آيات سياسية (8)

قال الله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35].

هذه الآية فيها جماع القوة والسياسة في التشريع الإسلامي، فمما اشتملت عليها المعاني الآتي:

1- قال الإمام الزمخشري إن المراد بشد اليد: القدرة على مزاولة الأمور، لأن اليد إنما تشتد باشتداد العضد، كما أنها استعارة في المعونة والإنهاض، فكأنه قال: "سنُقَوِّيك به، ثُمّ نُقَوِّي يَدَكَ به، ثُمّ سَنشُدُّ عَضُدَكَ به". وفيه إشارة إلى أهمية الأعوان بكل من يتولى مسؤولية عامة، لأن رعاية هذه المسؤولية العامة لا يحصل بلا تمكين، والتمكين لا يحصل دون أعوان من الرجال والأموال، وقد ساقت بعثة هارون أنواعاً من القوة إلى قوة موسى وهي قوة الوزارة التي بها "يلخص الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل الكفار"، وهذا هو التصديق المنشود لا مجرد أن يقول له: صدقت، وفي هذا درس عظيم لواجب النصرة المطلوب في الواقع المعاصر خاصة من أجل المشروع الجهادي في فلسطين وأنه لا يكفي فيه مجرد تصديق السردية الإسلامية للصراع إذا لم يتبع ذلك عمل جاد. وفي سبيل التأصيل لفكرة الأعوان خصص فقهاء السياسة الشرعية فصولاً خاصة، ومن ذلك قول إمام الحرمين: "ليس يخفى على ذي بصيرة أن الإمام يحتاج في منصبه العظيم، وخطبه الشامل العميم، إلى الاعتضاد بالعدد والعتاد، والاستعداد بالعساكر والأجناد، فإنه متصد لحراسة البيضة، وحفظ الحريم، والتشوف إلى بلاد الكفار ; فيجب أن يكون عسكره معقودا، يرون التطلع إلى أوامره شوفا مقصودا ومطمحا معمودا، ولا يجوز أن يكون معوله المتطوعة الذين لا يتنشئون إذا ندبوا مبادرين، حتى يتأهبوا، ويستعدوا ويتألبوا ولن تقوم الممالك إلا بجنود مجندة، وعساكر مجردة، هم مشرئبون للانتداب، مهما ندبوا، بعزائم جامعة، وآذان متشوفة إلى صوت هائعة".

2- ذكرت الآية من تكون به القوة وهو هارون -عليه السلام-، وما تكون به القوة وهو العضد، مثل قوله تعالى: "وثبت أقدامنا" إذ بها يحصل الثبات، وفي الآية دلالة على أن القوة مربوطة بأسباب مادية ومعنوية، وأن طلب الأسباب في كل الشؤون بما فيها النبوة لا يتنافى مع القصد إلى الله والثقة به والتوكل عليه.

3- إنّ تأييد موسى بهارون عليهما السلام دليل على أهمية الأصحاب والأتباع والأنصار في قوة المشاريع الكبيرة، إذ بدون ذوي الرأي والإفصاح عنه تذوي المشاريع الكبيرة، وإن استقراء التاريخ الإنساني وعلم اجتماع الجمهور يؤكد أهمية اجتماع الفكر باللسان، وامتزاج العقل بالخطابة.

4- اختلف المفسرون في تحديد المراد بقوله تعالى: "سلطاناً"، ونود التنبيه إلى تفسيرين نادرين وعميقين في القراءة السياسية للآية، وهما:

الأول: قول الإمام ابن فورك إن المراد بالسلطان: القوة على تدبير العامة، وتقويمهم على ما توجبه السياسة، هذا بخصوص العلاقة مع الرعية، أما العلاقة مع الأعداء فقد استكملها الإمام النسفي بقوله إن أحد مرادات السلطان: "الهيبة في قلوب الأعداء"، وهو تفسير بديع يكشف عن الشخصية السياسية والتجربة السلطانية لموسى عليه السلام في إدارة قومه وإدارة الصراع مع أعدائه بدءً من محاولة إخراجهم من مصر، والتي تمثل فيها ما يشبه دور القائد القومي، والزعيم الوطني لبني إسرائيل، ثم قيادتهم للجهاد نحو الأرض المقدسة بغرض بناء دولة قوية وجديدة، وهو ما لم يحصل إلا في عهد النبيين الملكين: دواد وسليمان عليهما السلام، ولو حصل لكان موسى أول ملوك بني إسرائيل.

الثاني: قول الإمام الماتريدي إن المراد بالسلطان: اللطف الذي يدفع به الأذى والشر عن نفسه وقومه، وهو رأي بديع قلما يعثر عليه في كتب التفسير.

وإن مجموع هاتين القوتين: الناعمة والخشنة هو ما نسميه السياسة الشرعية، ولذا عرفها الإمام النسفي بقوله: "السياسة حياطة الرعية بما يصلحها لطفاً وعنفاً"، وقد ألقى الله على موسى محبة في صغره، فكأنها ادخرت لرعيته، ثم ألقى عليه هيبة فكأنها ادخرت لأعدائه، وإن الجمع بينهما صفة مهمة لكل من يلي شؤون الأمة، ولذا تخوف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من تولية أبي بكر لعمر رضي الله عنه، ثم إن الله عز وجل ألان قلب عمر رضي الله عنه حين خلافته، وهو ما حدث به بنفسه.

ولا تقتصر هاتين القوتين على الجانب المادي فقط، بل تمتد إلى الجانب المعنوي، ولذا نبه الإمام الطاهر بن عاشور إلى الرعب الذي بثه الله في قلب أعداء موسى عليه السلام، فإذا أضفنا إلى ذلك ما بثه في صدور الناس من محبته في قلوب أتباعه عرفنا أننا أمام قوة متكاملة الأطراف. ومما يشهد لمكانة موسى في نفوس أتباعه أن هارون عليه السلام تحمل منهم عبادة العجل ترقباً لمقدم موسى عليه السلام لأن مكانته ومحبته كانت كبيرة جداً.

5- يرى الإمام البيضاوي أن المراد بعدم الوصول إليهما أمران: وصول الاستيلاء وهو هنا: الحماية الشخصية من الإضرار، ووصول الحِجاج والمراد تفوق الحجج والبراهين النبوية على الفرعونية.

ويستفاد منه أهمية تأمين القوة والحماية للقيادة الإسلامية، وتحصين السردية الراشدة التي تتبناها، وأن تأمين إحداهما لا يغني عن الأخرى، فلا فكرة دون من يحملها، ولا وجود لمشروع دون فكرة.

6- الغلبة المقصود بالآية ثلاثة أنواع:

الأول: الغلبة بالحجج، وفي هذا المعنى دلالة على أهمية العناية بالحجج والبراهين في مشاريع مدافعة الكفر والفساد، والاحتلال والاستبداد، وأنها أحد أهم أوجه المعركة الحضارية لهذه الأمة مع أعدائها وخصومها في الداخل والخارج.

الثاني: الغلبة بالعاقبة: وفيه دلالة على فقه المآلات وأنه لا يكتفى بالنظر إلى المصالح الواقعة التي تتوقع تعاظمها مع مضيّ الوقت، وإن النظر في جهاد المحتل الصهيوني أكبر دليل على ذلك، فقد وجد من عرفت هذه التجربة الحضارية الكبيرة من استخف بالجهاد بالحجر دون أن يستشرف تحول هذا الحجر إلى قوة كبيرة تضرب كل بقعة من بقاع فلسطين المحتلة، وقد جعل الإمام الرازي انتصار بني إسرائيل على الجبابرة بعد سنوات من وفاة موسى عليه السلام امتداد للجهد النبوي الموسوي فقال إن المراد بالغلبة: "الغلبة في الدولة والمملكة"، وهو معنى دقيق.

الثالث: الغلبة بالآخرة، وفيها دليل على أن الغلبة وإن كان مطلوبا تحصيلها في الدنيا، إلا أنها قد تفوت لأقدار غالبة، أو قد لا تشهدها أهل السبق، إلا أن ذلك لا يعني بحال انتصار الباطل لأن الفصل الأخير والأهم من قصة الصراع يتجلى في الآخرة، ولذا نؤمن بانتصار موسى عليه السلام على الجبابرة في فلسطين على الرغم من حيلولة القدر بينه وبين قتالهم، وعدم رؤيته النصر الذي تحقق بعد وفاته على حدود الأرض المقدسة.

7- في قوله تعالى: "أنتما ومن اتبعكما الغالبون" إشارة إلى أهمية تقوية القلوب، ودور البشارة في تقوية قلوب القادة بقوله: "أنتما"، والأتباع بقوله: "ومن اتبعكما".

8- من الإشارات السياسية التي نبه عليها ابن عجيبة قوله: "إذا اجتمع في زمانٍ نبيان، أو: وليان، لا تجدهما إلا متخالفين في القوة والليونة"، وهي إشارة لطيفة ألمح إليها النص، ويصدقها الواقع، وتتسق مع فكرة المؤسسية التي تسعى لتوظيف الشخصيات المختلفة في سياق واحد، حيث تمس الحاجة إلى مقومات كل شخصية في بعض المحطات، ولهذا الأمر تجليات كبيرة في فقه السياسة الشرعية حينما تفترق القوة واللينة، أو القوة والأمانة، او القرشية والكفاءة، فمن ذلك قول ابن تيمية: "إذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة: قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضررا فيها: فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع -وإن كان فيه فجور- على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينا".

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين