العلَّامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -6-

 

* مبشراته:

دخل الوالد رحمه الله في شبه غيبوبة قبل وفاته بأربعة أيام، لعِلَّة في بطنه سبَّبت وفاته، وقد جاء في الحديث الصحيح (المبطون شهيد)، وكان قبل دخوله أجريت له عملية غسيل كلوي، ولمَّا دخلتُ عليه بعد عملية الغسيل كان لسانه يلهج بالشهادة كثيراً دون فتور.

ثم إنه عندما فاضت روحه الشريفة إلى بارئها نطق بكلمة التوحيد مختتماً بها عمراً قضاه في خدمة الإسلام والمسلمين، و (من كان آخر كلامه لا إلـه إلَّا الله دخل الجنة).

وكانت أصبُعُه السبابة مرتكزة على الوسطى، كحال المرء لما يتشهّد، وبقيت على ذلك إلى حين تغسيله ودفنه.

* خاتمة:

أذكر فيها وقائع سامية حصلت منه في أواخر أيامه رحمه الله، فمن ذلك أنه قبل دخوله المستشفى بأيام زاره أحد الأدباء، وتداولا الحديث فذكر له ذلك الأديب أن هناك بحثاً عن كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ، وكان الوالد رحمه الله قد اعتنى بهذا الكتاب، لكن لم يدفعه للطبع. فطلب رحمه الله منه نسخة من ذلك البحث، وهو على فراش المرض يطارح الآلام والأسقام قدّس الله روحه.

ومن ذلك أن إحدى إخواتي وفقهن الله كانت بجانب سرير الوالد رحمه الله، وهو في مرضه الأخير الشديد، فأرادت أن تشرب، وأمسكت الكأس بيدها اليسرى من ذهولها بحاله ومرضه، فأشار إليها الوالد فلم تفهم مراده لذهولها وحزنها عليه، فأمسك بيدها وهزَّها لكونه لا يستطيع الكلام، ففهمت مراده، وأمسكت الكأس بيدها اليمنى! فللَّه درّه كم أتعب من بعده!

ومن ذلك أن من أواخر ما قرأتُه عليه ترجمة الإمام القدوة الفذِّ عبد الله بن المبارك رحمه الله من كتاب «سير أعلام النبلاء» للحافظ الذهبي رحمه الله، وهو على فراش المرض في مستشفى العيون، فلما شرعتُ في أولها، ورأى طولها، أحالني على آخرها وطلب مني قراءة أبيات قالها بعضهم في رثاء ابن المبارك وتوقف عندها رحمه الله وقدّس روحه، وفي هذه الأبيات موعظة لأولي الألباب، وهي:

مررتُ بقبرِ ابنِ المبارك غُدْوَةً *** فأوسعني وَعْظاً وليسَ بناطقِ

وقدْ كنتُ بالعلمِ الذي في جوانحي *** غَنيّاً وبالشَّيْبِ الذي في مَفَارقي

ولكنْ أرى الذكرى تُنبِّه غافلاً *** إذا هي جاءت من رجالِ الحقائقِ

نعم أيها الحبيب: تنبِّه غافلاً إذا هي جاءت من رجال الحقائق، رحمك الله وجعل موتك ذكرى لقلوبنا الغافلة، وجمعنا وإياك في عِلِّيين في مقعدِ صدقٍ عنده مع النبيين والصديقين! اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله! إن العين لتجود وتدمع، وإن القلب ليحزن ويُكْلَم، ولا نقول إلَّا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا قرة العين لمحزونون!

* رثاؤه:

رثاه عدد من أحبابه وطلابه بقصائد عذبة رائقة رقيقة حزينة، أورد بعضها هنا:

فمن أولئك صهره وتلميذه الدكتور الفاضل الشاعر ابن الشاعر: أحمد البراء بن عمر بهاء الدين الأميري حفظه الله، وهي بعنوان: « حَنَانَيْكَ لا تَرْحلْ ».

حنانيكَ، لا ترحلْ، فجُرحيَ لم يزلْ *** سخيّاً، ونارُ الفَقدِ فيه تَضَرَّمُ

ولا تطعَنِ القَرحَ الذي نزَّ مِنْ دمي *** ولا تُنطقِ الحُزنَ الذي هو أبْكمُ

ففقدي لأحبابي يَهيجُ مواجعي *** ويُخرِسُ أشعاري التي تترنَّمُ

فإن رُمتُ بيتاً يَنْدُبُ الحِبَّ خانني *** بياني، وظلَّ الدمعُ في العين يَسْجُمُ 

فأَنْظِمُ دمعي في دُجايَ قصائداً *** فيُشرقُ ليلٌ في فؤاديَ مُظْلمُ

وتشهَقُ أنّاتي، وتزفِرُ أضلُعي، *** وتُقبلُ أحزاني عليَّ تُسَلِّمُ

فأفتحُ صدري، للفؤادِ أضمُّها *** فتسكنُ في أرجائِه، وتُخيِّمُ

حنانيكَ، لا ترحلْ، فقد كنتَ آسياً *** فمَنْ لجراحي اليومَ يأسو ويرحَمُ؟

وكنتُ إذا ما الهمُّ آدَ تصبُّري *** وأزرى بآمالي العِطاشِ تجهُّمُ

أزوركَ والأنواءُ تصفَعُ مُهجتي *** عَصْفُ الرّياحِ الهُوْجِ يعوي ويحطِمُ 

فما هو إلَّا أنْ أراكَ مُرَحِّباً ***  بوجهٍ كنورِ الصُّبح، والعينُ تبسِمُ 

فأنسى صَبَابَاتي ، وترتاحُ مُهجتي ***  وتَسْكُنُ آلامي، وبالدّفءِ أنعَمُ 

فما لَكَ تمضي اليومَ غَيْرَ مُودِّعٍ ***  تُفَطِّرُ أكباداً لنا، وتُيتِّمُ 

وتسكبُ فوقَ الجُرحِ في قلبِنا لظىً ***  يَوجُّ ، ويَسْري في العروق، ويُؤلِمُ؟! 

رحلتَ وخلَّفْتَ المحبِّينَ: مُقْصَدٌ ***  بسَهْمِ النّوى، أو والِهٌ يترحَّمُ 

رفيقةُ دربِ العُمرِ قد لفَّها الجَوى ***  وأذهلَها فَقدٌ وجيعٌ مُئَيِّمُ 

تغشَّتْ بمثلِ اللَّيلِ  ثوباً  سوادُهُ ***  أشدُّ سواداً منه حُزن مُتَيِّمُ 

أَمِنْ بعدِ عُمْرٍ بالمحبَّةِ عامرٍ ***  وَوُدِّ كوقْعِ الطَّلِّ، بلْ هُوَ أَنْعَمُ 

تخلِّفُها في وحشةِ الدَّربِ وَحْدَها *** داري ضَنىً في قلبِها، وتُكَتِّمُ 

وربّاتُ طهرٍ قد أحَطْنَ بوالدٍ ***  يودِّعْنَهُ، والقلبُ في الصَّدرِ يُكْلَمُ 

ذوى منه وجهٌ كان بالنُّور مُشْرقاً ***  وعينٌ خبا فيها الضِّيا والتبسُّمُ 

تلفَّفْنَ بالصَّبرِ الجميلِ فلا ترى ***  سوى مَدْمعٍ يَهمي، وثغرٍ يُتمتِمُ  

نماهُنَّ للتقوى حَياءٌ، ووالدٌ ***  أعزُّ من النُّعمى، وأوفى، وأرحَمُ 

وأبناءُ بِرٍّ كالبُدور تحلَّقوا ***  وأوجهُهُم فيها الضَّراعةُ تُرسَمُ 

أحقّاً أبا الإخلاص والفضلِ والتّقى ***  تُغادِرُنا، والوعدُ في الغيبِ مُبْرَمُ؟ 

تركتَ لنا بَيْتاً من العِزِّ شامخاً *** وذِكْراً هو الكنزُ المَصونُ وأكرمُ 

فأنَّى رَحَلْنا قيل: أبناءُ سيِّدٍ ***  وأنّى التفتنا قيل: نِعْمَ المعلِّمُ! 

رحلتَ، ففي دارِ الخلافةِ نادبٌ ***  وفي الهندِ محزونٌ، وفي مصرَ مُغْرَمُ 

وفي المغربِ الأقصى وجومٌ وحسْرةٌ ***  وفي القُدسِ والأُرْدُنِّ حُزن مُخيِّمُ

وفي الشَّام إخوانٌ همُ الصِّدقُ والوفا ***  يُضحُّونَ بالاغلى لو اُنكَ تسلَمُ

فجيعتُهُم في فقدِكَ اليومَ غُصَّةٌ ***  تُحدِّرُها عين، ويَزْفِرُها فَمُ

وفي كلِّ صُقْعٍ زُرتَه وسقيتَهُ ***  علومُكَ نَبْتٌ طيِّبُ النَّفحِ يفْغَمُ 

يُعزَّى بكَ المرءُ الذي لم يكن رأى *** مُحَيّاك لكن طِيْبُ ذكرِكَ يَنْسِمُ 

ففي الشّرقِ أحزان عليكَ ومأتمٌ *** وفي الغربِ أحزانٌ عليكَ ومأْتمُ

وداعاً أبا الإخلاصِ والذَّوقِ والحِجَا *** أخا العلمِ يَهدي للّتي هيَ أقْوَمُ

هنيئاً لكَ المثوى النّديُّ بطَيْبةٍ *** فيا حُسْنها بُشرى تَجِلُّ وَتَكْرُمُ!

 

ومن أولئك ابنه وبِكْره أخي المهندس محمد زاهد أبو غدة حفظه الله، وهي بعنوان: « رَحل الحبيبُ».

أحقاً أنّه رحل الحبيبُ ***  وأنَّ الشمسَ أدرَكها المغيبُ

وأنِّي صرتُ بين الناس فَرْداً *** وحيداً لو تداهِمُني الخُطوبُ

أحقاً إنْ وردتُ أريدُ رِيّاً *** ورأياً سوف يُصدرِني اللُّغوبُ 

فلا «نعمُ» لها جرسٌ أثيرٌ *** له نفسي إذا حنَّتْ تَذُوبُ 

وأينَ بهاوه في النفس يسري *** وأين حديثُه شهدٌ وطيبُ

ولي دعواتُه بالخير تَتْرى *** وإثرَ دعائه غيثٌ سَكُوبُ

يقول لي الفؤادُ: مُحَالُ يمضي *** وكيف تزول شمسٌ لا تغيبُ؟

وكيف وما تزال لديهِ كتبٌ *** يحقِّقها ورأيٌ لا يخيبُ

أبيْ قُمْ «فالعِنَايَة» في انتظارٍ *** لها من راحتيك كِسَاً قشيبُ

أبيْ قُمْ فالمنابر باكيات *** ذا ذكَرتكَ يعرُوها الوَجِيبُ 

أبيْ قُمْ فالمشايخُ في انتظارٍ *** قد اجتمعوا وطالِعُكَ النقيبُ 

وأسأل طِبَّه: هل من علاجٍ؟ *** فيبكي حين أسأله الطبيبُ 

أتى أمرُ الإلـه فكُلُّ أمرٍ *** سواه لا يُفيد ولا يُصيبُ

إذا اختار العليمُ فلا خِيارَ *** وبالتسليم يرتاح اللبيبُ

وحولَك مؤمناتٌ ضارعاتٌ *** بآي الذكر مَبْسَمُهُنْ رطيبُ

ينازِلن الفجيعةَ صابراتٍ *** ولولا اللَّهُ لارتفع النحيبُ

فيا أمَّاه صبراً ثم صبراً ***  على الَّلأْواءِ واللَّهُ الحسيبُ

حملتِ العبأَ صبراً واحتساباً *** ولم تهزُزْكِ ضرَّاءٌ قَطوبُ

وكنتِ له على الأيام عوناً ***  إذا ما يشتكي أنتِ الحَدوبُ

فيا رباه أجزلْ كلَّ خيرٍ *** فأنتَ اللَّهُ أفضلُ من يُثيبُ 

مضى شيخ الشيوخ تُقَىً وفضلاً ***  وملءُ إهابه علمٌ رحيبُ

فؤادٌ عامرٌ بالله ذِكراً ***  وإلهامٌ له يعنو النجيبُ

ووجهٌ طافحٌ بالنور بِشراً *** وتقوىً، تنجلي فيه القلوبُ

ودمعٌ كم ترقرق في الليالي ***  على الإسلام تنهشه النُّيُوبُ

تتابعتِ النوائبُ والرزايا ***  يحار إزاءها الفَطِنُ اللبيبُ

جراحٌ أثخنت، والركبُ أعمى *** ورأيك في النوازل لا يخيبُ

حملتَ همومَ أمتنا جميعاً *** وهمٌ واحدٌ منها يُذيبُ

وكنتَ النور في دَيْجُور جيلِ *** تَحارُ به المسالك والدروبُ

كشفتَ له العَوارَ فذا يمينٌ *** يجيعُكمو لتمتلئ الجيوبُ

وذاك يريدُ من (لينينَ) رشداً *** يزخرف قولَه وهو الكذوبُ

دعوتهمو إلى أمرٍ سواءٍ *** به الدنيا  إذا اتَّبعوا  تطيبُ

بلادُ الشامِ تسأل مَنْ أتاها *** أحقاً ذلك النبأُ الرهيبُ

أغيَّبتِ البقيعُ إمامَ علم *** له العلماء إنْ حاروا يؤوبوا

بكتكَ دمشقُ والشهباءُ ثكلى *** وأهل الدين جمعهمو كئيبُ

فيا لكِ فرحةً دامت قليلاً *** دهانا بعدها أمرٌ مهيبُ

قلوبٌ بالمحبة طافحاتٌ *** أراها اليوم أحبطها الشُّحُوبُ

وخاف المسلمون بكل أرضٍ *** أَنبعُ العلم حلَّ به النُّضُوبُ؟

بكتك الهندُ حَبْراً لا يجارى *** وقَوَّاماً إذا هجعتْ جُنوبُ

وصلى الجمعُ في استانبولَ غيباً *** كم اجتمعوا وأنت بهم خطيبُ!

قضيتَ العمرَ في تحصيل علم *** ولم يوهِنْكَ ضعفٌ أو مشيبُ

أتيتَ ربوعَه والقحطُ بادٍ *** ويعلو فيه للبُوم النَّعِيبُ 

غذوتَ له من العلماء رهطاً *** تولَّوا زرعه فهو الخصيبُ

وكم من مِعضَلٍ ثابرتَ فيه *** ولم تعيا فأنتَ له دؤوبُ

كشفتَ غموضَه وأبنتَ فيه *** فوائدَ لم يلاحظها الأريبُ

أفي مرضٍ وقد دَنتِ المنايا ***  تُنقّي عن كتابِكَ ما يعيبُ 

إذا أَسَرَتكَ أوجاعٌ ثِقالٌ *** فذهنُكَ في مسائِلِهِ يجوبُ

أيا أرضَ البقيعِ سُقيتِ غيثاً *** به يخضرُّ تُربك والسُّهوبُ 

لقد أودعتُ فيكِ أبي وحِبِّي *** ومَنْ ذكراه في قلبي لَهيبُ

وددتُ فداءَه نفسي ومالي *** ولو أنِّي قضيتُ ولا يغيبُ

سألهجُ ما حييتُ بما غَذَاني *** من الدِّين القويم فلا أحوبُ

حَبَاني ذَوقُه لطفاً وفضلاً *** وشجَّعني لينطلق الأديبُ

سأذكرُه الحَياةَ فإن مضينا *** لغايتنا وموعدنا قريبُ

فإن الملتقى جناتُ عدنٍ *** بفضل الله والله المجيبُ

فلي السلوى بأنك في جوارٍ *** شفاعتُه تزول بها الذنوبُ

نشرتَ حديثَه وذببتَ عنهُ *** فنلتَ جوارَه وهو الحبيبُ

الحلقة السابقة هـــــنا

(تتمة المراثي في الحلقة القادمة)