أطايب الأنفاس في عز العافين عن الناس

إذا عَدَّ العبدُ العفوَ ذُلًا، والصَّفْحَ عَارًا؛ فَمَآلُهُ ذُلٌّ أَكِيْدٌ، وَألمٌ مَدِيدٌ، أَمَّا من عَفَا عن غيرِهِ، زَادَهُ اللهُ شَرفًا وَعِزَّة، وَفَضلًا وَرِفْعَة، بَل أَحَبَّهُ وَحَبَاه، وَقَرَّبَهُ واجتبَاه، وَعَفَا عنْهُ بِعَفْوهِ عَن غيره، وَمَنَّ عليهِ بِسَعادةِ قَلبهِ، وَسُكُونِ بَالهِ، وَصَفاءِ حَالِهِ، فلا يَغزُوهُ هَمٌّ ولا غَمٌّ، وَلا حَزَنٌ وَلا أَلمٌ، بَل جَعل سَعيَهُ في الناس مَشكورًا، وَأجْرَهُ عندَ اللهِ مَذْخُورًا !

 

كلامٌ قيِّمٌ لابن القيم.. عن العفو الذي نقصد

إن من قدر على استيفاء حقه، ثم عفا عن خصمه؛ إحسانًا منه وفضلًا؛ كان عفوه محمودًا، أما إن عجز عن جلبه؛ مهانة وخوفًا، كان عفوه مذمومًا، بل إنَّ من استوفى حقه بالقوة، أحسن حالًا منه؛ فإن القرآن مدحه بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]، فالعفو الذي نقصد ما كان عن قدرة، وإلا كان عَجْزًا وَمَذَلَّة!

 

ذكر ابن القيم في مدارج السالكين أحد عشر مشهدًا للعبد فيما يصيبه من أذى الخلق، إليك ذكرَها وجيزةً دون شرح:

أولًا: مشهد القدر: فتعلم أن مصابك حاصلٌ بقدر الله، كما تتأذى بالحر والبرد والمرض والألم.

ثانيًا: مشهد الصبر على ما أصابك، وأنه من عزم الأمور.

ثالثًا: مشهد العفو والصفح والحلم. وهو مشهدنا هذا

رابعًا: مشهد الرضا: فإن رضيت بما كتبه الله لك من الأذى؛ ليحبك، وإن سخطت سقطت منك الرتبة.

خامسًا: مشهد الإحسان لأهل الإساءة.

سادسًا: مشهد السلامة وبرد القلب، فيفرغ قلبه من طلب الثأر وشفاء النفس، ويشتغل بما هو أنفع له في الآخرة.

سابعًا: مشهد الأمن: فمن انتقم داهمه الخوف، ولم يأمن من عدوه ولو صغر، فكم من حقير أردى عدوه الكبير، فإذا غفر أمن في حياته.

ثامنًا: مشهد الجهاد: فيجعل ما أصابه جهادًا في سبيل الله، وأن الله اشترى منه نفسه وماله وعرضه؛ فيأخذ أجره كاملًا منه، ولا حق له على من آذاه.

تاسعًا: مشهد النعمة: فإن الله عزَّ وجلّ جعله مظلومًا يترقب النصر، لا ظالمًا يترقب المقت، فضلًا عن تكفير سيئاته، وأن المصيبة في دنياه لا في دينه.

عاشرًا: مشهد الأسوة: فيتأسى برسل الله وخاصته، وهذا مشهد شريف جدًا.

الحادي عشر: مشهد التوحيد: وهو أرفع المشاهد، فإذا امتلأ قلبه بحب الله، أنس به، وسكن إليه، واشتاق للقائه، ففوض أمره كله له، بل ليس في قلبه متسع لغيره ليشغل قلبه به ! [انظر: مدارج السالكين (2/321)]

 

من عفا عز:

قال تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 99، 100]

جعل الله نبيه يوسف على خزائن الأرض، فجاء إخوته يطلبونه الطعام وهم له منكرون، فتواضع لهم، ولم يقتصَّ منهم، بل التمس عذرًا لهم؛ بِأَنَّ فعلهم كان لِجَهلِهِم، وقصور علمهم، فقال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89]، فلما عاينوا إحسانه في مقابل إساءتهم {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91]، أي: نقسم بالله أن الله فَضَّلَكَ علينا، فَأَعَزَّكَ وَأَذَلَّنَا، وأغناك وأفقرنا، فأجابهم: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، فَرَفَعَهُ اللهُ عليهم بِعَفْوِه، وجاءوا ومعهم أهلهم سجدًا له [وقد كان السجود جائزًا في شريعتهم، على أنه لون تحية لا سجودٌ شرعيٌ؛ فإنه لا ينبغي إلا لله تعالى.. انظر: تفسير الوسيط لسيد طنطاوي ص (2345)]؛ إظهارًا لِعِزِّهِ وفضله !

وتأمل حكمة الله التي كتبت أن يأتوه في تذلل وانكسار، ثم ينادوه بوسام العزة بقولهم: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88] !

 

لينصرنه الله:

قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60]

إن الله تعالى ينصر عبده المستوفي لحقه إن بغي عليه، وإن الله تعالى يكون في مقابل الباغي على عبده، وهذه دلالة جلية تشي بحقيقة الصلة بين الله وعباده، فإنه يجعل صفهم صفه، وأمرهم أمره بل يجعل عدوهم عدوه، فتكون قضيتهم هي قضيته، ومعركتهم هي معركته !

فأي معراج عزٍ هذا الذي يرفع مقام المؤمن حتى يكون أعز البشرية؟! وأي مهباط ذُلٍ هذا الذي يجعل المخالف الباغي أذل البرية؟!

 

أخي: إذا كانت النُّصرةُ الإلهية بِالحَدِّ الذي رأيت لمن استوفَى حَقَّهُ، فَكَانَ عَدْلًا لا محسنًا؛ فما ظَنُّكَ بالله عليك-بِنُصْرَةِ الله لك لو عفوت عن أخيك، واتبعت الإحسان الذي رغبك الله فيه في مواضع كثيرة؟! ألا ترى أن الله يسربلك بعطاء لا يحصى، وخير لا يعد؟!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين