إلى مَن طال عليه الطريق

هذه رسالة أتمنى أن يقرأها كل واحد من أهل البلاء في سوريا وأن يُقرئها مَن يحب، رسالة أتمنى لو أن عندي عشرين مليون عنوان لعشرين مليون سوري لأرسلها إليهم جميعاً، هي رسالة من القلب عسى أن تدخل إلى القلب، فما خرج من القلب يوشك أن يقتحم القلوب بغير عناء.

كتب لي أخ فاضل من منطقة ابتُليت بالقصف والحصار، قال: كفّوا عن مطالبة الناس بالصبر، فقد نفد صبر الناس وأجهدهم طول البلاء. ليس مَن عاش ورأى كمن سمع من بعيد. يكفي، أنتم تبيعوننا كلاماً مجانياً ونحن ندفع الثمن بالدموع والدماء.

لو كان فرداً واحداً لأجبته برسالة خاصة، ولكني ما أزال أستقبل مثل هذه التعليقات والتعقيبات كلّما نشرت منشوراً أدعو فيه إلى الصبر والثبات وأحذّر فيه من الاستسلام للنظام، أو من القبول بمشروعات من شأنها أن تحافظ على "المنظومة الأمنية" التي تشكل العمود الفقري لنظام الإجرام. فلما تكاثرت الرسائل والتعليقات صار لا بدّ من جواب عام، فاحتملوه مني وإن طال، فقد لا أكرره بعد هذا المقام. ولا يقل قائلٌ وصلته هذه الرسالة: ومَن مجاهد ديرانية؟ لا يهمّ أن تعرف كاتب الرسالة يا أخا الإسلام، إنما يهم المكتوب، أهو حق يستحق الاهتمام أم أنه خيالات ومبالغات وأوهام؟

* * *

أيظن الذين يكتبون ويعلّقون معاتبين أني لا أحس بمعاناة الناس؟ في دورات العلاج النفسي يوصون المعالِجين والمعالِجات بأن لا يبالغوا بالتعاطف مع المصاب، لأن التعاطف ش التعاطف الشديد وتقمّص شخصيات وحالات المصابين ينقل الألم إلى المعالج، فينتهي به الحال إلى الاكتئاب أو الانهيار. وأنا أعاني من هذه المشكلة، فإنني لا أستطيع الانفصال عن الواقع الأليم الذي أتابعه وأكتب عنه، فما أزال أعيش بخيالي مع المعتقَلين والمعتقَلات في السجون، وأتصوّر نفسي محل المحاصَرين الجائعين في الحصار، ومحل الأم التي فقدت ابنها والزوجة التي فقدت زوجها والأولاد الذين حُرموا من رعاية وحنين الآباء والأمهات.

أعرف كيف يعيش أهل البلاء وأتصور معاناة الناس وأحسّ بما يعانونه من آلام، ورغم ذلك كله أقسم بالله: لو أني عرفت طريقاً أهون مآلاً من الصبر على الثورة والصمود إلى آخر الطريق لدللت الناس عليه وأرشدتهم إليه ورغّبتهم فيه. ولكني لم أعرف، بل عرفت أن طريقاً طويلاً مفروشاً بالخوف والجوع والدموع والآلام أهون من طريق قصير آخرُه يأسٌ واستسلام.

أكثر الناس في سوريا يعرفون هذه الحقيقة، فإذا جئتُ أتحدث عنها اليوم لم أكشف جديداً، إنما أذكّرهم بما يحاولون نسيانه والتغافل عنه فراراً من الكرب العاجل إلى وَهْم الأمان، ولو استشهدتُ عليه القراء الكرام لما شككت أن تملأ تعليقاتهم كتاباً من الحجم الكبير، فمَن مِن السوريين لا يحفظ عشرات القصص عن إجرام النظام وغدره بالذين جازفوا بالثقة فيه وبوعوده الكاذبة؟

* * *

أعرف رجلاً مسالماً آثر أن يجنّب نفسه تبعات الثورة، فلم يشارك فيها بكلمة رغم أنه يعيش آمناً في بلد بعيد. أراد العودة إلى سوريا فخشي أن يضرّه اسم بعض أقاربه الذين كان لهم نشاط في الثورة، فسأل (كما يصنعون عادة) وجاءه الخبر بأنه لا شيء عليه وأن اسمه ليس مدرَجاً مع المطلوبين، فسافر مطمئناً رغم تحذير المحذّرين وتخذيل المشفقين، فلما وصل إلى البلد اعتقلوه، وما مضت غيرُ تسعة أيام حتى سلّموه لأهله جثة هامدة بعدما قاسى ألوان العذاب.

ورجل ليس له نشاط في الثورة، إلا أنه نشر في حسابه الفيسبوكي منشورات قليلة بكى فيها بلدته التي دمرها القصف الهمجي البربري، ضاقت عليه سُبُل العيش في البلد الذي يقيم فيه (أليس قد ضاقت الأرض -على اتساعها- بالسوريين؟) حتى هَمّ بالرجوع إلى سوريا لولا أن منعه خوفه من غدر النظام وإجرامه الذي طارت به الأخبار، غير أن زوجته أصرّت على العودة فرجعت ومعها ثلاثة أطفال، صبي في السابعة وبنتان لصغراهما من العمر سنتان، فأُخذوا جميعاً من المطار، ثم انقطعت أخبارهم فلم يُسمَع عنهم خبر منذ ثلاث سنين.

وشاب من إحدى مناطق المصالحات صالح النظام مع مَن صالحوه في المصالحات، اعتقله حاجز للنظام بعد المصالحة بعدة أسابيع، ونُقل إلى المخابرات الجوية فمات تحت العذاب. وشُبّان من مناطق أخرى دخلت في المصالحات جنّدهم النظام وأرسلهم إلى الجبهات ليقاتلوا إخوانهم في الله وفي الثورة، فماتوا في سبيل النظام وفي سبيل الشيطان، فلا كسبوا دنيا ولا آخرة وباؤوا بخسران ما بعدَه خسران.

* * *

لم يَنجُ من غدر النظام المجرم الأبرياءُ الذين لم يسيئوا إليه، ولا أمِنَ شرّه الذين استسلموا له وعقدوا معه تسويات، ولا سَلِمَت من غدره المدن والبلدات التي دخلت معه في هدن ومصالحات!

هل تعلمون كم يبلغ اليوم عدد المطلوبين للنظام؟ ألفاً؟ عشرةَ آلاف؟ مئة ألف؟ إنه عدد يفوق الخيال. أعلنت جريدة "زمان الوصل" قبل أربعة أيام أنها تستعد لإطلاق محرك بحث على الإنترنت يضم مليوناً ونصفَ مليون اسم من أسماء المطلوبين للنظام من جميع المحافظات السورية "وذلك لتحذير مَن يلاحقهم النظام أو يسعى إلى اعتقالهم، ولكشف مصائر المعتقلين وتتبع حالات الاختفاء القسري. وسوف تضم القائمة الهائلة أكثرَ من ربع مليون امرأة ضمن تصنيفات مختلفة (اعتقال، تحقيق، منع سفر، مراقبة). وقد أطلقت الجريدة نفسها محرك بحث يضم نحو نصف مليون اسم في وقت سابق".

في بلد سكانه خمسة وعشرون مليوناً يلاحق النظام البوليسي مليوناً ونصف مليون إنسان، أي أن واحداً من كل ستة عشر شخصاً في سوريا مطلوبٌ للاعتقال والتحقيق! لن يخلو بيت من معتقَلين أو ملاحَقين، فضلاً عن كل ما قدّمه السوريون إلى اليوم من تضحيات يعجز عن تصويرها القلمُ ويعجز عن تصوّرها الخيال.

* * *

يا أيها الصابرون على البلاء في سوريا، يا من يعانون من خوف القصف وجوع الحصار: ليس الذي يحاربنا ونحاربه نظاماً مجرماً سفّاحاً فحسب، بل إنه نظام مجنون، نظام بلغ الغاية في الجنون والإجرام. ويلٌ لِمَن وقع في يد مجرم مجنون!

من أجل ذلك أقسمت وأكرر القسم: لو أني عرفت طريقاً أهون مآلاً من الصبر على الثورة والصمود إلى آخر الطريق لدللت الناس عليه وأرشدتهم إليه ورغّبتهم فيه، ولكني لم أعرف، بل عرفت أن طريقاً طويلاً مفروشاً بالخوف والجوع والدموع والآلام أهون من طريق قصير آخره يأس واستسلام.

اللهمّ عجل بالفرج وارفع البلاء عن أهل البلاء. اللهمّ إن المؤمنين الصابرين في سوريا قد بذلوا وُسْعَ الطاقة وفوّضوا الأمر إليك، فافتح لهم اللهمّ فتحاً مبيناً ونَجِّهِم برحمتك من الكرب العظيم. اللهمّ إنهم قد انقطعت من أهل الأرض آمالُهم ولم يعد لهم أملٌ إلا بك، وإنهم يئسوا من الناس ولم يبقَ لهم رجاء إلا في رحمتك، وإنهم علموا أنهم ضِعافٌ لا قوّةَ لهم إلا من قوتك، عاجزون لا قدرةَ لهم إلا من قدرتك، فاجبُر اللهمّ كسرَهم وانصُرْ جمعهم واقصِمْ جبّارهم، اللهمّ وأبدلهم بالهمّ فرجاً وأخرجهم من البلاء إلى العافية. توكلنا عليك يا أيها الملك الجبار القهار، يا رب العرش العظيم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين