آق شمس الدين(قدوة لأصحاب العمائم البيضاء) - من روائع التاريخ العثماني
 
 
آق شمس الدين (قدوة لأصحاب العمائم البيضاء)
بقلم: أحمد معاذ الخطيب
 
العمائم نوعان: طاهرة وملوثة، أما الطاهرة فمثل بياض الثلج لا تزداد مع الأيام إلا سناء فهي لأهل الإيمان نصير وللحق راية، وفي وجه الباطل سد وللحائر دليل، وأما الملوثة فلا يزال ران النفاق يكسوها حتى تصبح مثل سواد الليل تقشعر لمرآها قلوب المؤمنين، وتهش لها قلوب الشياطين، ولا يزداد الناس بها إلا ضياعاً وحيرة وأوهاماً، حتى إذا انتهى أهل الباطل منها رموها مثل ثوب عتيق...
وبين النوعين فرق شديد فالعمائم البيضاء جبل عال من الاستقامة والفضائل وغيرة الإيمان ونصيحة الخلق، والملوثة في قعر واد سحيق من الانتهازية وحب الظهور والتصنع أمام الخلق والحمية للنفس ومداهنة الحكام وغش العوام والتلبيس عليهم... مع الذلة لصاحب الدينار... بل حتى صاحب الطعام والمرق والكساء....
     خلق الله للمعالي أناساً              وأناساً لقصعة وثريد.....
وأحياناً تلتبس الأحوال فتدور على لسان الضعيف من أصحاب العمائم عبارات يلوكها حتى تصبح عادة... يتوهم بها الغيرة والحرص حتى لم يعد الإنسان يطيق سماعها.....
ومن العبارات العجيبة عبارة: لا تفجعنا بنفسك يقولها الصغار للأصاغر، وقد كان يقولها الكبار للأكابر... وإذا كانت قد قيلت لأبي بكر رضي الله عنه وهو يتلقى بصدره وحده فتنة تحيط بالأمة... فلا يليق أن تقال لرجل امتنع عن النفاق، وآخر جهر بحق لطيف، وثالث امتنع عن مجاراة الغلط، ورابع نصح بصدق... وخامس دعاه رهط من أصحاب المسؤولية... معززاً مكرماً فلم يوصه أصحابه بالصدق بل بالمداهنة والذلة... وأردفوا: لا تفجعنا بنفسك!!
أرجوك أيها العالم يا من تحب أن تلحق بالعمائم البيضاء الطهور: افجعنا بنفسك وأعل الحق ولا تكتمه... ودعنا نسير في جنازتك شهيد كلمة وصاحباً لحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طريق السادة العظام.
أما العبارة الثانية فهي عبارة أعجب، وذلك أن البعض يكذب على الله والناس... ويضعضع في نفوس العامة بكلامه ونفاقه عمل ألوف من أهل الحق مما بذلوه في نحت القلوب القاسية.
وبعدها إذا ذكر قائم للحق أمامه: قال: كنت عند فلان من المسؤولين... وقد خذلت عن فلان.... يا مسكين، ومن أخبرك أن أهل الحق يريدون تخذيلك عنهم، وما مرادهم سوى أن يصل الحق كما هو وبالحكمة والموعظة الحسنة ولكن دون نقص ولا تشويه ولا بهتان..
بالله عليك يا مدعي التخذيل خذل الباطل عن الحق وخذل عن نفسك صولات الشيطان، واجهر بالحق مرة... وإلا استحالت عمامتك من اللون الأبيض حتى تصبح سوداء كالفحم الأصيل تتدرج على الطرق الرمادي.
ولكل أصحاب العمائم هذه التذكرة تثبيتاً لأصحاب البيضاء منها، وهزاً لقلوب السائرين في الطرق الملتوية لعلهم يرجعون.
كان المربي الشيخ آق شمس الدين هو الباني الأول لقلب وعقل السلطان محمد الفاتح، والذي لم يكن تجاوز العاشرة عندما كان أستاذه يمسك بيده ويمشيان معاً على شاطئ البحر المحيط بأسوار القسطنطينية الحصينة، ثم يقول له الأستاذ: أترى هذه الأسوار الشاهقة والمدينة العظيمة؟ إنها القسطنطينية، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً من أمته سيفتحها بجيشه ويضمها إلى أمة التوحيد: ( لَتَفْتَحْنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش).
       كان آق شمس الدين زراعاً للخير، بصيراً بمكامن النفوس وكان يتوجه إلى الله أن لا يضيع له جهداً في تربية الأمير الصغير محمد (والذي صار بعد سنوات: السلطان محمد الفاتح ).
السلطان مراد الثاني كان هو والد الأمير محمد، وكان يصطحبه معه إلى بعض المعارك، ليبني في نفسه روح المجاهد ونفسية القائد، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عملياً، حتى إذا ما ولي السلطنة وخاض غمار المعارك كان له القِدْح المُعَلَّى فيها.... ولما  جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد الفاتح في مفاوضة الإمبراطور قسطنطين ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة قال رحمه الله: (حسناً، عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر).
 وحاصر السلطان القسطنطينية واحداً وخمسين يوماً، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله، على يد بطل شاب له من العمر ثلاث وعشرون سنة.
أثناء  فتح القسطنطينية أراد السلطان أن يكونشيخه جانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه، لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليهأحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول، وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسهإلى خيمة الشيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السلطان نفسه!من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ! فأخذ محمد الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر إلى الداخل فإذا بشيخهآق شمس الدين ساجدٌ لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى علىالأرض، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدتهوالدموع تنحدر على خديه، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بإنزال النصر ويسأله التمكنو الفتح القريب.
عاد السلطان محمد (الفاتح) عقب ذلك إلى مقر قيادتهونظر إلى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين قد أحدثوا ثغرات بالسور تدفقمنها الجنود إلى القسطنطينية، ففرح السلطان بذلك وقال: ليس فرحي لفتح المدينة إنمافرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني.
وذكر الإمام الشوكاني صاحب البدر الطالعما يلي مما حصل بعد يوم واحد من الفتح: (جاء السلطان إلى خيمة ( آق شمس الدين) وهو مضطجع فلميقم له، فقبل السلطان يده وقال له: جئتك لحاجة، قال: وما هي ؟ قال: أن أدخلالخلوة عندك، فأبى، فأبرم عليه السلطان مراراً وهو يقول: لا. فغضب السلطان وقال: إنه يأتي إليك واحد من الأتراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى علي، فقالالشيخ: إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورهافيمقت الله علينا ذلك، والغرض من الخلوة تحصيل العدالة، فعليك أن تفعل كذا وكذا، وذكر له شيئاً من النصائح - ثم أرسل السلطان إليه ألف دينار فلم يقبل، ولما خرج السلطانمحمد الفاتح من عند الشيخ قال لبعض من معه: ما قام الشيخ لي. فقال له: لعله شاهد فيك من الزهو بسببهذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام، فأراد بذلك أن يدفع عنك بعضالزهو.
لم يحتل أحد في قلب محمد الفاتح مكانة مثلما احتلها أستاذه آق شمس الدين، وكان ينظر إليه بأعظممشاعر الحب، والإجلال، والتوقير، ويزوره على الدوام، حيث يستمع لأحاديثهونصائحه، ويستفيد من علمه الغزير.
أما آق شمس الدين فكان مهيباً لا يخشي سوىالله، لذا فإنه عند قدوم السلطان (محمد الفاتح) لزيارته، لا يقوم له من مجلسه،ولا يقف له. أما عند زيارته للسلطان (محمد الفاتح) فقد كان السلطان يقوم له منمجلسه توقيراً له، واحتراماً ويجلسه بجانبه.
وقد لاحظ ذلك وزار السلطانوحاشيته، لذا لم يملك الصدر الأعظم (محمود باشا) من أن يبدي دهشته للسلطان فقال له:لا أدري يا سلطاني العظيم، لم تقوم للشيخ (آق شمس الدين ) عند زيارته لك، من دونسائر العلماء والشيوخ، في الوقت الذي لا يقوم لك تعظيماً عند زيارتك له؟!. فأجابه السلطان: أنا أيضاً لا أدري السبب … ولكني عندما أراه مقبلاًعلي، لا أملك نفسي من القيام له … أما سائر العلماء والشيوخ، فإني أراهم يرتجفونمن حضوري، وتتلعثم ألسنتهم عندما يتحدثون معي، في الوقت الذي أجد نفسي أتلعثم عندمحادثتي الشيخ آق شمس الدين.
رسالة إلى أصحاب العمائم إذا وقفوا بين أيدي السلاطين، فما بالك عندما يقفون بين يدي العبيد.  
 كتبه أفقر العباد: احمد معاذ الخطيب الحسني
موقع: دربنا  www.darbuna.net
 المصادر: [بتصرف]:
1- روائع من التاريخ العثماني، لأورخان محمد علي، ص 47،والدولة العثمانية لعلي الصلابي، ص185 نقلاً عن موقع التاريخ:
2- هل فات الأوان لتبدأ من جديد..  لباسل شيخو.
3- السلطان محمد الفاتح، د.فهمي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين