
مع أول خروج لنا إلي الحياة العملية بعد الانتهاء من الدراسة ، نخرج من المدينة الفاضلة التي بنيناها في الطفولة والصبا بمن ننتقيه من الأحباب والأصحاب ، وما نبنيه من آمال وأحلام ، نخرج إلى الحياة العملية بما تفرضه علينا من تعامل مع من نحب ومن لا نحب ، فهو عالم جديد لا نختاره بتفاصيله حيث زملاء عمل ورؤساء نتعامل معهم يوميا دون اختيار منا .
وكان من حظنا نحن مجموعة من حديثي التخرج أن حظينا بوظيفة في جهة حكومية كبيرة أتاحت لنا العمل في مشاريع كبرى ، ولكن كانت صدمتنا كبيرة في أول مدير نتعامل معه .
كان يحدثنا عن بطولاته ومغامراته ومآثره بكل فخر واعتزاز ، عن وشايته بزملائه وإضراره بفلان وفلان ويذكرهم بالاسم ، وعن إطاحته بفلان وأخذ مكانه في الدرجة الوظيفية ، وتملقه للمدير فلان حتى صار ألعوبة في يده يحركه كيف يشاء .!!
كنا في ميعة الشباب وعلى أول طريق الحياة العملية لم تلوثنا المطامع ولا المناصب ولا التصارع على المال ، نسمع منه تلك المخازي وينظر بعضنا لبعض مندهشين ومتشككين هل هو جاد أم هازل .! ، فيقطع هذا الشك بالتأكيد على أنه ينقل لنا خلاصة تجربته ، وأنه ينصحنا لوجه الله ، ويضع بين أيدينا قاعدته الذهبية التي يؤمن بها ويروج لها : (ما تغلب به العب به) .!
وكما بلانا الله به ، فكذلك بلاه بنا نحن الصغار المتمردين على نصائحه ، وكان أشدنا بلاءً له المهندس "سعد" كان يكبرنا بقليل ، وكان سليط اللسان ويحتقر هذا المدير بنظراته وبصريح عباراته ، وكان المدير يخشاه خشية الحمل من الذئب ، ويصفه بأنه ولد (صايع) متسكع علي مقاهي "غيط العنب" و "كرموز" . وذات يوم أراد هذا المدير أن يقنعنا بأن واحدة من مُعِدات المشروع مقاسها 100*100*100 سم ممكن تدخل من خلال فتحة باب غرفة المعدات 90 سم ، ونحن نقسم له بكل الأيمان أن الجمل لا يدخل في سَم الخِياط ، والفيل لا يمكن صَرُّه في منديل ، وهو مستمر في جدالنا ، وكان "سعد" صامتا ويبدو متشاغلاً بالعبث في ورقة وقلم أمامه فظن أن سعداً منهمك في البحث عن حل لتلك المعضلة فأشار إليه : إيه رأيك يا سعد ؟ ، فنظر إليه سعد بنظرة الاحتقار المعتادة ولوَّح بيده نحو وجه المدير مطلقا ثلاث طلقات لفظية متواليات: (مينفعش .. مينفعش .. مينفعش).!
وبقدر ماكانت تلك الخطوة الأولى خارج مدينتنا الفاضلة صادمة بقدر ما كانت صادقة في تعبيرها عما سنلقاه في الحياة ، فمسيرة البشر ثنائية عجيبة : فالأرض حملت على ظهرها سيدنا "موسي" و "السامري" ، وسيدنا "عيسي" و "يهوذا" ، وسيدنا "يوسف" وإخوته .. وهكذا الحياة وهكذا البشر ، صنف أرقى من الملائكة ، وصنف أَشَّر من الشياطين ، ولكل وجهة هو مولّيها .
ويبقي بعض الناس يتصورون أن سلوك هذا المدير هو سبيل الوصول للمنصب والمال ، وما علمتنا إياه الحياة أن معظم هؤلاء الزملاء الصغار صاروا قصصا منوعة في النجاح بشرف ، بينما ظل هذا المدير مختوماً بختم النسر ، حتى أدركه سن المعاش ليعيش المتبقي من عمره على فتات معاش الحكومة .
وهَب أن أمثال هذا المدير نال حظاً من المنصب والمال ، فهل أمثال هؤلاء ممن يعتمل في نفوسهم الغل والحقد والحسد ، لهم أدنى نصيب من السعادة مهما حازوا من منصب أو مال .؟!!
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول