قد لا يُفرق بعض الناس بين قدَر
وقدَر؛ فيظنون أنَّ كل ما قدَّره الله يستوجب الإيمان والرضا به فلا يدين نفسه
فيما ارتكب، فلو فعل معصية يبرِّرها بأنَّها قدر من الله، وإذا كان كذلك فلا
مسؤولية عليه ولا مؤاخذة، ومثل هذا التصور خطير جدا؛ لأنَّه يقود إلى القول بالجبر
وانتفاء المسؤولية عن الأفعال طالما أن ذلك كله بقدر الله.
ولا شك أنَّ كل شيء بقدر الله لكن
إيماننا بذلك لا يَنفي مسؤوليتنا عما نرتكب من أخطاء ومعاصٍ تستوجب المحاسبةَ
عليها وتحمل العقوبة المترتبة إن وجدت.
ولما جيء بسارق إلى عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - وأراد أن يقيم عليه الحد فقال معترضا: كيف تقيم عليَّ حدًّا قدَّره
الله علي؟ فقال له عمر رضي الله عنه: سرقت بقدر الله ونحن نقيم عليك الحد بقدر
الله..
فالسرقة لا شك بقدر، وإقامة الحد
على السارق بقدر أيضا.
ولذلك ليس في كتاب الله ولا سنة
رسوله صلى الله عليه وسلم أمر بالرضا بكل مقضي ومقدر من أفعال العباد حسنها وقبحها
(ابن تيمية مجموع الرسائل الكبرى ٢/٧٨ ومدارج السالكين لابن القيم١/٢٨٠).
ومن هنا فإنَّ حكم الرضا بالقضاء
والقدر ليس واحدا، بل يختلف حكمه باعتبار متعلَّقِه، وإليك بيان حكم كل منها:
١- باعتبار تعلقه بالله أو تعلقه
بالإنسان المكلّف:
فأما إذا تعلق القضاء والقدر بالله
تعالى باعتبار أنه خلْق الله ومنسوب إليه فهو من هذا الوجه يرضى به لأنَّه خير كله
وعدل كله سواء ظهرت لنا حكمته أم لم تظهر.
ومن الرضا بالقدر من هذا الوجه
ثمرات طيبة من قوة الشكيمة، ومضاء العزيمة، فمن اطمأنَّت نفسه إلى أنَّ ما أصابه
لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، خلت نفسه من الحيرة والتردد والقلق
والاضطراب، فإذا ترجَّح لديه الإقدامُ على أمر ما بعد الاستخارة أقدم من غير خوف
ولا تردد. ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فلا تقل: لو أني فعلت
كذا كان كذا، ولكن قل: قدَّرَ اللهُ وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطان)
أخرجه مسلم في صحيحه.
وقد تجلَّت هذه الصفات واضحة في هذه
الأمة أمة الاسلام أيام كانت عقيدة الإسلام في القضاء والقدر واضحة في نفوسهم،
قوية في قلوبهم فقد فاقوا غيرهم شجاعةً وكرمًا وصبرا، الأمر الذي تمكَّنوا به من
سيادة العالم وقيادته مدةً طويلة من الزمن.
٢- أما من جهة تعلق القضاء والقدر
بالمكلف ونسبته إليه (أي المَقْضي) فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يُرضى وما لا يُرضى،
مثل قتل النفس مثلا له وجهان: فمن حيث أنه قدر الله وقضاؤه، وجعله أجلا للمقتول
ونهاية لعمره يُرضى به، ومن حيث إنه صدر من القاتل وباشره بنفسه، وأقدم عليه
باختياره، وعصى الله بفعل ما نهى الله عنه، فانه لا يُرضى به، بل يُسخط ويُنكر
عليه وبما يستحقه من عقاب.
والله أعلم
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول