أبشر ولا تنكسر

أبشر ولا تنكسر

إيمان مغازي الشرقاوي

 

في يوم عاصف من أيام الشتاء الباردة، نظرت من شرفة منزلها تتفقد أحوال الجو وتسبح بحمد ربها العظيم الخلاق؛ الذي له في اختلاف الفصول وتعاقب الأيام حكم بليغة لا نعلمها لفت نظرها تلك الشجرة التي تراها غير بعيد من شرفتها رأتها وهي تهتز مع كل هَبَّة من هَبَّات الرياح التي تكثر في هذا الفصل من فصول العام: تترنح من آن لآن محاولة الصمود أمامها ومع كل هزة من هزاتها التي تقوى تارة وتهدأ أخرى رأتها وهي تتمايل وتنحني مع فروعها الطرية وكأنها تحتضنها بحنان أو تهمس في آذانها ببعض كلمات الصبر والتثبيت حتى تخرج بها من هذه المحنة بسلام ودون أن تنكسر.

 

تذكرت مع هذا المشهد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ خامَةِ الزَّرْعِ يَفِيءُ ورَقُهُ مِن حَيْثُ أتَتْها الرِّيحُ تُكَفِّئُها، فإذا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وكَذلكَ المُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بالبَلاءِ، ومَثَلُ الكافِرِ كَمَثَلِ الأرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حتَّى يَقْصِمَها اللَّهُ إذا شاءَ» (رواه البخاري)؛ وفي رواية مسلم: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله؛ ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء»؛ فشبه النبي صلى اللّه عليه وسلم المؤمن بالخامة من الزرع؛ وهي النبتة الطرية منه تميلها الريح مرة وتعدلها مرة؛ ووجه التشبيه أن المؤمن إن جاءه أمر الله انصاع له ورضي به؛ فإن جاءه خير فرح به وشكر وإن وقع به مكروه صبر ورجا فيه الأجر؛ فإذا اندفع عنه اعتدل شاكرا.

 

الابتلاء قرب واصطفاء:

إن الحياة الدنيا لا تصفو ولا تخلو من كدر؛ وإن المؤمن يناله النصيب الأكبر من ابتلاءاتها ومحنها ليس لهوانه على اللّه عز وجل وإنما يبتلي الله سبحانه عباده؛ ليقربهم إليه بصدق لجوئهم إليه وقت البلاء. ويصطفيهم إذا صبروا بل ويجتبيهم فيدخلهم الجنة بغير حساب؛ كما قال عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10)؛ لذا فقد كتب الله تعالى على المؤمن حظه من الابتلاء حتى يلقاه نقياً من الذنوب طاهراً من الخطايا مرفوع الدرجات كثير الحسنات؛ وذلك حين يتقلب العبد بين منزلتي الشكر والصبر.

وقد استحسن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر المؤمن وتعجب منه وقال: «عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير؛ وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً لك وإن أصابته ضراء؛ صبر فكان خيراً له» (رواه مسلم).

 

كن أنت الصابر الشاكر:

إن نعم الله تعالى تغمرنا وتحيط بنا من كل جانب. وكما يبتلينا الله بما نكره فإنه أيضا يختبرنا بما نحب؛ وقد قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} الأنبياء 5 : وجاء في تفسيرها: أي نبتليكم بالشر والخير فتنة؛ بالشدة والرخاء؛ والصحة والسقم؛ والغنى والفقر؛ والحلال والحرام؛ والطاعة والمعصية؛ والهدى والضلال: بما تحبون وما تكرهون؛ نختبركم بالمصائب تارة؛ وبالنعم أخرى (تفسير ابن كثير والبغوي).

فالمؤمن مبتلى بالنعم أو بالمحن إلى أن يلقى اللّه سبحانه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ الخامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُها الرِّياحُ، تَصْرَعُها مَرَّةً وتَعْدِلُها، حتَّى يَأْتِيَهُ أجَلُهُ، ومَثَلُ المُنافِقِ مَثَلُ الأرْزَةِ المُجْذِيَةِ الَّتي لا يُصِيبُها شيءٌ حتَّى يَكونَ انْجِعافُها مَرَّةً واحِدَةً). (رواه مسلم).

 

فالدنيا كلها اختبار كبير؛ لكن النفس البشرية ترى ابتلاءها الحقيقي فيما يعرض لها من أقدار تراها في ظاهرها شرا لها، وهي في حقيقتها خير وإن كنا لا نرى ذلك؛ ولو كان هذا الابتلاء شرا كما يظن البعض لَمَا ابتلى الله أنبياءه ورسله وصالحي عباده.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مّن يرد الله به خَيّرا يُصب منه» رواه البخاري. فكان ابتلاؤهم رفعة لهم وعلو منزلة ودرجة عند الله تعالى، وقد علموا ذلك فكانوا يتعاملون مع ما يصيبهم من أقدار الله الله عليه وسلم: «إنَّا كذلِكَ ، يَشتدُّ علينَا البَلاءُ و يُضاعفُ لنَا الأجرُ فقالَ : يا رسولَ اللهِ ! أىُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً ؟ قالَ : الأنبياءُ ثمَّ الصَّالِحونَ ، و قد كانَ أحدُهم يُبتلَى بالفَقرِ ، حتَّى ما يجِدُ إلَّا العَباءةَ يجُوبُها فيلْبسُها ، و يُبتلَى بالقُمَّلِ حتَّى يقتُلَه ، و لأحدُهُم كانَ أشدَّ فرَحًا بالبَلاءِ ، من أحدِكم بالعَطاءِ» الأدب المفرد.

 

فعظم أجرهم بعظم بلائهم وجميل رضاهم وصبرهم: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن اللّه إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضاء ومن سخط فله السخط».

 

استعن باللّه تعالى:

إن الحياة الدنيا معبر يعبره المارون به وسبيل يسلكه السائرون؛ وإن أكثر الناس تعرضا لمشاق الطريق ووعورة طرقه وصعوبة مسالكه هم المؤمنون من عباد الله عز وجل؛ وعلى قدر مشقته والصبر على لأوائه ومتاعبه تكون الجائزة في نهايته. فإذا ما قابلك البلاء يوماً فلا تقل: لماذا ويا ليت! ولا تتحسر واصبر ولا تنكسر فما أكثر ما يقابل المؤمن في حياته من عوامل الانكسار التي قد تختلف من وقت لآخر ومن شخص دون شخص..

وهذا يتطلب منه أن يكون ذا إرادة قوية وصبر كبير وثبات على دينه وقيّمه وأخلاقه. وقد يجد صعوبة في ذلك ويستشعر في نفسه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» الترمذي.

لكن المسلم القوي مع هذا لا ينكسر في كل أحواله حلوها ومرها وخيرها وشرها فرارا إلى الله عز وجل؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي؛ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير..». (رواه مسلم).

 

المؤمن القوي لا ينكسر:

إن المؤمن يتعامل في كل أحواله مع الله يرجو رحمته ويخاف عقابه؛ ويعمل لحياته الأبدية ومستقبله الحقيقي، لذا فهو يتقوى بالله ولا ينكسر.

 

لا ينكسر أمام مغريات الحياة قلا ينساق وراء شهواتها المحرمة؛ ولا يخوض في شبهاتها؛ بل يعتصم بالله عز وجل؛ وقد قال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد: 20).

 

لا ينكسر أمام فتنة المال والولد؛ فاللّه تعالى يعلمنا: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن: 15)؛ أي بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومتع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية اللّه (تفسير القرطبي).

 

فلا يجمع المؤمن ماله من حرام بسحت أو رشوة أو زور أو غصب، بل يكسبه بعرق الجبين من حلال؛ ويصبر ويتعفف حتى يغنيه اللّه تعالى، كما أنه لا يطغيه غناه، بل يشكر ربَّه الذي منحه وأعطاه ويخاف عقابه ويؤدي حقه فيه؛ مع القيام بحق أولاده من التربية والرعاية والنفقة.

 

لا ينكسر أمام شهوة الجسد؛ بل يغض من بصره ويحصن نفسه بالزواج؛ ويتعاون الزوجان معا على طاعة الله عز وجل.

لا ينكسر أمام حظوظ النفس: فهو لا ينكسر أمام مستجدات الموضة وصراع الأزياء والانسياق وراء كل جديد: فإن همه في الحياة أكبر من ذلك وأسمى.

لا ينكسر أمام كلام الناس والعادات التي تخالف شرع الله سبحانه؛ بل ما وافق الشرع أخذ به وما عدا ذلك فليس له فيه حاجة.

لا ينكسر أمام وسائل التواصل الاجتماعي بتضييع أوقاته معها. والأحرى بك ألا يبعثر ساعات عمره بين أروقتها. وألا يستمع لكل ما يقال أو ينشر كل ما يسمع بالتحرير المزيف الذي يُبتغى به التحرر من الدين وأخلافه وقيمه؛ بل يزداد تمسكا بدينه وينافح عنه بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

لا ينكسر أمام الشعارات الزائفة، والأفكار المنحرفة، التي تشوه العقيدة وتمس جناب التوحيد.

لا ينكسر أمام الشيطان الذي يزين للناس كل شر بل يستعين بالله العزيز ويحسن عباداته ويؤدي واجباته، ويخلص

نياته.

لا ينكسر أمام المحن والابتلاءات التي تشق على النفس، بل يصبر ويحتسب لا يشكو ربه لعباده؛ لا بكلمة صوتية ولا برسالة خطية؛ ولا بحالة على وسائل التواصل! فإن البلاء سيزول والفرج سيأتي والأجر سيكتب؛ إن شاء اللّه تعالى، وإذا صبر العبد ورضى وسلَّم أمره لله الذي بيده كشف الضر وحده، وبيده خزائن الأرزاق كلها من مال وولد وعافية؛ ووظيفة وزوج ومسكن وعائلة: وعلم وعمل وأخلاق: وهداية وراحة بال.

 

أبشر أيها المؤمن؛ أبشر ولا تنكسر وسل الله العافية دون ملل أو كلل حتى يُفتح لك الباب؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من فتح له منكم باب الدعاء، فتحت له أبواب الرحمة، وما سأل اللهَ شيئاً يعني أَحَبّ إليه من أن يُسأل العافية» رواه الترمذي.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين