أول خطوة خارج المدينة الفاضلة

 

مع أول خروج لنا إلي الحياة العملية بعد الانتهاء من الدراسة ، نخرج من المدينة الفاضلة التي بنيناها في الطفولة والصبا بمن ننتقيه من الأحباب والأصحاب ، وما نبنيه من آمال وأحلام ، نخرج إلى الحياة العملية بما تفرضه علينا من تعامل مع من نحب ومن لا نحب ، فهو عالم جديد لا نختاره بتفاصيله حيث زملاء عمل ورؤساء نتعامل معهم يوميا دون اختيار منا .

وكان من حظنا نحن مجموعة من حديثي التخرج أن حظينا بوظيفة في جهة حكومية كبيرة أتاحت لنا العمل في مشاريع كبرى ، ولكن كانت صدمتنا كبيرة في أول مدير نتعامل معه .

كان يحدثنا عن بطولاته ومغامراته ومآثره بكل فخر واعتزاز ، عن وشايته بزملائه وإضراره بفلان وفلان ويذكرهم بالاسم ، وعن إطاحته بفلان وأخذ مكانه في الدرجة الوظيفية ، وتملقه للمدير فلان حتى صار ألعوبة في يده يحركه كيف يشاء .!!

كنا في ميعة الشباب وعلى أول طريق الحياة العملية لم تلوثنا المطامع ولا المناصب ولا التصارع على المال ، نسمع منه تلك المخازي وينظر بعضنا لبعض مندهشين ومتشككين هل هو جاد أم هازل .! ، فيقطع هذا الشك بالتأكيد على أنه ينقل لنا خلاصة تجربته ، وأنه ينصحنا لوجه الله ، ويضع بين أيدينا قاعدته الذهبية التي يؤمن بها ويروج لها : (ما تغلب به العب به) .!

وكما بلانا الله به ، فكذلك بلاه بنا نحن الصغار المتمردين على نصائحه ، وكان أشدنا بلاءً له المهندس "سعد" كان يكبرنا بقليل ، وكان سليط اللسان ويحتقر هذا المدير بنظراته وبصريح عباراته ، وكان المدير يخشاه خشية الحمل من الذئب ، ويصفه بأنه ولد (صايع) متسكع علي مقاهي "غيط العنب" و "كرموز" . وذات يوم أراد هذا المدير أن يقنعنا بأن واحدة من مُعِدات المشروع مقاسها 100*100*100 سم ممكن تدخل من خلال فتحة باب غرفة المعدات 90 سم ، ونحن نقسم له بكل الأيمان أن الجمل لا يدخل في سَم الخِياط ، والفيل لا يمكن صَرُّه في منديل ، وهو مستمر في جدالنا ، وكان "سعد" صامتا ويبدو متشاغلاً بالعبث في ورقة وقلم أمامه فظن أن سعداً منهمك في البحث عن حل لتلك المعضلة فأشار إليه : إيه رأيك يا سعد ؟ ، فنظر إليه سعد بنظرة الاحتقار المعتادة ولوَّح بيده نحو وجه المدير مطلقا ثلاث طلقات لفظية متواليات: (مينفعش .. مينفعش .. مينفعش).!

وبقدر ماكانت تلك الخطوة الأولى خارج مدينتنا الفاضلة صادمة بقدر ما كانت صادقة في تعبيرها عما سنلقاه في الحياة ، فمسيرة البشر ثنائية عجيبة : فالأرض حملت على ظهرها سيدنا "موسي" و "السامري" ، وسيدنا "عيسي" و "يهوذا" ، وسيدنا "يوسف" وإخوته .. وهكذا الحياة وهكذا البشر ، صنف أرقى من الملائكة ، وصنف أَشَّر من الشياطين ، ولكل وجهة هو مولّيها .

ويبقي بعض الناس يتصورون أن سلوك هذا المدير هو سبيل الوصول للمنصب والمال ، وما علمتنا إياه الحياة أن معظم هؤلاء الزملاء الصغار صاروا قصصا منوعة في النجاح بشرف ، بينما ظل هذا المدير مختوماً بختم النسر ، حتى أدركه سن المعاش ليعيش المتبقي من عمره على فتات معاش الحكومة .

وهَب أن أمثال هذا المدير نال حظاً من المنصب والمال ، فهل أمثال هؤلاء ممن يعتمل في نفوسهم الغل والحقد والحسد ، لهم أدنى نصيب من السعادة مهما حازوا من منصب أو مال .؟!!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين