محمد راغب الطباخ


محمد راغب الطباخ

قدماء ومعاصرون للدكتور سامي الدهان
حال العلم والعلماء في مطلع القرن الرابع عشر الهجري :
"كان العلم إلى زمن قريب يحتضن فروعاً عدة من المعرفة، وكان  العالم فقيهاً في الدين، عالماً بالتفسير، واقفاً على الأدب، محسناً للنظم والنثر، شأن كثير من العلماء في القرون الوسطى، فلم يكن ثمّة وقوف خاص على الأدب دون الدين ولا الدين دون الأدب. وكان الذي يتقن العربية يجب أن يتقن القرآن الكريم وعلومه فعليهما يُبنى صرح المعرفة والتمكن من اللغة. لذلك كان أكثر العلماء والأدباء يحملون العمة وأردية المشايخ وكانوا أكثرية مطلقة في المتعلمين يشار إليهم بالبنان.
ولم يكن في الشام مدارس تنشئ هذا الجيل من الشيخ إلا الجوامع والزوايا والكتب القديمة يقرؤونها ويلخصونها بعقلية معيَّنة لا تتصل غالباً بعقلية القرن العشرين، ومنهم من وهبه الله فطرة سليمة، واندفاعاً وراء العمل فأبدعوا ونقلوا إلينا علم الأولين واختصروا لنا كتبهم الطويلة ذات المجلدات الضخمة، فأفادوا وأكسبونا يداً على أيادي العلماء الأولين، ومن هؤلاء الشيوخ: الأستاذ محمد راغب الطباخ.
حي باب قنسرين وأثره في الطباخ:
ولد الرجل في حلب 1876م ( 1293 )، بحي من أحيائها القديمة هو حي: باب قنسرين، يزخر بشواهد التاريخ العربية، من أبنية عريقة وكتابات تلمع بالأمجاد، وكانت داره تواجه هذه الأبنية وتعيش بينها، فكأنه كان يصبح على رؤية التاريخ الماجد ويُمسي على هذا التاريخ، وكأنَّ عينيه منذ تفتَّحتا على النور ذهلتا لهذه الضخامة في صفحاتها، وحاولتا أن تفهما أسرارها وأن تقرأ سطورها، ولكن هذه الصفحات كانت دفينة مطوية لا تدركها عيون كعينيه وقلب فتيّ كقلبه.
نشأته وشيوخه الذين أثروا فيه :
فلما أنهى الشهادة الابتدائية سنة 1888 للميلاد، انصرف إلى دكان أبيه، وهو في الثانية عشرة من عمره، وأبوه كان يعيش مثل أجداده على أمرين هما: التجارة والعلم، يعمل نهاره للبيع والشراء، وينصرف ليله إلى هذه الكتب الصفراء القديمة ،فانصرف الفتى إليها فوجد فيها عسراً كل العسر، ورموزاً لا يفقهها، لذلك راح يلمّ بحلقات الشيوخ في حلب وكانت عامرة برجالات العصر وشيوخ الزمان، فأخذ عنهم وطبع قلبه بطابعهم، وكان أهمهم أربعة هم:الشيخ محمد كلزية، والشيخ محمد رضا الزعيم الدمشقي، والشيخ محمد الزرقا، والشيخ بشير الغزّي. وكان لهؤلاء الشيوخ أثر كبير في نفسه، فقد كانوا أعلام البلد وقادة الفكر الديني فيه، فأما الشيخ محمد كلزية فقد كان بارعاً في النحو واقفاً على أصوله متبحراً في قواعده، فأخذ عنه الطباخ فيما بعد طريقته وعلق بها، وأما الشيخ الزعيم فقد كان على جرأة نادرة وعكوف على تدريس الدين وحب للإصلاح جعله موضع الإكبار، فأفاد منه الشاب وظل يذكره حتى كانت له بشأنه حوادث اتصل فيها بحاكم سورية فيما بعد((
[1])). وأما الشيخ الزرقا فكان ثقة ومرجعاً في المذهب الحنفي، وكان بحراً واسع المعرفة في فروعه وأصوله، طبع الرجل بطابعه، فألّف فيما بعد كتباً واضحة ميسَّرة في الفقه، والشيخ الغزي وحده كان يلمُّ بالشعر وشواهده والأدب وكتبه.
وكان الطباخ ـ رحمه الله تعالى ـ خلاصة هؤلاء الأربعة فيما بعد، كما يستطيع شاب مجتهد أن يكون خلفاً لأساتيذه، وهو يجري في ميدانين لا صلة بينهما هما التجارة والعلم.
جمعه بين التجارة والعلم :
فالمدينة تحوي خزائن خطيَّة لا عداد لها، وهي غنية بالكتب القديمة المكتوبة بأقلام أصحابها، تعد من النوادر في العالم العربي، وقفها أصحابها في جوامع ومدارس لاذَ بها الشاب وعكف عليها خلال فراغه، والمدينة تجاريَّة صِرْفة تعيش على نشاط واسع آنذاك في البيع والشراء، فأخذ الطباخ من هذا وهذا ،فكان في التجارة موضع الأمانة والثقة والتقدير، وانتخب مرات عضواً في الغرفة التجارية لأمانته ودربته، وكان في المراجعة والدراسة والقراءة والتعلم على مثل عال في التجارة، فانتخب عضواً في مجلس المعارف سنة 1910 وسنُّه لا تتجاوز الرابعة والعشرين.
ومن العجيب أن يظلَّ فؤاد الرجل عالقاً بأمرين اثنين معاً، فلا يستطيع أن ينصرف إلى هوى ضلوعه في المعرفة والثقافة فحسب، لأن الحكومة لم تكن تحتضن هؤلاء الدارسين ولم تكن ترعاهم، وكان من الواجب أن يعيش العالم على رزق، وأن يتَّخذ له مورداً، وقد أحسَّ الشاب بهذا، وملَّ التجارة والبيع، فانصرف آخر الأمر إلى التدريس وعاف الدكان، وأصبح يعيش نهاره وليله للعلم والتعليم.
في مدرسة "شمس المعارف" الفاروقية :
وعيّن مدرساً للعربية والإنشاء والدين في مدرسة "شمس المعارف" سنة 1918، وهو في الثانية والثلاثين من عمره، وظلَّ في التعليم قرابة أربع عشرة سنة بهذه المدرسة، وقد انقلب اسمها فيما بعد إلى "المدرسة الفاروقية"  نسبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت المدرسة الأهلية الأولى في ثقافة العربية والعمل للقومية، ونشدان المعارف والعلوم العصرية، تقوم بنشاط واسع في هذه المدينة، فتحيي مفاخر الحمدانيين بالشعر والنثر، على خطابة وتمثيليات ومجلة سائرة، وحفلات زاهرة، فتخرّج بها أعلام الحلبيين ممَّن أصبح إليهم أمر الحكم والثقافة والقضاء والوجاهة وسائر فروع المعرفة.
وفي هذه المدرسة عرفنا الرجل صغاراً، وكان على نشاط كبير، يلقن العربية والتاريخ الإسلامي والدين، على أسلوب حسن يختلف عن غيره من الشيوخ، فقد كان الرجل يعشق العربية شعرها ونثرها، ويهيم بتاريخ سورية، هياماً كبيراً، وكان يتعلق أبداً بالكتب المخطوطة والدواوين المطوية، والآثار اللغوية، فيهيب بنا إلى إخراجها وتحقيقها، والرجوع إليها، فقد طغت آنئذ فكرة الترجمة على كل ما ندرس حتى خلنا أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن تستخرج من الفرنسية. وقاوم الرجل في سبيل ذلك خصومه، وصمد لأعدائه وحسَّاده فقد كان يسير على أثر المصلحين في إحياء التراث والدعوة للوحدة، وإيثار العرب، والتعلق بحضارتهم.
وكان الشيخ مشرق الوجه أبداً ،أبيض البشرة، تحمرّ وجنتاه خجلاً وتواضعاً إذا سمع مديحاً أو ثناءً، يتردّد في لفظه، ويتأنى في تعبيره، ويمتلك مادّته، وهو لم يتمَّ دراسته الثانوية ولم يدخل الجامعة ،ولكنه كان يأخذ بأساليب السلف في التعلم والتعليم.
مطبعته العلمية وآثارها :
وكنا نتّصل به خارج المدرسة، ونعقد حوله جلسات العلم، فقد أبى أن يكون نظرياً في حياته، وإنما أنشأ مطبعة يصدر فيها آثار السلف وكتب التاريخ والأدب سماها" المطبعة العلمية"، وذلك سنة 1922، وفي هذه المطبعة كنَّا ندخل عليه وهو مكبٌّ على مخطوطة قديمة يعالج خطوطها، ويعلِّق على سطورها، ويسلمها إلى المطبعة لتصدر عن هذه المدينة التي ما كانت تعرف ناشراً ولا محققاً ولا ساعياً في إحياء التراث القديم، فكان لذلك كله غريباً في بلده، نادراً في قومه، يشبه هؤلاء الأعلام الذين كانوا يعيشون في مصر مثل عيشه، ويعكفون على المخطوطات نهارهم وليلهم أمثال أحمد تيمور، وأحمد زكي، ومحب الدين الخطيب.
وفي هذه المطبعة أخرج الشيخ راغب الطباخ عدداً من الكتب القديمة، وصلت إليها يده في الفقه والتاريخ والأدب، ما كانت لتخرج لولاه، فقد خلا الميدان قبله وخلا الميدانُ بعده، وكان هو وحده يكتب ويحبِّر ويُعلّق ويُصحِّح المطبوع؛ ويرسله إلى العلماء والمستشرقين، فكان جماعة في رجل، وكان رجلاً يعمل عمل الجماعة.
 أصدر «المصباح» على «مقدمة ابن الصلاح»، و«معالم السنن» للخطابي، و «الدلائل والاعتبار» المنسوب للجاحظ،. «فضل الخيل» للدمياطي، و «دمية القصر» للباخرزي، وغيرها من كتب لا يتَّسع لها هذا المكان جاوزت العشرين في عددها، ونشر «الروضيَّات» للصنوبري، وعُني بأبي فراس الحمداني، كما عُني بغيره ،ولكن التدريس كان يسدُّ عليه أكثر وقته ويصرفه عن هذه الذخائر، كما يصرفه عن أهم عمل قام به وهو تأريخه لمدينة حلب.
عنايته بتاريخ حلب :
وذلك أن الأستاذ الطباخ كان متعلقاً بتاريخ البلد، حريصاً على معرفة آثارها وصفحاتها، متأثراً بالبيئة والوسط، يصبح على بناء شامخ ويمسي على مسجد عظيم- كما قلنا في نشأته- فالحيّ الذي يعيش فيه تلفُّه شواهدُ التاريخ، وتنيره هذه القلعة التاريخية الضخمة التي سخرت بالقرون ،وظلت شامخةً على الزمان، فانصرف إلى جمع الآثار المخطوطة والمطبوعة، وأحصى هذه المصادر التي تتحدَّث عن تراجم الحلبيين، وتلمّ بتاريخ المدينة، فجمعها على سنين، وأصدرها في سبعة أجزاء كبيرة تحوي كل ما تفرّق في المخطوطات والمطبوعات من تراجم الرجال، رتَّبها الرجل على السنين كما يفعل القدماء، وذكر مصادره كلّها بين يدي كتابه، فخرج أوسع ما ظهر في المطبعة عن هذا البلد وأصبح مرجعاً ثميناً من مراجع التاريخ.
موازنة بين الطباخ وكردعلي في تاريخ حلب وخطط الشام :
ولعلنا نجد شبهاً كبيراً بين فكرة تأليفه عن حلب وفكرة "محمد كرد علي"، في تأليفه "خطط الشام" عن دمشق والشام كلها، ولكنَّ الرجلين يختلفان مشرباً وثقافة ،ويختلفان منصباً وعيشاً، فقد أتيح للرئيس "كرد علي" أن يرحل وأن يطوّف وراء المصادر والمخطوطات، فرحل إلى أوربة عدة مرات ووقع على خزائن المستشرقين وفيها صور المخطوطات وجملة المطبوعات في اللغات العربية والغربية، وكان الرجل وزيراً مرتين، ورئيساً للمجمع العلمي بدمشق أبداً، فلقي من العون واليسر ما لم يستطع أن يلقى هذا الشيخ.
 وقد رحل الطباخ مرة واحدة إلى الحجاز مع والده وعمِّه للحج وسنُّه أربع عشرة سنة، ومات عنه أبوه وهو في الخامسة عشرة، فكان عليه أن يقوم بأمر الأسرة، وأن يُعيل من حوله، وأن يعمل للعيش في محيط مادي تجاري، فلم يتعرف إلى لغة أجنبية، ولم يسافر إلى بلد غربي، وكان طوال عمره يتحسَّر على ذلك، وكان يشكو لي كلما اجتمعنا حاجته إلى المخطوطات، ورغبته في التطلع إلى الخزائن الغربية، فلما طبعتُ "ابن العديم " غبطني أشدَّ الغِبطة في الحصول على نسخته.
 وكم كان يتمنى أن يقع على" بغية الطلب "لابن العديم، وهو كبير يترجم لآلاف الحلبيين، في أجزاء كثيرة لم يصل إليه منها إلا واحد فرح به وأخذ عنه، ولو وصل كله لتضاعف حجم كتابه، وسد فيه ثلمة، ولكنه قضى دون هذه الأمنية الغالية، فالموازنة بينه وبين محمد كرد علي قريبة في العلم للتاريخ فحسب، ولكنها بعيدة في طريقة العمل وفي الوسائل والسُّبل.
موازنة بين الطباخ وكامل الغزي في تاريخيهما عن حلب:
والشبه الكبير الذي نستطيع أن نعقده هو بينه وبين زميله ومعاصره الشيخ كامل الغزي، فقد فكرا معاً في تأليف كتاب عن حلب، فجعل الطباخ عنوان كتابه:" إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء"، وجعل الغزي عنوان كتابه" نهر الذهب في تاريخ مملكة حلب"، وسار الرجلان في التأليف والجمع والتَّنقيب، وكل منهما يعرف أن زميله ماض في ذلك، وكلّ منهما كان يرحِّب بكتاب زميله ويشوّق له، ويعلن ذلك لقرائه، فما وقع بينهما ما يقع عادة بين المتعاصرين من حرفة واحدة وعمل واحد وتأليف واحد، وكان الطباخ يعترف أنه مضى إلى زميله يسأله عما هو بسبيله في تأليف الكتاب، فيريه زميله ما سطَّر، ويبيح له نقل ما كان يريد منه ،ويعلن الطباخ أنه نقل كذا وكذا، فما يجد غضاضة وما يجد عسراً في هذا التصريح فما يحطّ من قدر العالم إذا أخذ وذكر، وما يشين من عمله إذا أفاد وصرَّح، وكذلك كان هذان المؤرخان يتم كل منهما بكتابه ما نقص الآخر، ويعملان معاً في خدمة التاريخ لبلدهما.
وقد كان كتاب الغزي في ثلاثة أجزاء مبوَّبة، أخذ أكثرها من تنقيبه ومن إحصاءات الدوائر، وأفواه العلماء، فكان الكتاب لامعاً حقاً وذكياً حقاً فيه عمل شخصي وابتكار ظاهر، فقد أفاد الشيخ الغزي من صحبة الأجانب في حلب ونفعه اتصاله بدمشق وغير دمشق، فعاد ذلك على كتابه بخير وفير، وفضَّله كثير من المستشرقين على كتاب زميله.
على أن كتاب الطباخ جامع شامل، عمل فيه صاحبه كما عمل القدماء، فجمع كل ما وقع له من غير تخيُّر أو حذف أو انتقاء، وكان مصدراً يجمع المصادر، ليس لصاحبه فيه كبير رأي ظاهر كما يرى كثير من النقَّاد، ولكن ذلك لا يَضير الكتاب ولا يحطّ منه، فتلك طريقة جرى عليها غيره، وتبعها وعمل فيها كما استطاع بجهد كبير، لا تدعمه دولة ولا تعينه جمعية، وإنما ينفق من جيبه، جزءاً بعد جزء، فاستغرقت طباعته ثلاث سنوات ( 1923ـ1926) ،واضطر مع ذلك إلى أن يبيع هذه الأجزاء خلال الحرب الثانية وضائقتها بالمكيال، لأن المثقفين الذين يشترون الكتاب فقراء وغيرهم تلهيهم تجارة الحرب فالتهمه الباعة يجعلون ورقه مع كل بضاعة وسلعة، حتى ضاعت نسخ هذا الكتاب، وضاع معه جهد العالم الذي سكب نور عينيه في سبيله وأذاب شبابه وحياته في تصحيحه والعناية به.
جهود الطباخ الأدبية :
ولعلَّنا أطلنا الوقوف عند تاريخ الشهباء لطول الكتاب وضخامته، فقد أنفق فيه الرجل اثنتين وعشرين سنة، ولكن مسعى الطباخ لم يقف عنده، وإنما جمع أشعار الحمدانيين وغير الحمدانيين، وتسقّط مئات المصادر المخطوطة والمطبوعة، فطبع ما عرف من شعر "الصنوبري" ونشر دواوين عدة للحلبيين الذين عاشوا خلال القرن الحادي عشر للهجرة، وقد ذكرنا أنه حقَّق "دمية القصر" للباخرزي وغيره من كتب الأدب، فلم يقف جهده على التاريخ، وإنما صرفه في سبيل الأدب كذلك، وألف كتباً في الدين وفي الإعراب انتفع بها جيل كامل كان منقطعاً عن كثير من المصادر الأصلية.
توفيقه بين العلوم الكونية الحديثة وعلوم الدين :
وكان أكثر ما يشغل الرجل سعيه في سبيل التوفيق بين العلوم الكونية الحديثة وعلوم الدين، فنظر في السير وفي التاريخ، وحاول أن ينفع طلابه في المدارس العلميَّة الدينيَّة، فانتصر انتصاراً كبيراً حين أدخل الدروس الجديدة في هذه المدارس . فقد عُيِّن الشيخ الطباخ سنة 1921 مدرساً في" المدرسة الخسروية " وهي لتدريس الشرع الإسلامي، علم فيها العربية والتاريخ الإسلامي والفقه، وظلّ يعمل لخيرها ويرقى بها صعُداً في منافسة مدارس الحكومة حتى وفِّق إلى ذلك توفيقاً كبيراً، وغدا مديراً لها سنة 1937، وهي أكبر مدرسة شرعية في حلب. وقد كلفه ذلك عداوة الحساد والمبغضين "الذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس"، فقاموا لحربه وتصدوا لأعماله؛ لأن ذلك يكشف عن أعمالهم، ويجهِّز للبلد علماء صالحين يفقهون ما يصنعون.
مساعيه في جمع المخطوطات :
وأما مساعي الطباخ في سبيل جمع المخطوطات والحرص عليها، والسهر على ما في الجوامع منها والتكايا، وإحصاء ذلك كل حين، فهي مساع تفوق حدَّ الوصف، وتستحق من جيلنا الشكر والإكبار والاعتراف بالجميل، تشبه إلى حد كبير ما صنعه الشيخ طاهر الجزائري في سبيل دمشق، وقد رأى الرجل قبل أن يموت كيف جمعتها الحكومة في مكان واحد ووكلت بها أميناً، فأصبحت في منجاة من السرقة وأيدي السوء، وبذلك تحقَّق أمل كبير من آماله وقضى قرير العين.
انتخابه عضواً مراسلاً للمجمع العلمي العربي وصلات المستشرقين به :
ولعل هذه المساعي جميعاً هي التي دفعت "المجمع العلي العربي " بدمشق إلى انتخابه عضواً مراسلاً له، يحرّر فيه ويكتب وينقد، فيقع في ذلك كله موضع الإكبار والتقدير، وهي التي دفعت كذلك كبار المستشرقين إلى الكتابة إليه، وسؤاله والاتِّصال بما يعرف عن مصادر التاريخ والفقه والأدب، فقد كان مع "الغزي " في حلب حُجَّة في هذا،  وما يكاد غيره يهتمُّ بالتراث القديم أو ذخائره، فهو محجَّة الزوَّار من العلماء، ومقصد المستشرقين الوافدين، وكعبة الطلاب النابهين الذين يريدون أن يسلكوا سبيله في التحقيق والتدقيق والنشر.
طلابه المنتفعون به :
وقد تخرج على يديه عدد منهم، وطبعت برعايته كتب على أيديهم، وانتفع به شباب كثير، وتغيَّرت نظرة طلاب الشريعة تغيُّراً كاملاً إلى العلم والأدب، فراحوا يشاركون في أبواب المعرفة الدنيويَّة، وفي علوم الجامعة، فدخلوها وخرجوا منها على أرفع الدرجات وأسمى الشهادات، وهم جميعاً يشهدون له بالتَّشجيع والثناء والعون.
تآليفه الحديثة :
وقد خطَّ الأستاذ الطباخ سبيل التأليف الحديث أمام طلابه بالخسرويَّة فأصدر كتاباً في" الثقافة الإسلامية " ، وآخر عن إسكندر ذي القرنين ، وثالثاً في تبسيط المعرفة الإسلامية ، فكان له في كل فنّ تأليف، وفي كل تأليف تجويد وإحسان.
جهوده الاجتماعية والوطنية :
وكان الطباخ على اشتغاله في العلم والتحقيق والتدقيق والطباعة والتدريس يعمل لخير بلاده في النواحي الاجتماعية والوطنية، فكان يحاضر في الجمعيات ويرقى المنابر، ويكتب في الصحف، ويترجم للأعلام، ويتحدّث عن الأحياء والمساكن والآثار، وقد ترأس "جمعية البر والأخلاق الإسلامية" وكانت غايتها الإصلاح الاجتماعي والدعوة الدينية والإرشاد القومي ومناهضة الاستعمار وجمع العرب، فلقي في سبيلها عنتاً كبيراً ،وعمل في مطبعته على طبع المنشورات القومية التي وقفت للانتداب المشئوم إبّان الضيق والإرهاب، فجاهد مع الزعماء الوطنيين في خدمة الاستقلال، ووقف له الزبانية بالمرصاد، فهجموا على مطبعته، واستلبوا ابنه منها وهو في الخامسة والثلاثين فقضى بين أيديهم على وسائل الإرهاب والتعذيب، واحتسبه عند الله عز وجل في سبيل الوطن.
وما لانت له شكيمة ولا وهنت له عزيمة، وظلّ يناضل بقلمه ولسانه ومطبعته حتى تعب جسمه، وكلَّت يداه، وضعف بصره، وأدركه المرض والشيخوخة، ففاضت روحه الذكيَّة سنة 1951 م، بحلب على خمس وسبعين سنة، قضاها في خدمة بلده وأمته على خير ما يصنع العلماء الأحرار والمؤرخون المخلصون، ورجال الدعوة والإصلاح رحمه الله تعالى "


([1]) كان ابنه قد تسلَّم الحكم إثر انقلاب عسكري، وصدر كتاب عن عهده عنوانه" من ذكريات حكومة الزعيم حسني الزعيم " للأستاذ فتح الله الصقَّال- دار المعارف بمصر ( الدهان ).