أسرار الحج

تعالَ معي نجُبْ ما في الحج من حكم وأسرار، ونتأملْ ما فيه من مشاهد ومواقف، نحاولْ استخلاص العبرة والدلالة، والدرس والموعظة، والإشارة الخفية والجلية!..

تعال نفعل ذلك!.. ففي ذلك متعة وجمال، وشوق وحنان، وخير مبارك واسع. ولننظر إلى هؤلاء الطائفين الساعين، الذاكرين المسبّحين، الراكعين الساجدين، الذين وفدوا إلى بيت الله الحرام، يرجون الرحمة، ويبتغون المغفرة، وينشدون الفوز والقبول، ولنسمع إلى أصواتهم الهادرة بالتلبية، ولنرقُبْ ملابسهم الموحّدة الجميلة، ولنتأمّل معاً فيما يقولون ويفعلون، إننا سنجد العجب العجاب مما تدبّره عنايةُ الله عز وجل.

هؤلاء الضيوف.. ضيوف الرحمن إلى بيته العتيق الآمن، تجددت حياتهم، ونشطت أجسادهم، وحسنت طباعهم، وتهذبت نفوسهم، ورقّت سرائرهم، وكرمت نواياهم، وطابت أعمالهم. تطهّرت منهم المطامح، وسمَت منهم الآمال، وعذُبت منهم الأشواق، أشرقت قلوبهم بالخير، وتطهّرت بالهداية. توضأت بالإيمان، وتعطّرت بالقرآن، وزكت بالأذان، فإذا بهم بعد هذه النُقْلة الإيمانية المباركة، خلقٌ آخر، تتزايد فيهم طاقات الخير وتتضاعف، وتنحسر فيهم نوازع السوء وتتضاءل.

هم ضيوف الرحمن جل جلاله، ووفده الكريم إلى بيته العتيق الآمن، وهم كذلك جنده الأطهار الأبرار، الشرفاء الأتقياء، قدموا إلى مهد الإسلام الأول ومَأرِزِهِ الأمين، حيث نبتت الدعوةُ المباركة بذرةً صغيرة ما لبثت أن أخذت تنمو وتشتد وتقاوم التحديات، وتصارع الطغاة والبغاة والآثمين.

قدِم هؤلاء الضيوف ليتذكّروا المعركة الأولى بين المسلمين يقودهم رسول الله ، وبين الكافرين تقودهم عصبة السوء، كأبي جهل وأبي لهب، وليستشرفوا الهداية في أرض النور، والنور في أرض الهداية، وليقرروا بوعي وفهم، وعزم وصلابة، أنهم سيعملون على استئناف حياة إسلامية، مباركة راشدة بعد عودتهم إلى بلدانهم.

لقد قدم ضيوف الرحمن من كل فج عميق، ووادٍ سحيق، وأرضٍ نائية، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معدودات، ويشكروه على جزيل نعمائه، وعظيم جوده وآلائه، ويتوبوا إليه مما أذنبوا، ويستغفروه مما قصّروا، ويتداركوا ما فرّطوا، ويجددوا العزم والنشاط، ويغذّوا المسيرة المؤمنة، صوب الأمل المنشود، والغاية المؤملة، ويجددوا العهد على محاربة الفساد والانهيار في حياة أمتهم، وتقوية موكب الخير والرشاد فيها، ليتداركوا ضعفها ويتجاوزوه، ويحققوا أملها وينالوه، وليهتفوا بكلمة الحق، ويتبنَّوا دعوة الهداية، ويحملوا راية الإسعاد والإنقاذ هنا وهناك، راية الإسعاد الإسلامي، ولواء الإنقاذ القرآني، فيأوي إليهم الضالون والحائرون، والحزانى والمُتْعَبون، ويفيء إليهم كل الباحثين عن حلولٍ مؤمنة لمشكلاتهم الكثيرة، التي أوقعتهم فيها الجاهلية المعاصرة، حلولٍ مؤمنة تنسجم مع فطرتهم التي برأهم الله تعالى عليها، تحقق لهم سعادة الدين والدنيا معاً.

وسيعود ضيوف الرحمن هؤلاء، وقد ازدادوا خيراً وبركة، ورشداً وهداية، وقد انتصرت فيهم الإنسانية على الحيوانية، والفضائل على الرذائل، والإيثار على الأثرة، والخير على الشر.

سيعودون لينصروا دين الله عز وجل، بعد أن اجترأ عليه العادون، واقتحم حماه الفاسدون، وعاث فيه الكافرون والفاجرون.

سيعودون وهم أثبت نفساً، وأقوى أملاً، وأمضى عزماً، وأرسخ يقيناً وهمة.

سيعودون وقد عقدوا العزم على مقاومة الفساد الكافر، والكفر الفاسد، ومحاربة عدوان الظالمين وتسلط الغادرين، ومؤامرات اللصوص والذئاب، وخطط الخصوم والأعداء، حتى تكونَ كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

وإن ذلك لكائن بإذن الله، في يوم لا ندري متى يكون، لكننا واثقون من قدومه، فذلكم أمر الله وقدره، وهو على كل شيء قدير.

إنه النداء الرباني العظيم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"؛ هو الذي جاء بهذه الأعداد الهائلة من البشر إلى موطن الإسلام الأول، لتجدد إيمانها بهذا الدين الخالد، ولتبايع الله عز وجل على الولاء التام له وحده، ونبذ كافة المبادئ والدعوات الجاهلية التي ذاعت في عدد غير قليل من ديار الإسلام، وكشفها والتصدّي لها ومحاربتها.

 وفي مهد الإسلام الأول، وفي ظلال البيت المبارك العتيق، ستعرف حشودُ الحجيج حقيقةَ دينها العظيم بما تقوم به من شعائر عميقة المعاني، ومناسك بعيدة الدلالات، ويرسخ في أذهانها أن الإسلام وحده هو الحق المطلق الذي لا تشوبه شائبة، وأنه سبيلُ سعادتها ديناً ودنيا، فتحرص عليه، وتفرح به، وتستمسك بعروته، وتعض عليه بالنواجذ، ثم تنطلق به إلى الناس جميعاً، تعمل على نشره، وتذيع خيره وبركته، وتقدم فضائله للناس، لتهدي به كل من ضل واحتار، وشقي وتاه، ومضى يخبط في ليل الجاهلية البهيم.

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين