أولاً: المقصود بنصوص الأحكام:
قسَّم العلماء محتوى الدين الإسلامي إلى ثلاثة أقسام، تمثل كل منها جانبًا من جوانب الشمول والتكامل في هذا الدين العظيم:
أ - العقيدة الإسلامية: وأصل التسمية مأخوذ من عَقَد الحبل إذا ربطه، ثم استعمل في عقيدة القلب وتصميمه الجازم، وموضوعها أركان الإيمان الستة، وما ألحق بها من مسائل، ولهذا العلم الشريف أسماء أخرى، منها: الإيمان والتوحيد وأصول الدين.
ب - الأحكام الأخلاقية: وهي الأحكام الوجدانية التي تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل، وما يجب أن يتخلى عنه من الرذائل. وتدرس هذه الأحكام في علم الأخلاق.
جـ - الأحكام العملية (الفقهية): وتتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال، وتشمل أحكام العبادات التي تنظم علاقة الإنسان بربه، كالفروض الخمسة، وأحكام المعاملات التي تنظم علاقة الناس بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات. وأحكام الأسرة والمعاملات المالية والجرائم والعقوبات... إلخ.
ويلاحظ أن هذا التقسيم تقسيم اصطلاحي تعارف عليه العلماء، للتوضيح، والتبيين. ولا يعني أن كل قسم مبتوت الصلة عن الآخر بل هي مترابطة ومتداخلة؛ فالمسائل الاعتقادية لابد أن ينبني عليها عمل وسلوك، وهذا السلوك هو الأخلاق بمعناها الشامل، كما أن المسائل العملية الفقهية، لابد أن تصدر عن اعتقاد، ونيّة.
وعلى هذا يكون المراد بنصوص الأحكام عند الإطلاق: كل نصٍّ يمكن أن يستفاد منه حُكْم فقهي، بطريقٍ مباشرةٍ أو بطريق الاستنباط.
ثانيًا: عدد آيات الأحكام:
القرآن الكريم شامل لأحكام الدين؛ إما تفصيلاً وإما تأصيلاً. ويوضح ذلك قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} [النحل: 89]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]. "أَيْ لِيُبَيِّنَ لكم أَمْرَ دِينِكُمْ ومَصَالِحَ أَمْرِكُمْ، وما يَحِلُّ لكم وما يَحْرُمُ عليكم. وذلك يَدُلُّ على امْتِنَاعِ خُلُوِّ وَاقِعَةٍ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تعالى"(1).
وقد اختلف أهل العلم في عدد آيات الأحكام على قولين:
القول الأول: "أنَّها محصورة بعدد معيَّن، ثم اختلف هؤلاء في عددها، فقيل: هي خمسمائة آية. وقيل: بل مائتا آية فقط. وقيل: هي مائة وخمسون آية فقط"(2).
وقيل: إن سبب هذا الحصر هو التيسير على طالب العلم، والمجتهد؛ حتى لا يكون طريق الطلب والاجتهاد عسيرًا، فينقطع سالكه عن الاستمرار أو تحصيل المراد.
القول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين؛ أنَّ آيات الأحكام غير محصورة في عددٍ، فكلُّ آية في القرآن قد يُستنبَط منها حُكْمٌ معينٌ، وَمَرَدُّ ذلك إلى ما يَفتحه الله على العَالِمِ مِنْ معاني القرآن ودلالاته، وما يَتميَّز به مِنْ صفاء الروح، وقُوَّة الاستنباط، وجَوْدة الذِّهْن وسَيَلانه، فأحكام الشرع كما تُستنبط مِن الأوامر والنواهي؛ كذلك تُستنبط مِن القصص والمواعظ والأمثال ونحوها، على نحو ما نجده عند الإمام القرطبي في تفسيره؛ فلا يكاد يَمرُّ على آية مِن آي القرآن إلا ويتعرَّض لِمَا فيها مِن أحكام.
ويبدو لي أنَّ هذا القول هو الرَّاجح وذلك لأسباب، منها:
السبب الأول: أنَّ دلالة النَّصوص على الأحكام على قسمين:
أ- ما هو صريح في الأحكام؛ كتلك الواردة في سورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام وغير ذلك.
ب- ما يؤخذ بطريق الاستنباط، وهذا على قسمين:
1- ما يُستنبط مِن الآية نفسها من غير أن يضم إليها آية أخرى؛ كاستنباط الشافعي صحة أنكحة الكفار من قوله تعالى: {امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9]، {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] ونحوه.
2- ما يُستنبط من الآية بعد أن يضم إليها آية أخرى ، كاستنباط عليّ وابن عباس رضي الله عنهما أنَّ أقل مدة الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14].
ومثله استنباط الأصوليين أنَّ تارك الأمر يستحق العقاب من قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] مع قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23](3).
السبب الثاني: أنَّ دعوى الحصر تُفضي إلى مآلات غير محمودة، منها:
أ- تعطيل الغالب الأعم من النَّصوص، وجَعْلُها غير ملزمة، وإنما هي فقط للتلاوة والتبرُّك.
ب- الفصل بين عمل القلب وعمل الجوارح؛ لاستبعادها النَّصوص المتعلقة بالاعتقاد والأخلاق والآداب، مع أنَّها مِن صميم الحكم الشرعي ومرتكزاته.
ثالثًا: المؤلفات في آيات الأحكام:
تناول عدد من العلماء آيات الأحكام بالشرح والتحليل، ومن أشهر مؤلفاتهم: أحكام القرآن للجصاص الحنفي (ت: 370هـ)، أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي (ت: 543هـ)، تفسير القرطبي(ت: 671هـ)، المُسَمَّى الجامع لأحكام القرآن، نيل المرام من تفسير آيات الأحكام لصِدِّيق حسن خان (ت: 1307هـ).
ومن المؤلفات المعاصرة التي تميزت بسهولة العرض وحسن الترتيب مع الاهتمام بالدراسة الفقهية المقارنة: كتاب تفسير آيات الأحكام للشيخ محمـد علي السايس (ت: 1396هـ)، تفسير آيات الأحكام للشيخ مناع بن خليل القطان (ت: 1420هـ)، روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للشيخ محمـد علي الصابوني.
وهناك مؤلفات معاصرة اقتصر أصحابها على جمع آيات الأحكام في القرآن، وترتيبها على حسب الموضوعات والأبواب الفقهية دون التعرض للشرح والتحليل، ومِن الكتب التي عُنيت بهذا الجانب:
فتح العلام في ترتيب آيات الأحكام، لصباح عبدالكريم العنزي، نيل المرام من أدلة الأحكام، لطارق الخويطر. بلوغ المرام من آيات الأحكام، لعبدالرحمن بن علي الحطاب.
رابعًا: عدد أحاديث الأحكام:
لم تسلم أحاديث الأحكام هي الأخرى من الاختلاف من حيث العدد: "فقد سُئِلَ الشافعي رحمه الله: كم أصول الأحكام؟ فقال: خمسمائة حديث. قيل له: فكم أصول السُّنن؟ قال: خمسمائة"(4).
أي إن أحاديث الأحكام بفرائضها وسننها التي هي حجة وأصل لا تتجاوز بنظر الشافعي ألف حديث.
وإذا نظرنا إلى أشهر المؤلَّفات فيها نجد هذا الاختلاف واضحًا للعيان:
فبينما يقتصر الحافظ عبدالغني المقدسي (ت: 600هـ) في كتابه عُمْدَةُ الأحكام من كلامِ خيرِ الأَنامِ على ما يقارب الـ(430) حديثًا، نجدها عند الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ) في كتابه المشهور بُلوغِ المَرَامِ من أدلة الأحكام (1570) حديثًا (5).
ومما تجدر الإشارة إليه في الفروق بين الكتابين أن أحاديث عُمْدَة الأحكام كلها مأخوذة من الصحيحين البخاري ومسلم، وقليل منها ما هو في أحدهما دون الآخر.
أما أحاديث بلوغ المَرَام فمأخوذة من الصحيحين وغيرهما، فليست كلها صحيحة، بل فيها بعض الضعيف، وهو كتاب مشهور ومتداول، وعناية أهل العلم به فائقة.
خامسًا: المؤلفات في أحاديث الأحكام:
للكتابين المشار إليهما شروح كثيرة، فمن شروح العُمْدَة: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد (ت: 702هـ)، ومن شروح البلوغ: سُبُل السلام، لمحمـد بن إسماعيل الصنعاني (ت: 1182هـ)، ومن الشروح المعاصرة على الكتابين والمشهورة والمتداولة بكثرة، والنافعة جدًا لا سيما للمبتدئين والمتوسطين: تيسير العلام شرح عُمْدَة الأحكام (في مجلد واحد كبير، أو مجلدين)، وتوضيح الأحكام من بلوغ المرام (سبعة مجلدات) كلاهما للشيخ عبدالله البَسَّام ( ت: 1423هـ). وقد طبعا عدة طبعات، ويتميز الشارح بالاهتمام بذكر الأمثلة العصرية وما يحتاجه الناس، والبعد عن المسائل المهجورة والتي لم يعد لها وجود في الواقع المعاصر.
"نسأل الله أن يجعَلَ صُدُورَنَا أَوْعِيَةَ كِتَابِهِ، وآذَانَنَا مَوَارِدَ سُنَنِ نَبِيِّهِ، وهِمَمَنَا مَصْرُوفَةً إِلى تَعَلُّمِهِمَا والبَحْثِ عَنْ معانيهما وغَرَائِبِهِمَا، طالِبِينَ بذلك رضا رَبِّ العالمين، ومُتَدَرِّجِينَ به إِلى عِلْمِ المِلَّةِ والدِّينِ"( ). اللهم آمين.
(1) ينظر: تفسير القرطبي (5/ 147).
(2) ينظر: المستصفى (4/6)، المحصول، للرازي (6/ 23).
(3) ينظر: البرهان في علوم القرآن، للزَّرْكَشي (2/ 3).
(4) مناقب الشافعي، للبيهقي (1/ 519).
(5) قد يزيد العدد أو يقل على حسب الطبعة.
(6) اقتباس من مقدمة تفسير القرطبي (1/ 2).
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول