إتحاف الساجد الراكع بذلة المتكبر ورفعة المتواضع (1)

إذا تَواضَعَ العبدُ كَاتمًا قَدْرَهُ، رَفَع اللهُ سِعْرَهُ، وَجَعل مَجده فِي الناس قَائمًا، وَذِكْرَهُ فيهم دَائمًا، فَحَيثُ ظَنَّ سُقوطَ القيمة؛ كانت الرفعة العظيمة، والوَجَاهة المُسْتَدِيمَة، أَمَّا مَن تَكَبَّرَ ابتغاءَ رِفعَتِه، وَعُلُوِّ رُتْبَتِه، نَكَّسَ اللهُ هَامَتَه، وَزَادَ الناس فِي مَذَمَّتِهِ وحَقَارتِهِ، فَبِقَدرِ تَواضُعِكَ تَكونُ رفعتُكَ، وَبَحجْمِ تَكَبُّرِكَ تَكون ذِلَّتُكَ، ألَا تَرَى أَنَّ التُرَابَ لَمَّا تَواضَعَ لأخْمَص القَدَمِ؛ أَصبحَ طَهُورًا للوَجْهِ؟!

 

قالوا في التواضع إنه:

ý      أن تخرج من بيتك، ولا تلقى مسلمًا إلا رأيت أن له فضلًا عليك([1]) ! والقائل: الإمام الحسن البصري !

ý      خفض الجناح، ولين الجانب ! والقائل: الإمام الجنيد بن محمد !

ý      أن تخضع للحق، وتنقاد له، وتقبله ممن قاله، ولو سمعته من صبيٍ أو جاهل ! والقائل: الإمام الفضيل بن عياض !

 

التواضع تواضعان: محمودٌ ومذموم !

أما المحمود؛ فترك التطاول على عباد الله ! أما المذموم؛ فتواضع المرء لذي الدنيا؛ طمعًا في دنياه !

 

تواضع فكان من الأعزاء:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة: 54]

آخى النص القرآني بين الذلة للمؤمنين، وجهاد الكافرين دون خشية لائم، لنعلم أن غاية علاقة المؤمن بِأَخِيهِ الرحمة والوقار والتواضع، بينما نعلن عزتنا وهيبتنا ضد أعدائنا؛ حتى ينزلوا تحت لواء إسلامنا !

قال الشافعي: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلاً من لا يرى فضله

وإذا تذللتِ الرقابُ تواضعا      منا إليك فَعِزُّهَا في ذُلِّهَا

 

خِطابُ التواضع نَبُثُّهُ للعظماء الكبار، أما نحن فيقال لأحدنا: اعرف قَدْرَك، ولا ترفَع من سِعْرِك،

فرحم الله عبدًا عرف قَدْرَ نفسه !

 

أعلن الاستكبار؛ فألبسه الله الذلة والصغار !:

قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 11-13]

لما تَكَبَّرَ إبليسُ على آدم ولم يسجد له، قائلًا: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، جُوزِيَ بنقيضِ قصده، فجعله الله صاغرًا مخذولًا، ذليلًا مَدحورًا ! بل إنَّ عِلَّتَهُ فِي الكِبْرِ سَخيفة، هَشَّة ضَعِيفة؛ فَإنه نَظَرَ إلى مادة خلقهما، فَفَضَّلَ النارَ على الطين، وهذه مُفاضلَةٌ فاسدةٌ بِيَقين؛ ذلك أنَّ من ألمع سمات النار: الإهلاكُ وَالطَّيشُ والعجلة، ومن أبرز سمات الطين: التَثَبُّتُ والرويَّةُ والأناة، بل لو صَدَقَ فيما قَال وَنَصْ؛ فَإنَّهُ لا اجتهادَ فِي مَوضع النَّص !

وتأمل رحمك الله، فإن إبليس ظَنَّ في السجود صَغَارَهُ ومَهانَتَهُ، وعند الله تعالى أن ترك السجودِ يَستوجِبُ زَوالَ رفعتِه، وقِيَام ذِلَّتِه، وهذه إشارةٌ نفيسةٌ شريفةٌ لمن تأملها !

فأيها المتكبر مهلًا ! فَكُلُّ من ابتَغَى كِبْرًا؛ وَضَعَهُ اللهُ، وذَاقَ مَهانةً وذلًا !

فهذا فرعون لما قال: أنا ربكم الأعلى؛ أخذه الله نكال الآخرة والأولى !

وهذا قارون لما تكبر بماله، وقال: إنما أوتيته على علم عندي، ثم خرج مختالًا على قومه في زينته؛ خسف الله به وبداره الأرض !

 

أخي: بِقْدر تواضعك تكون رفعتك، وبقدر تَكَبُّرِكَ تكون ذلتك ! فقه يحيى بن خالد هذا المأثر؛ فَصَاغَ لك قاعدةً نافعةً بقولِه:

إنَّ الشريف إن علا تواضَع، والوضيعُ إذا تَقَوَّى تَكَبَّر !

 

وفي منثور الحكم: من لم يتواضع عند نفسه، لم يرتفع عند غيره !

 

إذا أردت دفع كِبْرِكَ فاسجُد؛ فإنَّ الشيطان لما تَكَبَّرَ أبى أن يَسجُد ! فَلَو سَجَدتَّ وَعَلِم، بكى وَأَلِم، قائلًا: ويلي وَيلي ! أُمِرَ ابن آدم بالسجود فَسَجَدَ وله جنة النعيم، وأمرت فَأَبيتُ ولي نار الجحيم !.

 



([1]): الغزالي / إحياء علوم الدين ص (342)، وسيأتي تفسير الكلمة في محور (مراقي الصعود)، البند [2] من كلام بكر المزني !

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين