ترجمة العلَّامة الشيخ: عبد الفتاح أبو غدة -3-

 

* رحلاته:

رحل والدي رحمه الله إلى بلدان عديدة ومدن كثيرة، فبالإضافة إلى مدن بلده الشام، زار الأردن، وفلسطين قبل احتلالها، والعراق، والسعودية، والكويت، وقطر، والإمارات، والبحرين، واليمن، ومصر، والسودان، والصومال، وتونس، والجزائر، والمغرب، وجنوب أفريقيا، وأندونيسيا، وبروناي، والهند، وباكستان، وأفغانستان، وأُزْبَكِستان، وتركيا، وبلدان كثيرة في أوروبا وأمريكا.

ورحلاته هذه إما أن تكون علمية لرؤية المشايخ والالتقاء بالعلماء، وتحصيل العلم، وزيارة المكتبات ودور المخطوطات.

وإما دعوية لحضور المؤتمرات وإلقاء الخطب والمحاضرات والدعوة إلى الله، وكثيراً ما كان يجمع بين الأمرين، رحمه الله وغفر له.

* علاقته بعلماء ونبلاء وفضلاء عصره:

فمنهم من كان شيخاً له استمرت علاقته به، بعد تلمذته عنده، ومنهم من يعد من طبقة أعلى منه، ومنهم من يعد من أقرانه ومنهم من يعد في طبقة تلاميذه. وأنا سارد أسماءهم دون تفصيل، فإن ذلك يطول.

1  الشيخ الصالح الفقيه المربي أحمد عز الدين البيانوني الحلبي رحمه الله، وكان كلاهما محب مولع بالآخر.

2  الشيخ الفقيه الأديب مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى.

3  الشيخ العلامة محمد فوزي فيض الله، وهو زميل الدراسة في الخسروية، ثم في كلية الشريعة بمصر أدام الله النفع به.

4  الشيخ الفقيه محمد علي المراد الحموي، وهو أيضاً زميل الدراسة في الخسروية، ثم في كلية الشريعة بمصر رحمه الله وغر له .

5  الشيخ محمد بهجة بن محمود الأثري البغدادي.

6  الشيخ أمجد الزهاوي.

7  الشيخ محمد محمود الصوَّاف، الموصليان رحمهم الله تعالى.

8  الشيخ محمد أبو زهرة.

9  الشيخ محمد حسنين مخلوف.

10  الشيخ عبد الرزاق عفيفي.

11  الشيخ محمد عبد الوهاب بحيري، المصريون رحمهم الله تعالى.

12  الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري القطري.

13  الشيخ محمد الشاذلي النِّيْفر التونسي.

14  الشيخ عبد الله بن الصديق المغربي.

15  الشيخ عبد العزيز بن محمد عيون السُّوْد الحمصي.

16  الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق الدمشقي.

17  الشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري الموريتاني.

18  الشيخ عبد العزيز بن حَمَد آل الشيخ مبارك الأحسائي ثم الإماراتي، رحمهم الله تعالى.

19  الأستاذ الأديب أحمد بن علي آل الشيخ مبارك الأحسائي حفظه الله تعالى.

20  الأستاذ الكبير والشيخ الجليل علي الطنطاوي الدمشقي رحمه الله تعالى (1327  1420)، وكان محبّاً ومجلاًّ لوالدي رحمه الله .

21  الشيخ أحمد سَحْنُون الجزائري حفظه الله تعالى.

22  دولة الدكتور معروف الدواليبي الحلبي حفظه الله تعالى.

23  معالي الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي حفظه الله تعالى.

24  الشيخ عبد الله بن علي المُطَوِّع الكويتي حفظه الله تعالى.

25  الدكتور محمد حميد الله الهندي رحمه الله تعالى.

26  الشيخ مناع بن خليل القطان المصري رحمه الله تعالى .

27  الشيخ يوسف القرضاوي المصري حفظه الله تعالى.

28  الشيخ محمد نمر الخطيب الفلسطيني حفظه الله تعالى.

29  الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني الباكستاني رحمه الله تعالى .

30  الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي حفظه الله تعالى .

31  الشيخ شعيب الأرنؤوط الألباني ثم الدمشقي حفظه الله تعالى.

32  الشيخ أحمد بن عبد الله الدُّوْغَان الأحسائي حفظه الله تعالى.

33  الشيخ محمد الحبيب بن الخوجهْ التونسي حفظه الله تعالى.

34  الشيخ الأستاذ محمد بن أحمد الشاطري الحضرمي حفظه الله تعالى.

35  الشيخ محمد أمين سراج التركي حفظه الله تعالى.

36  الأستاذ حسام الدين القدسي رحمه الله تعالى، وغيرهم كثير.

* وظائفه ومحاضراته ودروسه:

بعد عودة والدي رحمه الله من مصر إلى موطنه تقدم لمسابقة اختيار مُدَرِّسي الديانة والثقافة الإسلامية في وزارة المعارف لعام 1951م، فكان الناجح الأول فيها.

فدرّس لمدة 11 سنة في ثانويات حلب مادة التربية الإسلامية، كما درّس علوم الشريعة المختلفة في المدرسة الشعبانية والثانوية الشرعية التي تخرّج منها.

كما أنه زاول في تلك الفترة الخطابة في جامع الحَمَوي ثم في جامع الثانوية الشرعية بحلب، كما كان له دَرْس بعد صلاة الجمعة نحو ساعة سمّاه (جلسة التَّفَقه في الدين)، كان مهوى أفئدة الشباب المسلم واستفاد منه أمم من الناس، وكان يقصد من أطراف مدينة حلب وضواحيها، بل كان يأتيه أناس من محافظة اللاذقية التي تبعد عن مدينة حلب 180كم بطريق وعر. وكان له درس ثانٍ للفقه ليلة الاثنين، ودرس ثالث يوم الخميس في الحديث والتربية والأخلاق، هذا سوى الدروس الخاصة التي كان يقوم بها للنبهاء من طلاب العلم الشرعي.

كما كان يلقي بعض المحاضرات العامة في دار الأرقم.

ثم انتخب عضواً في المجلس النيابي بسورية في سنة 1962م للمدة التي سمحت الظروف السياسية فيها ببقاء المجلس النيابي. وكان انتخابه نائباً عن مدينة حلب بأكثرية كبيرة، على الرغم من تآلب الخصوم عليه من كل الاتجاهات والملل.

ثم انتدب للتدريس في كلية الشريعة بجامعة دمشق في نفس السنة، ودرَّس في كلية الشريعة بجامعة دمشق لمدة ثلاث سنوات (1962  1964م): الفقه الحنفي وأصول الفقه والفقه المقارن بين المذاهب.

وفي سنة 1385 تعاقد مع كلية الشريعة بالرياض التي غدت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لاحقاً، ودرّس فيها وفي المعهد العالي للقضاء، ثم درَّس نحو عشر سنوات في الدراسات العليا في كلية أصول الدين من الجامعة نفسها الحديث الشريف وعلومه، وبقي يعمل مع جامعة الإمام مدة 23 سنة إلى عام 1408، ولقي فيها من إدارة الجامعة ومنسوبيها كل تكريم وتقدير، ثم تعاقد مع جامعة الملك سعود بالرياض، فدرّس علوم الحديث في كلية التربية لمدة سنتين في السنة الأخيرة من الكلية وفي الدراسات العليا، ثم تقاعد عن التدريس في سنة 1411.

وكان ينتدب للتدريس في أثناء تدريسه في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فقد انتُدب أستاذاً زائراً للتدريس في جامعة أم درمان الإسلامية في السودان عام 1396، وأستاذاً زائراً لليمن عام 1398، وأستاذاً زائراً عام 1399 لجامعة ندوة العلماء في لكنو بالهند التي يرأسها سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى وغفر له.

واختير عضواً في المجلس العلمي في جامعة الإمام محمد بن سعود، والمجمع العلمي بالعراق، والمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وشارك في مؤتمرات وندوات كثيرة جداً في سورية والعراق واليمن وقطر والسودان والصومال والمغرب والهند وباكستان وأفغانستان وتركيا وجنوب أفريقيا وفي أوروبا وأمريكا وغيرهما.

كما انتخب مراقباً عاماً (رئيساً) للإخوان المسلمين في سورية مرتين، من عام 1972م إلى عام 1976م، ومن عام 1986م إلى عام 1990م، وكان ذلك في ظروف صعبة وخاصة، فقبل الوالد رحمه الله القيام بذلك المنصب بعد إلحاح شديد ودون رغبة أو تطلع، لاجئاً إلى الاستقالة في أول فرصة ممكنة، وذلك أنَّ الوالد رحمه الله كان يؤثر العلم والبحث على أي أمر آخر، فكان أحب وقتٍ إليه وقتٌ يقضيه في تحقيق مسألة أو شرح معضلة أو مذاكرة علم رحمه الله وغفر له.

ومما درّسه والدي في كلية الشريعة مادة أصول الفقه، وقد كان متقناً في تدريسه لها، مفهماً إياها لطلابه رغم صعوبتها المعروفة، يشهد له بذلك تلاميذه.

كما درّس في كلية أصول الدين لعموم الطلاب، وطلاب الدراسات العليا علوم الحديث بأنواعها، كمصطلح الحديث، والحديث التحليلي وغير ذلك.

* صفاته:

إذا كان بعض الأدباء يجعل (مفتاحاً) لكل شخصية يدرسها ويترجم لها، فإن مفتاح شخصية الوالد رحمه الله حبُّه الكمال في كل شؤونه، والترقي من الحسن إلى الأحسن، وخاصة ما يلزم لرفعة المسلمين من سلوك وآداب وتجارة وصناعة وعلم ومعرفة، حتى يكون المسلم أولاً في كل شيء .

فكان رحمه الله مجمع الفضائل والشمائل كريماً غاية في الكرم، يحرص على إكرام ضيفه بما يستطيع، ويبذل في ذلك جهده وغايته.

وكان رحمه الله حليماً كثيراً ما يعفو ويصفح.

وكان أديباً خلوقاً لا يؤذي أحداً بكلامه، بل يحترمه ويثني عليه، ويختار في ذلك الألفاظ الراقية.

وكان عاقلاً حصيفاً أريباً لا تخرج الكلمة منه إلَّا بوزن وفي موضعها المناسب، ولا يقوم بأمر إلَّا ويزنه بعقله، وطالما قال لي: استعمل عقلك في كل ما تقوم به.

وكان ظريفاً خفيف الروح يمازح جلساءه بالقدر المناسب، ويضفي على مجلسه العلمي والطبعي روح اللطافة والظرافة، بما يناسب مقام المجلس، ويخفف من وطأة الوقار، لكن في ظل التأدب والاحترام.

وكان ذَوَّاقةً جداً في ملبسِه ومشربِه ومسكنِه، وكُتبه ترتيباً وكتابة وتأليفاً، حتى في صَفِّه لحذاءه وتنعله. وهكذا تراه في كل حركة وسَكَنَة عاقلاً ذَوَّاقاً.

وكان عفيف اللسان لا يشتم أحداً، ولا أذكر أني سمعت منه كلمة نابية إلَّا من أندر النادر، وحينما يغضب جداً، وأكثر غضبه لله سبحانه وتعالى.

وكان عفيف النفس لا يطلب من مسؤول أمراً لذاته، وإنما لأحبابه وإخوانه.

وكان صبوراً على الطاعة والابتلاء، حريصاً على الصلاة حرصاً شديداً، مؤدياً لها في أول وقتها، في الحضر والسفر، والتعب والمرض، غارساً ذلك في أولاده وأحفاده، فإذا كان نائماً أو متعباً ونُبِّه إلى الصلاة، انتفض وقام مسرعاً، وطالما ذكر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وفاته، وقولَه: (لَا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة).

وكان خِدْناً للقرآن، له ورد صباحي يومي، لا يدعه إلَّا مضطراً، مع إكثاره من الأذكار والأوراد، فلا تجده جالساً بدون عمل علمي من تأليف أو تحقيق أو تعليم أو مذاكرة أو إفتاء، إلَّا وجدته يسبح ويحمدل ويهلل ويكبر.

وكان رقيق القلب، سريع الدمعة، كثير العبرة، يفيض دمعه عند قراءة القرآن وذكر الله، وقصص السلف والصالحين، وفي المواقف الروحانية، وعلى مآسي المسلمين وآلامهم، وعندما يُمْدَح، ومن حضر حفل تكريمه عند الشيخ عبد المقصود خوجهْ المسمى «الاثنينية» رآه كيف قطع الحفل كله بالبكاء.

وكان يألم ويحترق على مآسي هذه الأمة وأحوالها، وقد فقد سمعه بأذنه اليمنى بعد أن زاره شخص وحكى له عن مآسي المسلمين في بلد من البلدان، فحزن حزناً شديداً وبات ليلته حزيناً مهموماً، وفي اليوم التالي شعر بدم يسيل من أذنه ثم ذهب سمعه.

وكم وكم أرق الليالي حزناً وتفكيراً بأحوال المسلمين.

ولقد ابتلاه الله بعد فَقْد سمعه في أذنه اليمنى بضعف بصره في عام 1410، فما رأيته شكَى أو تشكَّى، ولا ثناه ذلك عن الإنتاج العلمي، بل تجمَّل بالصبر والتسليم، والمثابرة على التأليف والتحقيق، مخافة أن يدركه الأجل، ولم يخرج ما في صدره من الكتب.

ثم في آخر حياته وقبل أربعة أشهر من وفاته أصيب بانفصال الشبكية في عينه اليمنى، وفَقَد بصره فيها، ثم أُجري لها عملية جراحية لم تكلل بالنجاح، وإنما أعقبته ألماً شديداً في عينه ورأسه، وصَفَه كرمي السِّهام، فما سمعته صرخ أو تأوَّه، وإنما كان يقول إذا اشتد الألم كثيراً جداً: يا الله! لا إلـه إلَّا الله!

وكان جَلْداً على العلم قراءة ومطالعة وتأليفاً لا يغادره القلم والقِمَطْر في حله وسفره وصحته ومرضه، وقد ألَّفَ وأنهى بعض كتبه في أسفاره الكثيرة كما دوّن في مقدمات بعض كتبه، وقبل دخوله المستشفى بيوم كان  وهو يعارك الآلام  يضيف في كتابه الماتع «الرسول المُعَلِّم (ص) وأساليبه في التعليم»، كما كان يكثر السؤال وهو في المستشفى عن كتاب «لسان الميزان»، كما أنه كتب مقدمة «لسان الميزان» قبل عشرين يوماً من وفاته!

وكان قليل النوم يستكثر ساعات نومه مع قلتها، وكان في شبابه يواصل اليوم واليومين، كما ذكر لي عدة مرات.

وهاتان الصفتان الأخيرتان تدلان على صفة أخرى، وهي: حرصه على الوقت، فهو حريص على وقته أشد من حرصه على ماله، كما تدلُّ الأخيرة على نهمه العلمي الشديد.

وكان لا يأمر بأمر إلَّا ويأتيه، ولا ينهى عن شيء إلَّا ويجتنبه.

وكان رحمه الله ذكياً ألمعياً ذا حافظة قوية، وذهن متقد مع عمل بالعلم، وعبادة وتقوى وصلاح وورع، وتواضع جمٍّ لطلاّبه وتلاميذه، عوضاً عن مشايخه وعلماء الإسلام، فلا يرى نفسه في جنبهم شيئاً يذكر.

ولما مدحه شاعر طيبة الأستاذ محمد ضياء الدين الصابوني سدده الله في «الاثنينية» ، بقوله:

أبو حنيفة في رأي وفي جدلٍ *** يسمو بهمَّتهِ لأرفع الرُّتبِ

عقَّب على ذلك والدي رحمه الله بقوله: وكذلك الإخوة الَّذين تكلموا وتفضلوا بهذه الكلمات عني، فقد أغدقوا، ولكنهم أوسعوا وأرهقوا، حتى دخلت مع أبي حنيفة رضي الله عنه بالمواجهة كما قال أخي الشاعر ضياء الدين الصابوني، فهذا شيء لا يبلغ من قدري أن أكون ذرَّة رمل أو تراب في جنب أبي حنيفة، من أبو حنيفة؟ أبو حنيفة رحمة من رحمات الله عزَّ وجلّ أهداها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة كما أهدى الإمام مالكاً، والإمام أحمد، والإمام الشافعي رضي الله عنه والإمام ابن جرير...، فهؤلاء الأئمة... فإن صلحت أن أكون رملة صغيرة في جنب هؤلاء فهذا وسام عظيم وفضل كريم، لا أستطيع الشكر عليه، فأعتذر عن مثل هذه الكلمات التي وجهت في جنب الحديث عني، فإنها لا تستطيع نفسي سماعها ولا قَبولها، وإن صدرت من أخ محب صادق في نية حسنة، ولكن الحق أحق أن يتبع. اهـ.

وكانت له نظرة في الرجال وفَرَاسة فما رأيته وصف شخصاً بوصفٍ أو مَدْحٍ أو قَدْحٍ إلَّا وجدتُه فيه ولو بعد حين.

وكذا نَظرتُه في الأمور تجدها مسددة، ولو بعد حين، وظني أنه مسدد بتقواه وعقله، كما كان يصف الإمام حسن البنا رحم الله الجميع.

وكان محبباً إلى زوجه وأولاده وأحفاده، موجِّهاً ومربِّياً لهم باللطف والذوق والحكمة والحُنْكَة، فما رحل عنهم إلَّا وهو عزيز وغالٍ يودون لو يفدونه بأرواحهم وأولادهم وأموالهم.

وهذا حال كثير من محبيه الذين بكوه بكاء الثكالى في أنحاء المعمورة.

أسُكَّانَ بطنِ الأرضِ لو يُقبل الفِدَى *** فَدَينا، وأعطينا بكم ساكنَ الظَّهْرِ!

فهو كما يقال مجمع الفضائل، ويصدق عليه قول القائل:

تُوجز في قارورة العطر روضةٌ *** ويُوجَز في كأس الرحيق كرومُ

الحلقة السابقة هــــنا