الشيخ طاهر خير الله
 
 
 
 
تمر الأعوام، ويبقى لكثير من الشخصيات التي رآها الإنسان في حياته حضور في ذاكرته لا تمحوها الأيام.
 
 
الشيخ طاهر خير الله
 
 
سمعت عنه من بعض الأصدقاء في مدينة حلب في الستينيات من القرن المنصرم، ولكن حينما رأيته كان أجل وأفخم مما تصورته، فقد كان جميل الطلعة، طويل القامة، أنيق الملبس، ممتلئ الجسم، إذا رآه الإنسان أحبه، وأحس أنه قريب منه! له ابتسامة ترتسم على شفتيه فتزيده جمالا ومهابة. وقد سعدت به وأنا طالب في جامعة حلب مع جمع من إخواني، كنا نتسابق لحضور صلاة العشاء والتراويح معه في جامع الحريري بطلعة سيف الدولة، أما حضورنا للصلاة معه فقد كان يحتاج إلى همه، إذ كنا نسكن في باب النصر، وكان علينا بعد الإفطار وصلاة المغرب أن نستقل الحافلة إلى موقف الحافلات، ثم نستقل حافلة أخرى إلى حي الأنصاري، ولطالما أحسسنا بنشوة روحية راقية ونحن نجد أنفسنا في صفوف المصلين، وقد وصلنا مع الإقامة؟!
 
كان القادمون من أمثالنا قد قدموا من أحياء متعددة، يعلمون أن الشيخ يؤدي صلاة التروايح مع الدعاء في الوتر، في ساعة أو تزيد! ولم يكن ذلك مألوفا عند الكثيرين. إذا وقف الشيخ للصلاة لم يكن مجرد إمام تؤدي خلفه ركعات وتمضي، ولكنه وهو يجذبك بترتيله الجميل وصوته البديع، واطمئنانه في الركوع والسجود يشدك بكل مشاعرك وأحساسيك.
 
أما الدعاء فإنه لبلاغته، واختيار صيغه، وصدق التوجه الذي تحسه، وأنت تؤمن عليه، فقد كان يستدر الدموع، فتتركز الخواطر كلها في عظمة الخالق، وقرب رحمته من عباده المخبتين، ولكم كان لتلك الصلاة من أثر في نفوسنا!
 
كما كان الشيخ - رحمه الله - يخطب الجمعة في جامع عمر بن عبد العزيز القريب من الحديقة العامة، وما أجملها من خطب! وما أقربها من الواقع، وهي تعالج مشكلاته دون مواربة أو التفاف؟! وقد كان - رحمه الله - كالأسد الهصور يهدر بصوته الجهوري وكأنه منذر جيش؟!
 
وأذكر مما أذكر من عباراته، وقد مضى عليها أربعون سنة أو يزيد، حين أقر مجلس الشعب قسما لرئيس الدولة، يقسم فيه بشرفه ومعتقده؟!! فانبرى الشيخ - طيب الله ثراه - بعد أن تحدث عن أحكام اليمين في الإسلام، وعن بعض الأقسام التي تجري على ألسنة الناس، وهي باطلة غير مشروعة، وقد اشتد غضبه، وعلا صوته مرددا: وهناك من يقسم بشرفه ومعتقده، وما يدرينا أنه لا شرف له ولا معتقد؟!
 
وقد كان عدد من إخواننا وزملائنا في الجامعة لا يتأثرون بخطبه فحسب، بل كان أحد هؤلاء وهو الأخ (فاروق محمد علي الغباري) رحمه الله، يحفظ موضوعاته، ويتمثل موقفه على المنبر، ويحاكي نبرته، حتى كأنه الشيخ نفسه؟!!
 
كان الشيخ - في حد علمي - غير منتم لأية جامعة إسلامية ولكن أصابه ما أصاب كثيرا من الدعاة، إن لم يكن أشد؟! فقد سجن مع مجموعة كبيرة من الدعاة والمثقفين على إثر المقال الوقح الذي نشر في مجلة جيش الشعب الرسمية وقد تعرض للذات الإلهية بالتنقص وسوء الأدب؟! وقد حكى لنا بعض أساتذتنا ممن كانوا معه في المعتقل أن الشيخ - رحمه الله - كان يداعب بعض السجناء الذين ضاقوا بالسجن، وتوهموا أن مستقبلهم سيضيع إن طال سجنهم؟!ولكن الله من على الجميع بالخروج على إثر العدوان الإسرائيلي في الخامس من حزيران 1967 م.
 
وحين بنى أهل الخير مسجد الروضة في محلة السبيل، كان اختيار الشيخ طاهر ليكون إمامه وخطيبه توفيقا من الله، جعل المسجد يزداد تألقا وحسنا، وأذكر أن شيخنا عبد الباسط أبو النصر - عليه رحمة الله ورضوانه - اصطحبني إلى دعوة تضم كثيرا من العلماء والفضلاء لإلقاء قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، التفت بعدها الشيخ موجها كلامه إلى الخيرين الذين سعوا في بناء المسجد قائلا: لقد أصبتم في الاختيار، فالشيخ طاهر يليق بهذا المسجد، والمسجد يليق بالشيخ طاهر!
 
استمر الشيخ - رحمه الله - سنوات في مسجده ترتاده نخبة من أهل العلم والفضل والشباب الجامعي، فقد كانت خطب الشيخ متميزة، ودروسه متفردة!
 
ومع تسارع الأحداث في عام 1979 - 1980 م، اعتقل الشيخ كما اعتقل غيره من العلماء، وأدخل سجن المخابرات، وقد حدثني أحد معارفه أنهم وضعوه في زنزانة ترشح بالماء، وتضيق بحجمه، وكان مما أهمه أنه لا يدري هل الماء الذي ينزل طاهر أم نجس؟!
 
ثم أخرج كغير من البلاد بعد تضييق وإيذاء، وقد لقيته في المدينة المنورة، إذ عاش سنوات مدرسا في الجامعة الإسلامية، وشاء الله أن يضم ثرى طيبة الطيبة جسد الشيخ وقد أنهكه المرض، وبلغت به الشيخوخة، وقد نقل لي أحد إخواننا عن مرافق له في المستشفى أن الشيخ أحس بدنو الأجل فطلب أن يجدد وضوءه ويبدل ثيابه!
 
وتوفي الشيخ وقد وجد في البقيع بالمدينة النبوية مثواه الأخير بعد أن ضاقت عليه الشام بما رحبت، رحمك الله أبا عبد المنعم، وأشهد أن المئات من أمثالنا قد انتفعوا بك، وأنك بخطبك وتوجيهاتك قد جنبتنا كثيرا من المزالق - وما أكثرها في ذلك الوقت - والصحوة المباركة كانت في بداياتها تزداد إشراقا مع كل صباح.
نشرت 2013 وأعيد تنسيقها ونشرها 14/12/2019