إلهٌ، أم لا إله؟

لم يكن يخطر في بالي قطّ، وأنا أكتشف يوماً بعد يومٍ هذه الآلاف من الأديان والشرائع والمذاهب المنتشرة في كلّ مكانٍ على سطح كوكب الأرض، والتي ينفرد كلٌّ منها بإلهٍ أو آلهةٍ عدّةٍ يؤمن بها، أنّ هناك جنساً من البشر لا يؤمنون بأيّ إلهٍ على الإطلاق!

لقد كان عليّ، وفقاً للمهمّة التي كُلّفْتُ بها من المسؤولين في كوكبنا (زوندياغ)، أن أضع دراسةً عن الأديان والآلهة التي يؤمن بها أهل الأرض، وأن أخرج في النهاية بنتيجةٍ موضوعيّةٍ عن طبيعتها، ومدى ابتعادها أو توافقها مع العلم والعقل والمنطق، وعمّا إذا كان يجمع هذه الأديان والشرائع، أو يجمع بعضها على الأقلّ، مفهوماتٌ أو آلهةٌ مشتركة، وعن طبيعة هذه المفهومات والآلهة.

ومن مرصدي المؤقّت الذي اتّخذته لتوّي على كوكب الأرض، منذ حططت عليها بمركبتي هابطاً من (زوندياغ)، سأنظر الآن إلى أهل الأرض بعينَي الباحث المستقلّ، والمجرّد من أيّة أحكامٍ مسبقة، فلا أسمح لنفسي أن أميل لهذا أو لذاك إلّا بقدر ما يمليه عليّ عقلي وحساباتي وأرقامي.

لقد كنت أعتقد قبل نزولي إلى الأرض أنّ كلّ الأمم والشعوب والأقوام والقبائل، في أي كوكبٍ فضائيٍّ معمور، قد سخّرت كلّ ما تمدّها به طاقات تفكيرها وخيالها لإيجاد مأوىً روحيٍّ تستند إليه، وتستمدّ منه قوّتها، ولتتخيّل، أو تفترض، أو تكتشف، صانعاً ومدبّراً ومنظّماً لهذا الكون، تطمئنّ له، وتلجأ إليه في الملمّات والأحداث، وتحاول أن تفسّر من خلاله الأسرار الخفيّة لحياتها، وما كان قبلها، وما يمكن أن يأتي بعدها.

ولكنّ أكثر ما فاجأني، من خلال معلوماتي الأوّليّة التي توصّلت إليها حتّى الآن، وخلافاً لما أعرفه عن جميع سكّان كوكبي الذي جئت منه، تلك الشريحة من البشر التي ترفض تماماً فكرة وجود خالقٍ لها أو لكوكبها، أو لهذا الكون الفسيح كلّه، ولا يهمّها أصلاً أن "تضيّع وقتها" في البحث عن اكتشافه، والتأكّد من صحّة وجوده!

إنّني أشعر الآن بصدمةٍ وخيبة أملٍ كبيرةٍ في داخلي:

كيف يستطيع هؤلاء العيش من غير الاتّكاء على فكرة وجود إله، أيّ إله، من شأنه أن يُشعرهم بحمايته، وبالوقوف إلى جانبهم، فيَشدّ من عزائمهم، ويرجعون إليه في ملمّاتهم وأحزانهم؟!

إلى من يستندون حين تصيبهم مصيبة؟!

كيف يتحمّلون صدمات الحياة، ومفاجآتها المؤلمة، ومآسيها التي قد تنتظر أحدهم عند كلّ منعطفٍ من منعطفاتها الكثيرة الخفيّة المتعرّجة؟

كان معظمهم يدافع عن الفكرة أمامي باستهتارٍ قائلاً: ولم الإله؟ ما الفرق عندي بين وجوده أو عدم وجوده؟ ها نحن نقود أنفسنا بأنفسنا، ونحمي أنفسنا بأنفسنا، ونرتزق في هذه الأرض بسعينا وجدّنا ونشاطنا من غير انتظار أيّة مساعدةٍ خارجيّة. إنّنا نأكل، ونشرب، ونتزوّج، وننجب، ونعمل، وننتج، وكلّ شيءٍ يمشي على ما يرام. ما حاجتنا إلى وجود (إله)؟!

والغريب في هذه الشريحة من البشر، وهم يمثّلون أقلّيةً لا بأس بها من سكّان الأرض، أنّهم لا يسألون أنفسهم السؤال الذي لا بدّ أن يطرح نفسه على كلّ مخلوقٍ في هذا الكون:

إذا كان القانون العلميّ، وهو القانون الذي أؤمن به من غير تردّد، يقول بأنّه لا بدّ لكلّ شيءٍ من صانعٍ يصنعه، كلّ شيء، فمن الذي صنعني إذن؟

مَن الذي أحكَمَ في جسمي بناء هذا المحرِّك العجيب الذي يدعى (القلب)، والذي لا يتوقّف عن ضخّ الدماء وتوزيعها بشكلٍ دقيقٍ ومتوازنٍ على أعضاء جسدي، وهذا الكومبيوتر الأعجب الذي يسمّونه (الدماغ)، ويضمّ في داخله المئات من البرامج والمواقع والتطبيقات التي تبرمج حياتنا وشخصيّتنا وتفكيرنا، وهذه العين المشعّة التي أرى بها كلّ ما حولي، وتنطق بخفايا مشاعري قبل أن ينطق بها لساني، وهذا الفم وهذه الشفاه التي تتعاون مع اللسان والأسنان والحلق، وبشكلٍ لا يصدَّق من الإحكام والسرعة والدقّة، لأتكلّم، وآكل، وأشرب، وأتذوّق، وهذه الأسنان المنتظمة، بأشكالها ونتوءاتها المتفاوتة بتفاوت وظائفها، لكي أمضغ، ولكي أُحسن نطق الحروف المختلفة بإتقان، وهذا الأنف المتأنّق لكي أتنفّس منه، ولكي أميّز وأستمتع من خلاله بالروائح المنعشة، ولأتدارك، أيضاً، كثيراً من الأخطار المحتملة التي يدركها بخياشيمه قبل أن تدركها العين، ثمّ هاتين اليدين الرشيقتين بأصابعهما الذكيّة المرنة التي أُمسك بها، وأكتب، وأعمل، وآكل، وأشرب، وأشير، وأتحدّث، وهاتين الرِّجلين القويّتين، والواثقتين، اللتين أقف، وأمشي، وأركض، وأتحرّك، وألعب، وأعمل عليهما، وهذا الماء الذي أشربه، وهذا الطعام الذي آكله، ووو...؟

مَن أقام هذه الكواكب في السماء؟ ومن يمسكها بإحكامٍ وأمان، شأنها شأن كوكب الأرض، ويمنعها من أن تقع أو تتوه في الفضاء؟ من ينظّم حركتها ويحفظها من الاضطراب أو الاصطدام بعضها ببعضٍ أثناء دوراتها الازدواجيّة العجيبة، والدقيقة، المتنوّعة التي لا تتوقّف، وما هي، مع ذلك، إلّا ذرّةٌ ضئيلةٌ لا تكاد تُذكر في مجرّةٍ هائلةٍ بين مئات البلايين من المجرّات، وفي كلّ  مجرّةٍ منها مئات البلايين من الكواكب والشموس والأقمار؟

ولكنّ الأسئلة الأصعب، والأخطر على الإطلاق، والتي أعجب لكلّ مخلوقٍ بشريٍّ كيف لا يهتمّ بطرحها على نفسه والإجابة عنها، وهو يخوض بسفينته غمار هذه الحياة المحفوفة بالمفاجآت والأخطار من أجل الوصول إلى برّ الأمان، هي هذه الأسئلة المصيريّة:

1-                ما الخسائر التي يُحتمل أن أتكبّدها من رفضي لفكرة وجود إلهٍ لو تبيّن في النهاية أنّني مخطئ، وأنّ الفكرة صحيحة؟

2-                وما الخسائر التي يُحتمل أن أتكبّدها لو تبيّن أنّها غير صحيحة؟

3-                وما الأرباح التي يُحتمل أن أجنيها من رفضي لتلك الفكرة، أيّاً كانت، صحيحةً أو غير صحيحة؟

4-                إذا كان الاقتناع أمراً أساسيّاً للإيمان بأيّة فكرة، فأيّ الاعتقادين أكثر إقناعاً: كونٌ بصانع؟ أم كونٌ من غير صانع؟ وما مسوّغات اقتناعي، أو عدم اقتناعي، في أيٍّ من هذين الخيارين؟ وهل أستطيع إقناع الآخرين علميّاً بهذه المسوّغات؟ وكيف؟

5-                وأخيراً، أيّهما سيكون أعظم كارثيّةً عليّ: أن تضيع منّي تلك الأرباح الطائلة، أم أن أتكبّد تلك الخسائر الهائلة؟ وهل يستحقّ رفضي لفكرة الإله هذه المجازفة الكبيرة، وتلك الأخطار المخيفة المحتملة، لو حدث أن كانت حقيقيّة، ومقابل لا شيء؟

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين