الشيخ محمد رجب ‏النعيمي

المعلومات الشخصية

الاسم: محمد رجب حميدو.

الكنية: أبو ياسر.

مواليد: 3 / 4 / 1941م– أو 1945م قرية منغ / منطقة عزاز/ محافظة حلب/  سوريا.

 وتاريخ الميلاد الأخير هو الصواب، لموافقته للسن القانوني عند دخوله مدرسة القرية في المرحلة الابتدائية سنة 1951م.

الحالة الاجتماعية: متزوج، وله أربعة أبناء وابنتان.

 

بين الترجمة والسيرة الذاتية:

الترجمة: هي سيرة الرجل يكتبها أحد عنه، يذكر فيها مولده ونشأته وآثاره العلمية والدعوية ومناقبه ومواقفه البارزة وآراءه في الحياة ورحلاته في طلب العلم، ومن أخذ العلم عنهم ، ومن أخذ عنه العلم .. وقد أُلِّفَتْ كتبٌ كثيرة في تراجم الرجال منها: وفيات الأعيان لابن خلكان، والوافي بالوفيات للصفدي، وسير أعلام النبلاء للذهبي .. ومنها كتاب الإصابة والاستيعاب وأسد الغابة وهذه الثلاثة عنيت بتراجم الصحابة الكرام خاصة ..

وأما السيرة الذاتية:

فهي ترجمة يكتبها الرجل لنفسه .. وهذا النوع من التراجم يعتبر فضيلة بين رذيلتين، فالعالم هنا مخير بين رذيلتين، بين ضياع علمه بالسكوت عن التعريف بنفسه، وبين وقوعه في تزكية النفس .. وضياع العلم بعدم الترجمة مفسدة مؤكدة ، وتزكية النفس إن لم تؤد إلى الإعجاب والغرور لا بأس بها ، قال يوسف عليه السلام " اجعلني عل خزائن الأرض إني حفيظ عليم " وقال صلى الله عليه وسلم " أنا سيد ولد آدم ولا فخر "

ولهذا عمد كثير من الأئمة إلى كتابة تراجمهم بأنفسهم دون تأثم ولا حرج، وحسبنا أن يكون منهم: أبو عمرو الداني 444هـ، وأبو حامد الغزالي 505 هـ  الذي ترجم لنفسه في كتاب سماه المنقذ من الضلال، وأبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي 597 هـ، والمؤرخ أبو شامة المقدسي 665 هـ ، والحافظ الذهبي 748 هـ، وابن خلدون 808هـ  في كتابه العبر، وابن حجر العسقلاني 852 هـ، والسخاوي 902هـ  في الضوء اللامع،  والسيوطي 911هـ في حسن المحاضرة ..

ولما ألجأتني ظروفي إلى مغادرة قريتي طفلا لأعيش في حلب أثناء الطلب، ثم اضطررت بعدها إلى السكنى في بانياس لأعمل فيها إماما وخطيبا ، ثم غادرتها إلى اللاذقية لأعمل فيها إماما ومدرسا وخطيبا في الأوقاف، ثم مدرسا داخل الملاك في التربية والتعليم ، ثم مدرسا في الفتوى، ثم مفتيا لأسابيع قليلة .. ثم كان السفر إلى السعودية لأعمل مدرسا في وزارة المعارف ، ومديرا في مدارس الأوس ..

إنها رحلة أخذت من عمري خمسين سنة ، ما بين 1966 إلى 2017، وهي فترة كفيلة بأن يعذر معها أكثر من يسمع بي من أهل قريتي ولا يعرفني .. 

ثم إن الظرف العام الذي صاحب وجودي في اللاذقية ؛ ما كان يسمح لي بتكوين جماعة من الشباب تلتف من حولي، فكنت ألقي خطبتي أو درسي وأمضي إلى بيتي ، فلا أزور ولا أزار، وبقيت على هذه الحال من العزلة أكثر من 14عاما،  كنت معروفا في اللاذقية  ، فقل من إلا يعرفني، ولكن في المقابل قل من أعرف منهم، وهكذا الغريب يُعرَفُ أكثر مما يَعرِفُ. 

هذا وقد طلب إليَّ الأخُ الشيخ خالد محمد عبدالله منذ سنة تقريبا أن أكتب له ترجمتي، لينشرها في كتاب له عن بلدة منغ، وقد ترجم لطلبة العلم فيه إلا كاتب هذه الأسطر.. فاعتذرت له، ورجوته أن لا يكتب عني شيئا.. 

ثم عاود الطلب مرة ومرة ، إلى أن شرح الله صدري لتلبية طلبه ، والنزول عند رغبته، فكتبت ما كتبت بضمير المتكلم، لأقدم نفسي لأهل قريتي، الذين هم مني وأنا منهم ..

وفوجئت اليوم أن الشيخ خالد يخبرني برغبته في نشر ترجمتي على صفحات موقع رابطة العلماء، ويسألني إن كنت أرغب في إضافة شيء على ما كتبت.. فكانت هذه الإضافة.. وأرجو أن يعذرني الإخوة العلماء في عرض سيرتي الذاتية على هذا النحو الذي عرضت فيه بالذكر لدقائق الوقائع في حياتي، مع التوثيق بذكر الزمان والمكان لأن المقام كان يستدعي ذلك.  

ذكر الإمام البخاري رحمه الله ما يستأنس به لمشروعية أن يترجم العالم لنفسه. فقال رحمه الله: " قال ربيعة لا ينبغي لمن عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه" انتهى كلامه.

وفسر الحافظ ابن حجر قول ربيعة في الفتح 1/178 فقال : مراد ربيعة أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه ". فلنشرع في المقصود والله المستعان.

 

النسب:

وكما علمتم من المعلومات الشخصية، التي كتبها الشيخ خالد في رأس هذه الترجمة.. فإنني أنتمي إلى "آل حميدو" أبناء حميدو بن أبي رمح أحمد بن محمد علي، أحد شيوخ  ( عشيرة النعيم من ‏( فخد التوبلس)، من أبناء عز الدين أبي حمرة.. ومن الثابت لدى المؤرخين أن لعشيرة ‏النعيم شرف الانتماء إلى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. 

فأنا من جهة الأب : محمد بن رجب بن حميدو بن (أبي رمح) أحمد بن محمد علي بن حج حسين بن حسن الصوفي التوبلس النعيمي.

وأنا من جهة الأم: محمد بن أمون بنت الشيخ علي بن الشيخ محمد بن الشيخ خليل من فخذ الخرفان من عشيرة النعيم. وعلى هذا فصاحب الترجمة يكون له شرف الانتماء إلى آل بيت النبوة من جهة أبويه معا.. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. فالحمد لله.. 

اللهم اجعلني ممن حسن عمله كما حسن نسبه، ولا تجعلني ممن بطأ به عمله فلم يسرع به نسبه. آمين رب العالمين.

النشأة :

ولدتُ – بارك الله فيكم أيها الأحبة - في قرية منغ، ونشأت في ربوعها، ودرست المرحلة الابتدائية في مدرستها حتى أتممت الصف الرابع ونجحت إلى الخامس، وذلك من بداية 1951م إلى نهاية 1954م  ثم انتسبت إلى معهد العلوم الشرعية " الشعبانية " فدرست الصف التحضيري عام 1955م قبل الحصول على الشهادة الابتدائية.. التي حصلت عليها أخيرا من مدرسة القرية سنة 1958م بترتيب من أحد أساتذتي الذين درسوني، تم سحبوه إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، فلما رجع وعلم أني ذهبت لطلب العلم الشرعي بحلب قبل إتمام المرحلة الابتدائية، أصر هذا الأستاذ الطيب على أن يقدم لي بطاقة اختبار ضمن المتقدمين لنيل الشهادة الابتدائية في ذلك العام، وفعلا تقدمت وفزت بالدرجة الأولى على منطقة عزاز وأهدتني يومها إدارة التعليم شهادة تفوق وقلم حبر من ماركة " تروبّن " بريشة ذهبية.. بقي عندي للذكرى إلى ما بعد زواجي .. 

 

الشعبانية:

وهنا لا بد من القول بأن انتسابي للشعبانية كان بسبب حبي لرجلين كانا يدرسان في حلب ، أحدهما الشيخ محمود محمد نور حفظه الله وكان طالبا في الشعبانية.. والثاني الشيخ حسين طه الراغب رحمه الله وكان يدرس في مدرسة الحفاظ.. وكانت تربطني بهما صلة قرابة، وكنت أحبهما وما زلتُ، وقد دعاني حبي لهما، إلى حفظ  متن الأجرومية، ومتن أبي شجاع، والعزم على دخول مسابقة للانتساب لمعهد العلوم الشرعية " الشعبانية "، وفعلا شاركت فيها ونجحت بتفوق ، وتم قبولي في الصف التحضيري في الشعبانية ، وأعطيت راتبا وغرفة في المدرسة البهائية ، حيث يقيم الشيخ محمود النورو.. والشيخ حسين الطه.. وكان ذلك في بداية 1955م. 

 

الثانوية الشرعية الخسروية:

وفي سنة 1959 في زمن حكومة عبد الحميد السراج، أيام الوحدة، قامت الدولة بضم الشعبانية إلى الثانوية الشرعية " الخسروية " وكان نظامها ليليا، يؤمن لأبناء الأرياف الطعام والمنام والكتب والحمام.. فبقيت فيها إلى نهاية1962.. وقد حرصت أثناء دراستي في الخسروية أن أحصل على الشهادات العامة، فتقدمت لاختبارات شهادة الكفاءة العامة مع الكفاءة الشرعية، ونجحت فيهما معا.. ولما أصبحت في الصف الحادي عشر.. وكانت تلك الفترة فترة اضطرابات سياسية، فحكومة الانفصال الذي وقع سنة1961 لم تستطع المحافظة على هدوء البلد خلال فترة الانفصال، ولا استطاعت منع التظاهرات الشعبية والطلابية المطالبة بإعادة الوحدة بين مصر وسوريا .. وفي تلك الفترة كنت في المرحلة الثانوية، ولما بلغت الصف الحادي عشر، وكنت طالبا حركيا، أتمتع بالخطابة ونظم الشعر والأناشيد الوطنية، مما جعلني قائدا لكل المظاهرات الوطنية .. حتى أدى ذلك إلى طردي أنا واثنين معي أحدهما من تقتناز .. والثاني من حلب ..

 

التوجيه الإسلامي بدمشق: 

ولما تم فصلنا من الثانوية الشرعية، ذهبنا إلى الشيخ أبي الخير زين العابدين رحمه الله لنقول له: إننا طردنا ظلما بدون ذنب موجب للطرد، فقال لنا رحمه الله: يا بني إن كنتم برءاء فلن يضيعكم الله .. ولما يئسنا من إلغاء قرار الطرد، عزمت أنا والأخ التفتنازي على الذهاب إلى دمشق، لنتظلم لدى مدير التعليم الشرعي عبد الرحمن حسن حبنكة، ولكنه أساء استقبالنا، وطردنا من مكتبه.. فقررنا أن نذهب إلى "معهد التوجيه الإسلامي " وكان مديره الشيخ صادق حبنكه الميداني.. فقال يا بني أنتم تأخرتم فقد بدأ الاختبار اليوم، فاذهبوا الآن والسنة القادمة نقبلكم.. قلت: ما هي المادة التي فاتتنا.؟ قال: مادة أصول الفقه.. قلت:  يا سيدي اختبرنا الآن في هذه المادة ، فإن نجحنا فنكمل الاختبارات مع زملائنا.. قال: ومستعدون.؟ قلنا نعم.. واختبرنا.. ونجحنا، وحصلت على العلامة التامة في مادة الأصول.. فقال الشيخ صادق يومها: يا بني لو رسبتم في كل المواد الباقية فأنتم ناجحون.. ومنذ تلك اللحظة جرى تسليمنا أسرة وفرشا وأغطية، وكنا في عداد طلاب " التوجيه الإسلامي " .. 

أحبني الشيخ صادق كما لو كنت ولده الوحيد، وسلمني زمام المدرسة، فكنت مشرفا على تحرير جريدة الحائط المدرسية، وكنت عريف الحفلات في المناسبات الدينية، و في ليلة الإسراء والمعراج من تلك السنة، ألقيت قصيدة بهذه المناسبة، فأعجب الشيخ حسن حبنكه بإلقائي وشعري، فمال إلى أخيه الشيخ صادق وسأله: من هذا الطالب .؟ فقال الشيخ صادق: " هذا الذي لمتنني فيه ".. 

ومر عام 1963 بكامله، وحصلت على الثانوية الشرعية من التوجيه الإسلامي بدمشق، ثم كرمني الشيخ صادق رحمه الله بشهادة ثانوية أخرى لا تمنح إلا للمتفوقين من طلاب المعهد، فصار لدي شهادتان ثانويتان شرعيتان، إحداهما رسمية، والثانية وهي الأغلى عندي " ثانوية الخريجين المتفوقين من التوجيه" عليها خاتم التوجيه الإسلامي وتوقيعات كبار العلماء، الشيخ حسن حبنكة والشيخ صادق حبنكه والشيخ خير ياسين والشيخ حسين خطاب والشيخ محمد الفرا والشيخ كريم راجح ..

 

دار المعلمين:

بعد الحصول على الثانوية الشرعية، فكرت في الانتساب إلى الصف الخاص بدار المعلمين بحلب لأحصل بعد التخرج على وظيفة معلم .. وتقدمت بالأوراق المطلوبة، وحضرت " فحص المقابلة " وكان يرأس اللجنة رجل مسيحي اسمه " جوزيف كبة " وكان زهير مشارقة يومها مديراً لدار المعلمين .. ولما جلست أمام اللجنة ، وجهوا إلى قريباً من عشرين سؤالا، في النحو والأدب والشعر والإيقاع الموسيقي وعرضوا علي نماذج من الخط العربي ففرقت ما بين الثلث والنسخ والديواني والفارسي والرقعة. وعلموا أني أجيد الرسم أيضا.. فقالوا بأجمعهم أنت مقبول ومبروك.. إلا أن جوزيف كبة قال: بقي عليك آخر سؤال ثم نقرر قرارنا النهائي، وهو " لو رأيت مسيحيا عربيا يخاصم مسلما تركيا ، فمع من تكون.؟ قلت: من منطلق عربي أكون مع المسيحي العربي. ومن منطلق إسلامي أكون مع المسلم التركي.. قال حسناً، وأنت من أي منطلق تنطلق؟ قلت: أرجو إعفائي من الإجابة عن هذا السؤال، ويكفي أني أجبت على 19 سؤالاً .. قال: لا . بل هذا هو السؤال المعتمد لنجاحك أو رسوبك .. فعلمت أنه يستفزني لأنه يعلم أني أحمل ثانوية شرعية، وكان زهير مشارقة حاضرا في تلك اللحظة .. فقمت واقفا فقلت لجورج: [ شوف يا أستاذ ، أنا لا أبيع حذاء أي مسلم، برأس أحسن مسيحي مثلك ".. واستلمت الدرج وهربت وعبرت الشارع ودخلت الحديقة العامة، خوفا من الشرطة التي استدعوها للقبض علي .. 

ثم تقدمت بعدها في ذلك العام 1964 للحصول على الثانوية العامة ...

 

العمل في السلك الديني في الساحل السوري: 

أثناء إقامتي في حلب كنت أتردد على جامع أبي ذر، لحضور مجلس الشيخ أحمد البيانوني رحمه الله ليلة الخميس من كل أسبوع، وكان الشيخ يحبني، ويدعوني إلى الاعتكاف معه في العشر الأواخر من رمضان.. وكان يعلم أني مغضوب عليَّ ولن أحصل على أية وظيفة في الدولة.. وكان أبناء الشيخ يحبونني، خصوصا ابنه أبو النصر رحمه الله .. 

وفي يوم من الأيام جاءني من يسألني : أتذهب إماما وخطيبا في بانياس الساحل براتب قدره (150 ل. س) وسكن لائق مفروش؟ قلت: نعم أذهب ولو كان المسجد في الصين .. 

واستشرت الشيخ أحمد في ذلك فوافقني على قراري وشجعني.. وفي الأسبوع التالي ذهبت إلى بانياس، واستلمت عملي، وبقيت سبعة أشهر، كانت من أسعد أيام حياتي.. ولا يذهبن بكم الظن إلى أن سعادتي كانت لحصولي على وظيفة وراتب، لأني لم أقبض سوى راتب واحد، ثم أكملت ستة أشهر ألقي الدروس الدينية وأخطب الجمعة متبرعا بدون راتب.. وسبب ذلك أن الرجل القائم على المسجد، أسكنني معه في بيته، وأحبني وزوجني ابنته، وقال لي: ما رأيك يا صهري العزيز أن نتنازل عن الراتب لئلا يقول الناس: " فلان جاء بشيخ فزوجه ابنته ليشحذ على أكتافه؟ " فسافرت وأخبرت والدي رحمه الله  بواقع الحال، فزودني ( بمؤونة ) كاملة  من زيت و برغل وعدس وسمسم وحمص .. وقال لي: " يا ابني اللي بيشتغل عند ربه ربحان.. روح الله يفتح عليك ".

وكافأني الله سبحانه وتعالى فوق ما أتصور ، ففي منتصف 1966 تقريبا دخلت مسابقة أجرتها مديرية أوقاف اللاذقية لإمامة مسجد صغير بسوق تجار، تقام فيه الصلوات الأربع فقط ما عدا صلاة الصبح براتب قدره (145 ل. س)، وبعد شهور انتقلت لمسجد تقام فيه الصلوات الخمس، وصار راتبي الشهري (165 ل . س ) ثم انتقلت لأكون إماما في جامع العجان وهو الجامع الأكبر في اللاذقية وزاد راتبي أيضا، ثم أسند إلىَّ التدريس فيه، ثم أسند إلىَّ التدريس والإفتاء في منطقة الحفة، وتضاعف راتبي الشهري.. 

ولم يكن لدي خطابة حتى عام 1968.. وكان خطيب الجامع الذي أصلي فيه من سكان مدينة طرطوس، يجيء كل أسبوع، فيخطب في الناس ويصلي الجمعة ويرجع إلى بلده . ولما توثقت عرى المعرفة بيننا اتفقت وإياه على أن أخطب عنه ثلاث جمع تطوعا بدون أجر، ويأتي هو فيخطب الجمعة الرابعة ويتقاضى راتبه الشهري ويمضي .. فسُرَّ الرجلُ بذلك، وسررت أنا أكثر منه، لأني كنت واثقا بأن الله سيعوضني عن ذلك خيرا كثيرا.. وقد فعل سبحانه وتعالى.. فبعد أن تطوعت بالخطابة لمدة سنة ونصف السنة، ترك الخطيب وظيفته وعُين مديرا لأوقاف طرطوس، وتلقائيا أسندت إليَّ وظيفته في خطابة جامع العجان. وصار مرتبي أكثر من مرتب مدرسين ممن يعملان في ملاك التربية والتعليم، وصدق ظن والدي رحمه الله حين قال " يا ابني اللي بيشتغل عند ربه ربحان" ..

 

المرحلة الجامعية :

بعد حصولي على البكالوريا الشرعية سنة 1963م سجلت في كلية الشريعة بجامعة دمشق ، ومر على تسجيلي عامان ولضيق ذات يدي لم أتمكن عندها من الذهاب للاختبارات ، فراوحت في المكان لمدة عامين ونصف تقريبا.. 

لقد كنت فيما يبدو محاربا مضيقا علي في الرزق ،فقد كنت أحمل خمس شهادات [ الابتدائية، والكفاءة الشرعية ، الكفاءة العامة، وثانوية شرعية، وثانوية عامة ] ولم أتمكن من الحصول على تدريس ساعات، ولا وكيل معلم، واشتغلت مصححا لغويا في جريدة بحلب، ثم فصلت بدون سبب.. حتى مرت عليَّ سنتان كسني يوسف.. وصرت مضرب مثل في الفشل.. لأن كل من حمل الكفاءة فقط ، استطاع الحصول على عمل إلا " أنا " لماذا .؟ لست أدري.؟

وبعد تعييني إماما في اللاذقية، اشتريت الكتب الجامعية، وبدأت أدرس وأقدم الاختبارات الجامعية، وأنجح فيها بتفوق والحمد لله، حتى أنهيت المرحلة الجامعية بأربع سنوات..

 

العمل في وزارة المعارف : 

تخرجت من كلية الشريعة بجامعة دمشق بتقدير عال سنة 1971 ودخلت مسابقة اختيار مدرسين في التربية والتعليم. فنجحت في المسابقة، وتم تعييني في " ثانوية جول جمال " وهي التجهيز الأولى في اللاذقية، وعملت مدرسا لمادة التربية الإسلامية (خمس سنوات). 

ثم حصلت مشكلة بيني وبين مدرس كان يهاجم النبي صلى الله عليه وسلم ، فرددت عليه ردا عنيفا، وهددته بالقتل ، فنقلوه إلى السلمية، ونقلوني إلى ملاك الفتوى والتدريس الديني العام في اللاذقية..  

وبدأ التضييق عليَّ، وبدأت أفكر بمغادرة البلد، إلى أن يسر الله وحصلت على عقد للتدريس في السعودية.. وفي ذلك الحين توفي مفتي اللاذقية، فوقع الخيار عليَّ ليسند إلي منصب الإفتاء، ولكنني اعتذرت عن الاستمرار فيه، وغادرت سوريا لأعمل في السعودية مدرسا للمواد الدينية لمدة سنتين، ثم مدرسا للغة العربية لمدة 12 سنة، ثم مديرا لمدارس الأوس الخاصة لمدة سنة ونصف ..

 

دراسة الماجستير في الأزهر :

في عام 1973م وقعت معركة بيننا وبين إسرائيل،  وكنت أؤدي خدمة العلم برتبة ملازم ، فخضت تلك المعركة قائدا لفصيلة مشاة محمولة، في القطاع الشمالي.. ومرت العسكرية بمُرّها.. ومُرّها .. فلم يكن فيها حلاوة تذكر، إلى أن تم تسريحي عام 1975 فخاطبت خدمة العلم قائلا:

وداعا "خدمة العلم"  :  على ما فيك  من ألم 

فمالي فيك من ذكرى  :  يجود بمدحها قلمي 

وما إن تم تسريحي حتى سافرت إلى مصر سنة 1975م وسجلت في كلية الشريعة والقانون بالأزهر – قسم السياسة الشرعية ، للحصول على الماجستير ، فأمضيت في الدراسات العليا خمس سنوات .. ثم سافرت للعمل في السعودية عام 1979م.. ولظروف قاهرة شاء الله أن لا أتمكن من الذهاب إلى مصر لإتمام مرحلة الماجستير. والخير فيما اختاره الله. ولله الأمر من قبل ومن بعد. 

 

مسيرتي الدعوية:

كنت مؤمنا بأن التقوى هي الإخلاص لله في العمل، وقد بذلت ما في وسعي لأرضي ربي سبحانه وتعالى.. ولله المن والفضل.. ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لاستأنفت السير في نفس الطريق الذي سرت فيه أثناء عملي في ميدان الدعوة إلى الله ونشر العلم ، سواء في سوريا أو في السعودية.. وأجدني أشعر الآن براحة الضمير، وأسأل الله أن يتقبل  جهدي، ويغفر ذنبي، ويستر عيبي، ويهبني لسان صدق في الآخرين ..

هذا ما كنت كتبته في النسخة الأولى من سيرتي الذاتية، وهو كلام مقتضب جدا، قد يكون مقنعا للعامة، ولكنه لن يكون كذلك بالنسبة للخاصة، والحقيقة ما زلت محرجا في الحديث عن الذات، وأبرأ إلى الله من تزكية نفسي بالباطل. وأنا لا أرى لي فضلا فيما كنت أزاوله من خطابة وتدريس وإمامة، فتلك مهام دينية أسندت إليَّ مقابل مرتبات مالية أتقاضاها من الدوائر الرسمية.. نعم إنها لكذلك، ولكنني كنت أحتسب ما أقول لوجه الله، وأقدم مرضاته تعالى على مرضاة من  سواه. وسأذكر لكم أمورا يستشف من خلالها أن من أخلص عمله لله ، وضع الله له القبول في الأرض، على غير استحقاق من العبد ، وإنما تفضلا منه وكرما.. ومما أكرمني الله به وله الحمد حتى يرضى:

1 - كان لي صديق تخرج من المدرسة الشرعية التي افتتحها الشيخ أحمد الحصري بمعرة النعمان، فأخبرني ذات يوم أن أحد زملائه صار مديراً للشرعية في المعرة بعد وفاة الشيخ الحصري رحمه الله ، وأنه توفي والده ، ويود اصطحابي معه لتعزيته، في  قريته التي تبعد عن المعرة بضع كيلو مترات شرقا.. فوافقته وذهبنا، وكان الجو ماطرا، وكان تراب القرية أثناء المطر أشبه بالصابون. فأجلسونا في صدر مخيم التعزية الكبير جدا، وسمعنا في هذه المناسبة عددا من كلمات التأبين الرائعة، وكان المدير يعقب بحديث على كل كلمة منها، فيأتي بالعجب العجاب في انتقاء الألفاظ وحسن الإلقاء.. وصلينا العشاء.. وكان البرد قارسا، فشعرت بحاجة إلى قضاء الحاجة الضرورية، فقلت في نفسي أذهب للمسجد ولعله يكون قريبا.. فرأيت طفلا لا يجاوز سنواته السبع، فسألته أين المسجد يا صغيري.؟ فقال لي" ليش عمو.؟ " قلت: أريد الذهاب لنقض وضوئي .. قال: تفضل عمو، ومشى أمامي وكان يلتفت إليّ َبين حين وآخر، ويشير بأن أتبعه.. حتى أدخلني دارا.. فلما صرت في ساحتها علمت أنني لست في المسجد.. فقلت يا بني أنا أريد حمامات المسجد.. فقال: عمو المسجد مقفل. وما في حرج تفضل.. وأدخلني.. وقضيت حاجتي ورجعت فوجدته قد غسل لي حذائي من الطين ، وأمسك منشفة بيده وأعطانيها .. وتصرف معي بأدب جمّ ، وكأنه ابن عشرين سنة ..

فرجعتُ إلى المجلس فكلفوني بإلقاء كلمة. ففعلت.. وكنت متأثرا بموقف الطفل الرائع.. ومتأثرا بالألفة والمحبة المتبادلة التي رأيتها بين المشايخ الحضور من أتباع الشيخ الحصري ، فوفقني الله في ذلك الجو الروحاني إلى كلمة بكيت فيها وأبكيت.. وقلت: لقد مضى الشيخ الحصري إلى ربه، بعدما أحيا بلدا، وربى رجالا، وأقام بنيان دين، وأرجو أن يكون لقي ربه راضيا مرضيا. لقد كان الشيخ رحمه الله يرسل لي سلامه مع بعض طلابه الذين كانوا يقضون خدمتهم العسكرية في الساحل، ويصلون الجمعة عندي في مسجد العجان في اللاذقية .. وأطلب منهم أن يبلغوا الشيخ سلامي .. لقد أحببت الشيخ رحمه الله دون أن ألقاه.. وأخشى أن يكون حظي منه كحظ القائل :

هو الحبيبُ ولكني أعوذُ به : من أن أكونَ محباً غير محبوبِ

فعقب مديرُ المدرسة كعادته على كلمتي فقال: سأخبركم الآن بموافقة عجيبة ساقتها إلينا الأقدار الآن على غير ميعاد، إن شيخنا الحصريَّ يا سادة أخذنا مرة إلى اللاذقية، فحضرنا صلاة الجمعة، ثم عدنا أدراجنا إلى المعرة دون توقف.. فسألنا الشيخ: لماذا جئت بنا للصلاة في اللاذقية ورجعت بنا للتو.؟ قال يا بني هل سمعتم خطبة هذا الشاب ؟ قلنا نعم. قال: فأنا أريد أن يكون كل منكم مثله في حسن الخطابة وفنِّ الأداء.. 

ثم أردف المدير قائلا: " أيها الأحبة، هل تدرون من ذلك الخطيب الشاب، الذي أخذنا شيخنا لسماع خطبته؟ إنه هذا الشيخ الذي بكى وأبكانا بحديثه اليوم .. وأبشره بأن شيخنا كان يحبه، بل كان يعتبره مثلا ". انتهى كلامه .  

رحم الله الشيخ أحمد الحصري، لقد جعل كل واحد من خريجي معهده الشرعي خيرا مني في الأداء وحسن الإلقاء.!!

2 – أول ما انتقلت من بانياس إلى اللاذقية، لاحظت أن السفور كان ضارباً بأطنابه فيها ، حتى العجائز كُنَّ يُقصّرن ثيابهنَّ إلى منتصف الساق. ولا تكاد تجد امرأة تضع غطاء على وجهها في الأسواق إلا ما رحم ربي .. وخرجتُ بحمد الله بعد 13 سنة من اللاذقية وعدد المحجبات فيها أكثر من عدد السافرات ..

3 – دخلت اللاذقية ولم يكن فيها أي مكتبة إسلامية، ولا يباع فيها كتاب ديني قط.. وخرجت منها وفيها ثلاث مكتبات كبرى لا تبيع إلا الكتاب الإسلامي " مكتبة الجامعة " و " مكتبة التراث الإسلامي " و " مكتبة الغزالي " وكان لي يد في ذلك والحمد لله .

4 - كل أئمة المساجد في اللاذقية حاليا هم من طلابي.. وحتى المفتي الحالي هو منهم أيضا، وكان ممن يحضر خطبي ودروسي.. 

5 – وكان لي نشاط في جمعية البر بوصفي عضوا استشاريا فيهـا.. وقد ساعدت بالكلمة على رفع المستوى المالي وزيادة الدخل فيها، حتى تمكنت الجمعية من شراء أرض في أجمل موقع ، وبناء دار لإيواء العجزة والمسنين فيها..

 

علاقتي بشيخنا الشيخ عبد الرحمن بكري حميدو ألخصها بالآتي :

الشيخ رحمه الله هو ابن عمي نسبا ، وفارق السن بيني وبينه رحمه الله يجعله في مقام عمي قدرا ، فما أذكر أني لقيته إلا قبلت يده ، لقد تربينا على احترامه وتقديره وإجلاله . وقد كان للشيخ منزلة وتقدير لدى القريب والغريب ، لأنه كان عمري السيرة ، نقي السريرة ، لا يحابي ولا يداهن ولا يداري .. ولا يقرب أحدا ولا يباعده إلا لاعتبارات دينية وإذا أحب الشيخ أحدا عُرف ذلك منه لما يبش له ويهش .. وإذا غضب على أحد ولا يغضب إلا لله ، عُرف ذلك منه لما كان يعرض عنه بوجهه .. 

ولما ذهبت إلى بانياس إماما وخطيبا لبست العمامة لأول مرة وكنت ابن 21 سنة ، وبعد شهور يسيرة عدت من بانياس إلى القرية ، زرت الشيخ أنا ووالدي ففرح بي فرحا شديدا ، وعبر  عن فرحه بتكليفي بخطبة الجمعة في اليوم التالي ، وكنت أخطب ارتجالا ، وطلب مني أن اقرأ شيئا من القرآن في حلقة الختم التي كان يديرها الشيخ رحمه الله على الطريقة النقشبندية ، ولما سمع تلاوتي ازداد سروره رحمه الله ..  

ومما أذكر ولا أنسى أنني ما جئت مرة إلى القرية إلا كلفني الشيخ بخطبة الجمعة.. وفي هذا دليل على رضا الشيخ عني ،  وثقته بي وإن ثقته رحمه الله غالية ..

ولما تزوجت دعاني أنا وزوجتي ووالدي إلى تناول طعام الفطور عنده ، وقدم لنا المأمونية والحليب والشاي والجبنة و" كعك التنور " مبلولاً بالماء ، على طريقة الشيخ الخاصة ، وكان طيب المذاق ، حتى كأنه من طعام أهل الجنة.. فما أدري هل هو كذلك ؟ أم أن كرم الشيخ وسخاء نفسه وطهارة روحه هي ما تجعلني أحس بمثل هذا الشعور .

لقد كان للشيخ فضل علي بتقديمه لي لأهل القرية ، فمن قدمه الشيخ قدموه ، ومن أخره أخروه .. وفيه يصدق القول " لا يفتى ومالك في المدينة " ..

وما أذكر أني جئت من بانياس مرة إلا شرفني الشيخ بالزيارة ، ودعاني لوجبة طعام عنده ، وغالبا ما تكون بعد خروجنا من صلاة الصبح دعوة على طعام الفطور ..

رحم الله الشيخ .. لقد احترمناه وأحببناه وبجلناه وقدرناه حيا وميتا .. ومثل شيخنا الشيخ عبد الرحمن رحمه الله لا ينسى لأجيال ..

 

مسيرتي في الكتابة والتأليف والتحقيق:

( أ ) مؤلفاتي المخطوطة الجاهزة للطبع : 

لدي تسع مؤلفات جاهزة للطبع.. ولم أتمكن من طبعها حتى الآن لأني لا أملك تكاليف الطباعة، ولم يقيض الله لي من يتبنى نشر هذه الكتب خدمة للعلم.. وهي التالية:

1 –  التلخيص الوافي لمعاني منظومة الصبان في العروض والقوافي في 360 صفحة

2 –  من أسرار الشعر والعروض والقافية في 602 صفحة

3 –  كلمات في الصميم " خطب منبرية " في ثلاثة أجزاء  في 666 صفحة 

4 – مع الذات والذكريات ثلاثة أجزاء في 900 صفحة 

5 – وقفات مع الدين والعلم والحياة . جزءان في 510 صفحات

6 – قصة بعنوان " وعاد الحب "  في 197 صفحة

7 – نوافذ على شعر الحكمة  في 173 صفحة 

9 – لدي مجموعة شعرية تزيد على 14 ألف بيت من الشعر العمودي 

 

( ب ) مؤلفاتي المشرفة على الإتمام :

1 – في إعجاز القرآن   في 526 صفحة

2 – ابن تيمية في دائرة النقد المحايد  في 290 صفحة

3 – الصلاة بين النظرية والتطبيق  في 125 صفحة

4 – أهل الفترة وآل البيت والعترة   في 282 صفحة

5 – كتاب " مـنـغ "خلال مائتي عام  في 314 صفحة

6 – مفتاح الكنز  في 150 صفحة

7 – نقض كتاب أحمد عمران " العدل الإلهي والتناسخ " في 120 صفحة

8 – خواطر ومشاعر  في 91 صفحة 

9 – مسرحية شعرية بعنوان " أصحاب الفيل " تضمنت 200 بيتاً من الشعر

10 – من هنا.. ومن هناك  77 صفحة 

11 – نزار قباني فرويد العرب  50  صفحة

 

( ج ) كتب ودواوين شعرية حققتها :

1 – تحقيق ديوان نفحات دار الهجرة – للشاعر المتوفى عبد الغني بري .

2 –  تحقيق ديوان شعر " ذكريات " للشيخ عبد الحميد عباس أحد أعيان المدينة .

3 – تحقيق " كتاب النخيل" تأليف الشيخ حليت عبد الله مسلم  أحد أعيان المدينة .

 

وهنالك عدد غير يسير من الأبحاث والمقالات.. أسأل الله تعالى أن يهيئ المناخ المناسب الذي يسمح بنشرها في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى. وأن ينفع بها، وتكون ذخرا لي بعد وفاتي ... والحمد لله رب العالمين .

***