أهمّية الدِّراسات المشتركة في المقررات الجامعية علم الكلام والسنة النبوية نموذجا (3)

 

المبحث الثالث: بعض الأحاديث والآثار تتعارض مع علم الكلام

تحوي بعض كتب العقيدة الكثيرة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتحوي بعض كتب الحديث الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وليس القصد هنا استقراءها ويكفي أنْ نأخذ نموذجا لهذا

المطلب الأول: قعود النبي عليه الصلاة والسلام على العرش

قد نجد مبرراً لوجود أحاديث ضعيفة في كتب الفقه أو التزكية أو التفسير بالمأثور، أما أن تُوجد كتب ضعيفة ركيكة في كتب العقيدة أو أحاديث ضعيفة ركيكة في بعض كتب الحديث فهذا يحتاج إلى استنفار؛ لأن العقيدة تقوم على اليقين وليس على الظن، ومن غير الدخول في جدلية هل أحاديث الصحيحة تفيد العلم أم الظن، فليس هناك خلاف في أن الأحاديث الضعيفة لا يُؤخذ بها في الأحكام، فمن الأولى عدم أخذها في العقيدة، يقول السيوطي(ت:911ه):" (ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد) الضعيفة (ورواية ما سوى الموضوع من الضعيف والعمل به من غير بيان ضعفه في غير صفات الله تعالى)، وما يجوز ويستحيل عليه، وتفسير كلامه، (والأحكام كالحلال والحرام، و) غيرهما، وذلك كالقصص وفضائل الأعمال والمواعظ، وغيرها (مما لا تعلق له بالعقائد والأحكام)(18).

الوقوف عند هذه الأحاديث واستقرائها يطول بنا، وليس من مقاصدنا هنا ضبط هذه الأحاديث وحصرها، ونكتفي بنموذج واحد فقط هو الحديث الموجود في سنن أبي بكر بن الخلال(ت:311ه)، وقال:"أبو بكر بن إسحاق الصاغاني: لا أعلم أحداً من أهل العلم ممَّن تقدَّم، ولا في عصرنا هذا إلا وهو منكر لما أحدث الترمذي(ت:279هـ) من ردِّ حديث محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} [الإسراء: 79] قال: «يقعده على العرش»، فهو عندنا جهمي، يُهجر ونحذر عنه، فقد حدثنا به هارون بن معروف، قال [ص:233]: حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد في قوله {عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً} [الإسراء: 79] قال: «يقعده على العرش» وقد روي عن عبد الله بن سلام، قال: «يقعده على كرسي الرب جل وعز»، فقيل للجريري: إذا كان على كرسي الرب فهو معه، قال: ويحكم، هذا أقر لعيني في الدنيا، وقد أتى علي نيف وثمانون سنة ما علمت أنَّ أحدا ردَّ حديث مجاهد إلا جهمي، وقد جاءت به الأئمة في الأمصار، وتلقته العلماء بالقبول منذ نيف وخمسين ومائة سنة، وبعد فإني لا أعرف هذا الترمذي، ولا أعلم أني رأيته عند محدث، فعليكم رحمكم الله بالتمسك بالسنة والاتباع وقال أبو بكر يحيى بن أبي طالب: «لا أعرف هذا الجهمي العجمي، لا نعرفه عند محدث، ولا عند أحد من إخواننا، ولا علمت أحدا رد حديث مجاهد» يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش "، رواه الخلق عن ابن فضيل عن ليث عن مجاهد، واحتمله المحدثون الثقات، وحدثوا به على رءوس الأشهاد، لا يدفعون ذلك، يتلقونه بالقبول والسرور بذلك، وأنا فيما أرى أني أعقل منذ سبعين سنة، والله ما أعرف أحدا رده، ولا يرده إلا كل جهمي مبتدع خبيث، يدعو إلى خلاف ما كان عليه أشياخنا وأئمتنا، عجل الله له العقوبة" (19).

المطلب الثاني: أثَر هذه النماذج

الذي نلحظه في النموذج السابق الحديث أنه جاء ضمن كتاب يُسمَّى كتاب السُّنة وفي داخله ذكر الجهمية، فكأنَّ التمسك بالسنة يقتضي أنْ نقبل كل شيء، ومن يرفض شيئا يُتَّهم بأنه جهمي نسبة إلى جهم بن صفوان(ت:127هـ)، ومن الملاحظ أنَّ الحديث يردُّ في بدايته على الترمذي، ولننتبه إلى الحديث كيف يصوِّر محمدا عليه الصلاة والسلام بأنه يجلسه على العرش، ومن الملاحظ أنّ الجلوس هنا هو جلوس مادي فكلمة معه أي بجانبه، ولننظر إلى هذه المبالغة والادّعاء" وقد أتى علي نيف وثمانون سنة ما علمت أن أحدا رد حديث مجاهد إلا جهمي، وقد جاءت به الأئمة في الأمصار، وتلقته العلماء بالقبول منذ نيف وخمسين ومائة سنة" وينتهي الحديث بالدعاء على الترمذي بالتعجيل عليه بالعقوبة عوضاً عن الدُّعاء له بالهداية!

وليس القصد هنا مناقشة هذا الحديث بقدر ما هو تبيان أنَّ ردة الفعل في القرن الثالث الهجري كانت شديدة ضدّ كل من يقف عند بعض الأحاديث ويناقشها، ولا يعني هذا أنَّ هذه هي السِّمة هي الظاهرة والبارزة عند المحدثين بل المقصود أنَّ بعض المحدثين يروون أحاديث لا يفكرون في صحتها ومناقشتها وأن المعترض عليها يُتهم بعقيدته ودينه.

أدّت هذه النماذج إلى شيء من التنافر بين السُّنَّة النبوية وعلومها وبين علم الكلام، وقد كان هذا التنافر ظاهرا في تاريخنا، ووصل التنافر إلى أعلاه عند المعتزلة في عدم احتجاجهم في أحاديث السنة التي تصطدم مع أصولهم بحجة أن هذه الأحاديث لا تفيد العلم أو أنها قابلة للتأويل... وبمقابل هذا جاءت ردة فعل مقابل المعتزلة مما جعل بعض المحدثين يحتجون بأحاديث واهية لا تصلح للأحكام بل قد لا تصلح لفضائل الأعمال، وغالباً ردّات الفعل تكون خالية من التعقُّل، مع أنَّ الكثير من فروع العقائد هي من فروع أصول الدين وليست من أصول الدين، والأمثلة على ذلك كثيرة منها حقيقية الميزان، ونوعية الصراط، والاختلاف في مثل هذه المسائل هو أقرب إلى الاختلاف في فروع الفقه، يقول الشهرستاني(ت548ه):" وأما الاختلافات في الأصول فحدثت في آخر أيام الصحابة... وبالجملة: كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول، ومن المعلوم أن الدين إذا كان منقسما إلى معرفة وطاعة، والمعرفة أصل والطاعة فرع، فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان أصوليا، ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعياً، فالأصول هو موضوع علم الكلام، والفروع هو موضوع علم الفقه" (20).

وقد ذكر الشرستاني(ت548ه) أن دخول طوائف من المحدثين في التشبيه هو نتيجة تحيرهم في تقرير مذهب أهل السنة في المتشابهات بعد توغل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنة حتى أدى إلى أن " جماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه "(21).

ومما لا شك فيه أنّ علماء الجرح والتعديل من أهل السنة قاموا بجهدٍ جبار لكشف أكثر هذه الأحاديث وإظهار زيفها من خلال علم الجرح والتعديل، ولكن هناك نوع من القطيعة بين علم الكلام الحقيقي وبين بعض الأحاديث، يقول ابن تيمية:" ولا ريب أن هذا موجود في بعضهم يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل " الأصول والفروع " وبآثار مفتعلة وحكايات غير صحيحة ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه وربما تأولوه على غير تأويله؛ ووضعوه على غير موضعه. ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف والمعقول السخيف قد يكفرون ويضللون ويبدعون أقواما من أعيان الأمة ويجهلونهم ففي بعضهم من التفريط في الحق والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأ مغفورا وقد يكون منكرا من القول وزورا وقد يكون من البدع والضلالات التي توجب غليظ العقوبات فهذا لا ينكره إلا جاهل أو ظالم وقد رأيت من هذا عجائب. لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل" (22).

الحلقة الثانية هنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين