يَتِيمٌ أُمِّيٌّ عَلَّمَ الجامِعيِّين: القارئ الحاج محمد درويش رمضان

بدايةَ سنة ١٩٩٦م، كان يوماً ماطراً بيروتياً بامتياز! راودتْني نفسي بالتأجيل، لكنّ وَصْفَ الشيخ ضياء يونس له كان تشويقاً لا يقاوم... خرجتُ من كلية الشريعة إلى مسجد عمر بن عبد العزيز أتقي بالمظلة ما أمكن من المطر.

وإذا هو في غرفة الإقراء؛ مِرْحاب بسَّام، قريب من القلب، طويل نَحيل، ابن ٧٨ سنة (وُلد سنة ١٩١٨م).

امتدت فقرة التعارف وحكى لي طَرفاً من قصته؛ فالتلاميذ غابوا بسبب غزارة المطر.

نشأ فقيراً وعمل سَبّاكاً (سَنكرياً) فقد ربّته أمه خديجة الحاج علي عيد، يتيماً وهو دون السنتين مع إخوانه وأخته أميرة (والدة المفتي محمد علي الجوزو).

ففاته الالتحاق بالمدرسة ونشأ أُمِّياً! لكنه كان يَتْبع الطلاب ليعلموه الحروف. وعندما بلغ ١١ سنة حُبِّب إليه تعلم القرآن، ودَلُّوه على "شيخ القراء" توفيق البابا!!

أَحسنَ الشيخُ استقبالَه وضيافته، لكنه لم يَعْجَل بتعليمه بل أَجّله إلى اليوم التالي ٨ صباحاً. حَضر الفتى محمد رغم كونه وقتَ ذروة العمل... وشيخُ القراء اكتفى بإكرامه كالأمس، وطلب منه الحضور في اليوم الثالث صباحاً! حَضر الفتى وانطلقتْ رحلته... إنه "امتحان قَبول" نجح فيه بإثبات استعداده للمواظبة.

بعد دردشة طويلة طَلب الحاجّ مني أن أقرأ الفاتحة، وقال: "قراءتك جيدة، تحتاج بعض الرُّتوش" لم يُرِد إخجالي.

وهكذا بدأتْ رحلتي معه بلقاءين أسبوعياً، وعندما انقطع كان معتدلاً؛ لا هو يطنّش التقصير، ولا يَقسو إلى حدّ التنفير، بل يهدّد بأن يزيل الدّبوس من المصحف! فقد قَسَم الأسبوع بين الرجال والنساء؛ وعنده مصحفٌ للرجال فيه عشرات الدبابيس، يَشُكُّها على الصفحة التي وصل إليها الطالب مع قصاصة فيها اسمه، ومصحفٌ للنساء كذلك.

كان طلابه متفاوتي الأعمار والثقافة؛ طلابَ مدارس وكليات، وأئمة مساجد، وفيهم أيضاً مَن يُتَعْتِع بالقرآن وهو عليه شاق.

وكان مهتماً ببناء ورعاية المساجد؛ كجامع الجيلاني في بلدته برجا، وجامع بعاصير الجديد، وفي البقاع: مسجد النَّهرية والعُمرية وكفرزبد، وفي بيروت جامع الإمام علي وابن عبد العزيز...

حاز ثقة الناس في أموالهم، يقصده الفقراء فيؤديها إليهم طيبةً بها نفسُه. وكُلِّف بلجنة الأوقاف في برجا عام ١٩٦١م فتضاعفت الإيرادات عشرة أضعاف (وبلغت ٥٠٠٠ ليرة).

أكرمني بدعوتي إلى منزله؛ وسبقني على دَرّاجته الهوائية كعادته رغم كِبَر سِنه، فحكى لي أن شيخ قراء لبنان توفي ولم يجدوا حافظاً جامعاً لهذا المنصب، فعَرَف شيخ قراء الشام (عبد الله المنجد) بذلك فقال لأحد تلاميذه (محمد توفيق البابا): يا ابني، اذهبْ وارفع الإثم عن أهل لبنان! فأقفل "البابا" دكانَه في دمشق وانتقل إلى بيروت.

فقرأ الحاج عليه عشرين جزءً ثم توفي رحمه الله، وفُتحتْ وصيتُه فوجدوه عَهِد إلى الحاج محمد بتنفيذها.

أتم الحاجُّ محمد الختمةَ على صديقه الحاج حسين عسيران رحمه الله الذي خَتم على شيخ القراء. لذا كان لا يجيز تلاميذه إلا بحضور الحاج حسين، ولا يجيز إلا المتقنين، أما البقية فيزودهم بشهادة.

وأخبرني أنه لم يعطِ الإجازة إلا لأربعة؛ أَحَدهم أتاه فقال الحاج له مراراً: افتح المصحف واقرأ. فلم يفعل، بل قال: أنا أُمّيّ! فناوله الحاجُّ القلمَ وعلمه الكتابة... فواظب عنده إلى أن ختم القرآن وحفظه بإتقان، فاستحقّ الإجازة!

لا يبالغ تلميذُه الشيخ علي بن مسعود التونسي حينما يصفه بأنه كان والداً حنوناً.

أما الأخ بلال عبد القادر فدخل المسجد للمرة الأولى في حياته غير الجمعة، وانتبه الحاج للخلل في صلاته، فجلس بجانبه، ولمّا فَرَغ عَلّمه بلطف، وهمس في أذنه، ودعاه للالتحاق بدرس القرآن، حيث كنا نلتقي. فختم عليه تلاوةً سنة ١٩٩٦م، وكان يحفزه قائلاً: (لا بد مِن أن تحفظ القرآن)، فأتم الحفظ بعد ٢٠ سنة.

ومع لطفه كان شديداً على أعداء الإسلام، وذَكَر لي أن شخصاً حَسن الصوت كان يحرف مخارج الحروف واغتر به العوام، وَصَل خبرُه لشيخ القراء فبعثه ليُنبّهه ويصوّب له، لكنه لم ينزجر، فبعثه شيخ القراء ثانيةً لكنْ هذه المرة ليهدّده بإصدار فتوى بِهدْرِ دَمِه لتحريفه القرآن! فارتدع.

وَقع نظر الحاجّ في مجلّة "الإسلام" المصرية على خبر "جمعية المحافظة على القرآن الكريم" فتساءل: لِمَ لا تكون عندنا جمعية مثلها؟ حَمل المشروع إلى مفتي الجمهورية محمد علايا والشيخ أحمد العجوز وشيخ القرّاء حسن دمشقية عليهم رحمة الله، فأسسوا الجمعية.

تفرغ في جامع الخليفة عمر بن عبد العزيز إماماً ومقرئاً من ١٩٩٢ حتى وفاته.

كان لصحبته وللقرآن في مجلسه أثر ملحوظ في التأهيل العلمي والنفسي، وقد لقيت شاباً في مجلسه يقرأ بالتأتأة ويبدو عليه عدم الاتزان، فلازمَه مدة، وحضرتُ يوماً لأقرأ فإذا بذلك الشاب يجلس على كرسي الحاج فقد غاب لمرضه وأمره أن يُقرئ التلاميذ!!

كانت صُحبتُه محبّبة إلى الناس لِحُسن خُلقه، ولعذوبة تلاوته وإنشاده، ولتواضعه وبُعده عن التكلُّف.

وقد أسهم في تعليمه القراءة والكتابة الشيخ محمد الغزال، ثم لازم العلماء؛ منهم: الشيخ محمد العربي العَزُّوزي، والشيخ مختار العلايلي، والشيخ محمد سوبرة وغيرهم. لكنـه إذا سُئل عـما لا يَعلم -وربما عما يَعلم- كان يُحِيل السائل إلى طلابه المتخصصين.

وممن قرأ عليه: شيخ قراء بيروت محمود عكاوي، وأمين الفتوى الشيخ أمين الكردي، والشيخ عثمان دياب والشيخ سمير رجب وغيرهم.

حَجّ عام ١٤٢٠هـ واشتد مرضه، فزرته بمستشفى المقاصد مع ابنتي ميمونة وعُمرها سنة، ورغم صبره أشار إلى حلول أَجله، فدعوت بطول عمره وقلت: إن شاء الله أُكْمِل ختمتي، وتُقرئ ابنتي هذه.

لكن شعورَه كان الأصوب، فتوفي السبت بعد صلاة العشاء ٩ رجب/ ١٤٢١هـ = ٧ ت١/ ٢٠٠٠م، ودفن بمقبرة الشهداء رحمه الله.

كان يُعِدّ الطلاب والطالبات معلِّمين، لم يكن همه ربطهم به، ولم ينقطع مجلسُه بَعدَه، فيقرئ الرجالَ تلميذه حاتم الموهباني، وتولّت إقراء النساء تلميذته نديمة مطرجي.

 

المصدر: مجلّة إشراقات العدد ٢٢٢