آيات سياسية (5)

آيات سياسية (5)

بقلم: د. محمود النفار

 

قال الله تعالى: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ، وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33]

 

يمكن استنباط جملة من المعاني السياسية من هذه الآية القرآنية، فمن ذلك:

 

1- قولهم: "نحن أولو قوة وأولو بأس شديد" فيه إشارة إلى حتمية معرفة النفس، فإن معرفة النفس عليها مدار الفقه، وكذا عليها مدار السياسة والعلاقات، وبدونها يمكن للفاعل السياسي دولة كان أو حركة أن يتقحم المهالك، وهناك جملة من العوائق التي تحول دون المعرفة الدقيقة بالنفس، فمن ذلك جنون العظمة الذي يصاب به بعض القيادات، والتضليل الذي تمارسه الحاشية، والضعف الذي يحيط بمراكز دعم اتخاذ القرار.

 

2- في تمييز الملأ بين القوة-وهي العدد والسلاح والكثرة- والبأس -وهو الشجاعة في القتال والبلاء في الحرب- إشارة مهمة إلى ضرورة الجمع بين الأمرين، فلا يجدي السلاح في يد من لا دافعية له على القتال، ولا تجدي الكثرة في مقابل القلة المدربة.

 

3- في قولهم: "نحن أولو قوة وأولو بأس شديد" رعاية لمقام الحديث مع القائد، حيث يغيب التطويل الممل، أو الاختصار الممل، وقد لفت القاضي الباقلاني إلى أوجه من الإعجاز في هذه الآية في كتابه إعجاز القرآن لأن رعاية صنعة الاختصار مع البيان في باب السياسة تحديداً غالباً ما يكون مدخولاً، وأنقل قوله هنا لأنه بديع جداً، قال رحمه الله: "إن الكلام قد يفسده الاختصار، ويعميه التخفيف منه والإيجاز، وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه، ويتضمن الإيجاز منه تصرفاً يتجاوز محله وموضعه. وكم جئت إلى كلام مبسوط يضيق عن الإفهام، ووقعت على حديث طويل يقصر عما يراد به من التمام، ثم لو وقع على الافهام والتمام، أخل بما يجب فيه من شروط الأحكام، أو بمعاني القصة وما تقتضي من الإعظام. ثم لو ظفرت بذلك كله، رأيته ناقصاً في وجه الحكمة، أو مدخولاً في باب السياسة، أو مضعوفا في طريق السيادة. وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد، وإذا اختصر كمل في بابه وجاد، وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف خاطره، وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه، لم يقع إلا على محاسن تتوالى، وبدائع تترى".

 

4- مقصودهم من التنبيه على قوتهم وبأسهم هو ترجيح استعمال المخاشنة مع سليمان عليه السلام، وإنما لم يذكروا ذلك صراحة لحرصهم على رعاية منتهى الأدب في تقديم الرأي بيد يدي القيادة، فلم يُسَخّفوا الخيارات الأخرى التي يمكن أن تطرحها الملكة، أو يطرحها آخرون من غيرهم.

 

5- قال الزمخشري إنهم أرادوا القول: نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأى والمشورة، وأنت ذات الرأى والتدبير"، ومن هذا القول يمكن استنباط تحتم تراجع غير المتخصص في القضايا التخصصية، ووجوب إسناد هذه القضايا إلى أهل الاختصاص، وأن ارتفاع المكانة في القيادة لا تخول الإفتاء في كل قضية ونازلة.

 

6- قولهم: "الأمر إليك" بعد قولها: "أفتوني في أمري" كلاهما يشيران إلى وجوب وضوح الصلاحيات التي يمنحها النظام السياسي لأعضاء القيادة، بحيث لا تطمع سلطة في صلاحيات سلطة أخرى، لأن التنازع بين السلطات يضيع مقاصد نصب القادة، وتوزيع السلطة، والاحتكام للنظام.

 

7- وفي قولهم: "الأمر إليك" معانٍ أخر أيضاً، أهمها: الإشارة إلى أن القرار حق من حقوق القيادة بحسب ما يحدده النظام، وإن مصادرة القيادة للرأي تمسكاً بحقهم القرار ، وافتئات أهل المشورة على القرار تمسكاً بحقهم في إبداء الرأي كلاهما مؤذن بخراب عمران نظام الرأي، وفساد نظام القرار.

 

8- في ردّ الأمر إلى الملكة بغرض الانتهاء إلى القرار بعد إبداء الرأي إشارة إلى منتهى الشورى، وأن منتهاها اتخاذ القرار، والشروع في العمل، وإن الوقوف عند الرأي بعد إمضاء القرار تأخر لا محالة، كما أن اتخاذ القرار قبل المشورة تسرع مذموم.

 

9- في عرضهم الحرب عليها مع رد الأمر إليها بصفتها الموكلة باتخاذ القرار، دلالة على وجوب الطاعة في المنشط والمكره، وعدم منازعة القيادة الأمر، حتى وإن بدت ظاهرياً مرجحات القول المخالف.

 

10- قال الإمام القشيري تعليقاً على حسن إجابتهم ومحاورتهم وأدبهم بين يدي ملكتهم: "أجابوا على شرط الأدب، وقالوا: ليس منا إلّا بذل الوسع، وليس لنا إلّا إظهار النّصح، وما علينا إلا متابعة الأمر، وتمشية الأمر وإمضاؤه إليك".

 

11- في هذا الكتاب من سليمان عليه السلام إلى الملكة دليل على أن اختلاف الجنس لا يمنع المراسلة السياسية بينهما، وقد أحسن صديق حسن خان بالاستشهاد بهذه الآية تحت عنوان: باب ما نزل في إجابة المرأة الرجل على كتابته إليها في كتابه حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة.

 

12- على فرض أن مرادهم بالقول: "فانظري ماذا تأمرين" التفويض، ففي ذلك تنبيه على مشروعية التفويض في المجال السياسي على شرط أن لا يلغي فاعلية الرأي، وحيوية المفوض، وقد جمع الملأ بينهما في إجابتهم البديعة، وقد حقق الطاهر بن عاشور أن الثقة بأصالة رأي الملكة هو الذي يقف وراء هذا التفويض.

 

13- قولهم: "نحن أولو قوة وأولو بأس شديد" تنبيه إلى ضرورة وأهمية التعليل في عمليات اتخاذ القرار، لأن إبداء الرأي دون ذكر ما يدعمه من شواهد قصور في الرأي، وخسران في المسؤولية، وخيانة للأمانة، قال تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم".

 

14- من بديع استنباطات فقيه الحرية والاستبداد عبد الرحمن الكواكبي قوله إن هذه الآية "تشير إلى لزوم أن تُحفظ القوّة والبأس في يد الرّعية، وأن يخصص الملوك بالتّنفيذ فقط"، وهي إشارة مهمة تصلح مفتاحاً لدراسة توزيع السلطة وفق التصور الإسلامي والخبرة الحضارية.

 

15- كما استنبط الكواكبي في كتابه أم القرى أن العرب أعرق الأمم في أصول الشورى في الشؤون العمومية، في إشارة إلى هذه القصة، وهو تحقيق مهم يضعف هيمنة السردية الغربية التي تحتكر الشورى في النموذج الإغريقي على الرغم من وجود كثير من النماذج في المشارق والمغارب.

 

16- تدل الآية على المكانة الرفيعة التي يمكن للمرأة أن تتبوأها في العمل السياسي والدبلوماسي، حيث أظهرت العديد من العلامات الدالة على "وفور عقلها، ومضاء عزمها، وسناء منزلتها، واستمكانها من نفوس رعيَّتها" كما يقول الأديب الباجوري في كتابه: المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها.

 

17- ترسم الآية كما يقول عبد الكريم الخطيب: "صورة كريمة نبيلة للمحكومين، الذين يبادلون الحاكم إخلاصا بإخلاص، وحبا، بطاعة وحب معا".

 

18- قولهم: "فانظري" يدل على أن القرار لا يكون إلا عن نظر وتأمل وتفكر في سياقه ومآله، وإن القرار الذي لا يسبقه رأي ونظر لا يستجلب الطاعة، ولا يحصل المتابعة.

 

19- قال بعض المفسرين إن الآية توجه إلى "ما يجب أن تكون عليه الرعية ونوابها من نصرة الراعي، والاستعداد لبذل النفس والنفيس في حماية الأوطان والدفاع عنها كلما توقعت خطرا أو تعرضت لخطر، والالتحام التام بين الراعي والرعية، مع الاعتراف بالمنزلة السامية التي تمتاز بها الرياسة".

والله الفتاح، وهو ولي التوفيق

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين