وتحول دون انهيار الاستعمار الأوربي بعد ما بلغ ذروته اليوم؟

لقد أصبحت أوربا قارة قديمة، استنفدت مواردها، وحالت معالمها، بينما العالم الآخر لا يزال في شبابه يتطلع إلى مزيد من العلم والتنظيم و الرفاهية... هذه مهمتكم أيها السادة وعلى نجاحها يتوقف رخاؤنا وتبقى سيطرتنا...

 

ونحن نلحظ أن السياسي البريطاني تعمد ألا يذكر في الدول القديمة الغاربة العرب أو الترك، كما تلحظ أنه ينوء بفرص التقدم والوثوب المتكاثرة في أرجاء العالم الآخر، هذا العالم المحذور النهوض واليقظة!!

 

ترى ماذا يعني بالضبط؟!

على كل حال لقد باشرت اللجنة مهمتها بعدما استمعت إلى توجيهات مؤلفها الكبير، ودرست الوسائل المستطاعة لحماية الاستعمار الغربي وتوفير ضمانات البقاء الأبدي له، ثم انتهت في تقريرها الذي صدر سنة 19007 إلى ما يلي:

أولاً: استبعاد أي خطر على السلطان الأوروبي من المستعمرات التي تحررت بعدما غلب عليها البيض مثل استراليا وكندا وجنوب أفريقية وغيرها، و التقليل من خطر استقلال الهند والملايو والهند الصينية وغيرها لأن المشكلات الدينية والطائفية ستشغل هذه البلدان إن هي استقلت لأجل غير محدود.

والتقليل كذلك من خطر منح الاستقلال للمستعمرات الأفريقية أو البلدان المبعثرة في المحيطين الأطلسي والهادئ، وذلك لتطرفها وانعزالها الجغرافي...

 

ثانياً: ـ وهنا الجزء المهم في التقرير ـ ترى اللجنة أن الخطر على الاستعمار يكمن في منطقة الشرق الأوسط، فهذه المنطقة مهد الحضارات والديانات ويسكنها شعب تتوافر له من وحدة تاريخه ولغته ومثله وآماله كل مقومات التجمع والترابط علاوة على ثرواته الطبيعية ونزعة أهله إلى التحرر...

ولمواجهة ذلك الخطر اقترحت اللجنة على الدول ذات المصالح المشتركة ما يأتي:

أ ـ السيطرة على البحر الأبيض لأنه الشريطان الحيوي للاستعمار والقنطرة الموصلة بين الشرق والغرب.

 

ب ـ استبقاء هذه المنطقة مجزأة وفرض التفكك المستمر على شعبها، ومنع كل محاولة لعودة هذا الشعب إلى وحدته الطبيعية، والحيلولة بأي طريقة دون أي ارتباط فكري أو روحي أو تاريخي يسودها.

 

ج ـ فصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي بإقامة حاجز بشري قوي وغريب يملأ الجسر البري الواصل بين القارتين بحيث يشكل في هذه المنطقة وقريباً من برزخ السويس قوة صديقة للإستعمار الأوروبي وعدواً لأهل البلاد...!!

 

هذه هي مقررات لجنة باترمان(1)، وظاهر أنها طوفت بالعالم كله تتحسس مصادر الخطر على الاستعمار فلم تجد فوضعت أصبع الاستعمار على مكمن القلق، وقالت له: عليك به!!!

 

وعندي أن اللجنة الموقرة لم تأت بجديد حين استثارت أحقاد العالم الصليبي على الإسلام وأمته، إنها أكدت مشاعر كانت منتشرة مستقرة في كل مكان، إن الجديد الذي جاءت به هو ما اقترحته على وقمها من تبني أماني اليهود، والعمل على ضرب العالم الإسلامي بالصهيونية الحديثة!!

وقد استجاب الساسة الأوربيون والأمريكيون ـ وبين الجميع قاسم مشترك ـ لهذه الدعوة.

فمهدت انجلترا باصدار وعد بلفور مقررة إنشاء وطن قومي لليهود، ثم ثنت أمريكا ببسط وصايتها وحمايتها على الدولة المفتعلة، قائلة إن إسرائيل خلقت لتبقى!! وظاهر أن اليد التي تضربنا يد صليبية، وأن الآلة التي استعملت في ضربنا يهودية... ومن العبث الكلام فيما يحرك اليد الآثمة من حقد وغضب وخسة وعدوان...

 

وإنما يجب الكلام في الطريقة التي تم بها غرس هذه الشوكة في جانبنا، والطريقة التي تستبقي بها هذه الشوكة لتؤدي وظيفتها القذرة,

 

إن المعارك العسكرية التي أدت إلى قيام إسرائيل هي أتفه ما هيأه الاستعمار لبلوغ هدفه، أما ما سبق هذه المعارك ولاحقها من تدابير ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية فهو العمل الحقيقي الذي أنتج قيام إسرائيل...

 

استطاع الاستعمار تقسيم العرب وحدهم إلى نحو عشرين دولة وإمارة، وجعل كل شلو من أشلاء المنطقة المحروبة قومية خاصة وعلماً ملوناً!!

 

ولقد سئل وزير مصري من أربعين سنة: ماذا صنع لفلسطين؟ فقال: إنه مسؤول عن مصر لا غير أي: لا عروبة ولا إسلام!! فهل يريد الاستعمار تمهيداً أفضل من ذلك؟

 

فلما أمكن توحيد العرب وتجميع شملهم كان الاستعمار قد سرق الإيمان من قلوبهم وصفوفهم، فإذا هم يجتمعون دون عقيدة وغاية، فلا جرم أن تهزمهم أية جماعة يلمها إيمان حار!!

وتجمع الأصفار لا ينتج عدداً ولا يجلب مدداً..

 

إن الدين من وراء اليد الضاربة والآلة المستخدمة، فكيف يفقده المدافعون عن أنفسهم وكيانهم؟ يقول ا لدكتور: وايزمان: في مذكراته:  (ينسبون إلى فضل الحصول على تصريح بلفور، ولكن الحقيقة أن السبب الرئيس لفوز اليهود بتأييد بريطانيا لهم والموافقة على إنشاء وطن قومي في فلسطين يجمع شتاتهم هو إيمان الانكليز بالعهد القديم، وتأثرهم بتعاليمه، وأن رجالاً من أمثال بلفور وتشرشل ولويد جورج كانوا متدينين من أعماق قلوبهم، ومؤمنين بما ورد في هذا الكتاب، وقد نظروا إلينا معشر اليهود على أننا نمثل فكرة يعتقدونها اعتقاداً تاماً)

 

هذا هو تدين الساسة الذين حاربونا وهو نموذج لتدين ترومان وجونسون وغيرهما...

 

فهل آمن الساسة العرب بمقدساتهم الإسلامية إيمان هؤلاء بمقدساتهم اليهودية والنصرانية؟ كلا... كلا بل أكثر هؤلاء ما قرأ القرآن، ولا اطلع على السنة، ولا درس تاريخ سلفه الأول.

 

إن الغرض من إنشاء إسرائيل، كما رأيته قتل دين، وتمزيق أتباع...

 

وإذا لم يعبئ العرب قواهم المادية والأدبية على هذا الوعي فلن يزدادوا من النصر إلا بعداً...

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد الرابع السنة 23، ذي الحجة 1388 الموافق فبراير 1969ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. من محاضرات معهد الإمامة الاستعمار الحديث للأستاذ عبد الفتاح أبو الفضل بتصرف يسير

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين