الإمام أبو سليمان الخطابي البستي

 

من رجال الحديث الشريف 

 

 

كان الإمامُ أبو سليمان الخطابي في مقدمة العلماء الذين قاموا بالتأليف في الدين واللغة ابتغاء وجه الله. 

والخطابي: هو الإمام العلامة أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البُستي الخطابي الشافعي، من ولد زيد بن الخطاب بن نفيل العدوي من أقدم المؤمنين صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولد بمدينة بست من بلاد الأفغان سنة 319هـ.

أقام مدة بنيسابور يصنف، فعمل (غريب الحديث) و(معالم السنن) و(العزلة) و(الغنية عن الكلام وأهله) وله تصانيف أخرى كثيرة.

قال ياقوت: رحل إلى العراق والحجاز، وجال في خراسان، وخرج إلى ما وراء النهر (معجم الأدباء 10/268).

وقال السبكي: سمع الحديث من أبي سعيد بن الأعرابي بمكة، وأبي بكر بن داسة بالبصرة، وإسماعيل بن الصفار ببغداد، وأبي العباس الأصم بنيسابور (طبقات الشافعية 3/282).

وقال السمعاني: ذكره الحاكم أبو عبد الله في التاريخ فقال: أقام عندنا بنيسابور سنين، وحدَّث بها، وكثرت الفوائد من علومه (الأنساب5/157).

وكان يكسب قوته من التجارة، وفي أخريات حياته مال إلى الصوفية، فدخل خلوتهم، وتوفي في (بِسْت) سنة 388هـ أو سنة 386هـ.

شيوخه:

ـ ابن الأعرابي وهو الإمام الزاهد، شيخ الحرم أبو سعيد، أحمد بن محمد بن زياد بن بشر صاحب التصانيف. وقال الذهبي عنه في (التذكرة): كان ثقةً ثبتاً عارفاً، عابداً، ربّانيّاً، كبير القدر، بعيد الصيت، صنف معجماً لشيوخه، و تاريخاً كبيراً للبصرة. مات ابن الأعرابي سنة 340هـ.

ـ ابن داسة: الشيخ الثقة العالم محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق، أبو بكر بن داسة، روى عن أبي داود السجستاني، وأبي جعفر محمد بن الحسن بن يونس الشيرازي، توفي ابن داسة سنة 346هـ.

ـ مكرم بن أحمد القاضي، أبو بكر البغدادي البزاز، قال الخطيب: كان ثقة، مات سنة 345هـ.

ـ أبو العباس الأصم: محمد بن يعقوب بن يوسف النيسابوري.

نقل الذهبي عن الحاكم: كان محدّث عصره بلا مُدافعة. وقال: حدَّث في السلام ستاً وسبعين سنة، ولم يُختلف في صدقه وصحة سماعه، مات سنة 346هـ. 

ـ الخُلْدِيّ: جعفر بن محمد بن نصير بن القاسم، أبو محمد الخوّاص المعروف بالخُلْدِيّ، شيخ الصوفية.

كان ثقة، صادقاً، ديّناً، فاضلاً، سمع الكثير، وحدّث كثيراً، وحج ستين حجة، كان ديّناً، مات سنة 348هـ.

ـ أبو علي الصفّار: إسماعيل بن محمد بن إسماعيل. وثَّقه الدارقطني، وقال: صام أربعة وثمانين رمضاناً، وكان متعصباً للسنة.

وله شيوخ غير هؤلاء نقل الذهبي عن أبي طاهر السلفي قال: في شيوخ الخطابي كثرة، وكذلك في تصانيفه.

تلاميذه:

تلاميذه كثيرون، نذكر منهم:

ـ أبو حامد الإسفراييني: أحمد بن محمد بن أحمد، شيخ طريقة العراق.

قال الخطيب: أقام ببغداد مشغولاً بالعلم حتى صار أوْحَد وقته، وانتهت إليه الرياسة، وعَظُم جاهه عند الملوك والعوام، وقال: لو رآه الشافعي لفرح به.

وقال السبكي: حافظ المذهب وإمامه، جبل من جبال العلم منيع، وحَبْر من أحبار الأمة رفيع مات سنة 410هـ.

ـ أبو أحمد الحاكم: محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه الحافظ الكبير.

قال الخطيب: كان من أهل الفضل والعلم والمعرفة والحفظ، وله في علوم الحديث مصنفات عدة، وقال الذهبي في الميزان: إمام صدوق مات سنة 405هـ.

أبو ذر: عبد الله بن أحمد بن عبد الله الأنصاري الهروي المالكي، قال الخطيب: كان ثقة ضابطاً ديناً فاضلاً، مات بمكة سنة 434هـ.

هذا إلى تلاميذ كثير يصعب حصرهم والتعريف بهم.

رأي العلماء فيه:

قال الثعالبي (429هـ): كان يشبه في عصرنا بأبي عبيد القاسم بن سلام في عصره علماً وأدباً، وزهداً وورعاً، وتدريساً، وتأليفاً، إلا أنه كان يقول شعراً حسناً، وكان أبو عبيد مُفحماً.

قال السمعاني (562): إمام فاضل، كبير الشأن جليل القدر، صاحب التصانيف الحسنة، ونقل عن الحاكم أنَّه قال: الفقيه الأديب، البستي، أبو سليمان الخطابي، أقام عندنا بنيسابور سنين، وحدّث بها، وكثرت الفوائد من علومه.

وقال ابن الجوزي (597هـ): له فَهْم مليح، وعلم غزير، ومعرفة باللغة والمعاني والفقه وله أشعار جيدة.

وقال ياقوت: قال الحافظ أبو المُظفر السمعاني: كان حُجَّة صدوقاً، رحل إلى العراق والحجاز، وجال في خراسان، وخرج إلى ما وراء النهر.

وقال أيضاً: كان محدثاً فقيهاً، أديباً، شاعراً، لغوياً.

وقال: كان الخطابي من الأئمة الأعيان.

وقال ابن خلكان (681): كان فقيهاً، أديباً، محدثاً، له التصانيف البديعة، منها: غريب الحديث، معالم السنن، أعلام السنن، كتاب الشجاج، شأن الدعاء، إصلاح غلط المحدثين.

ونقل الذهبي (748هـ): عن أبي طاهر السلفي (576) قوله: وأما أبو سليمان الشارح لكتاب أبي داود، فإذا وقف مُنصِف على مُصنفاته، واطَّلع على بديع تصرفاته في مُؤلفاته تحقق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته، وكان قد رحل في الحديث وقراءة العلوم، وطوّف ثم ألف في فنون من العلم وصنف،وفي شيوخه كثرة، وكذلك في تصانيفه.

وقال الذهبي: كان ثقة متثبتاً، من أوعية العلم.

وقال السبكي(771هـ): كان إماماً في الفقه والحديث واللغة. وذكره الإمام أبو المُظفَّر السمعاني في كتاب: (القواطع في أصول الفقه) قال: قد كان من العلم بمكان عظيم، وهو إمام من أئمة السنة، صالح للاقتداء عنه.

وقال ابن كثير (774هـ): أحد المشاهير الأعيان، والفقهاء المجتهدين المكثرين، سمع الكثير، وصنَّف التصانيف الحسان، وله فهم مليح، وعلم غَزير، ومعرفة باللغة والمعاني والفقه.

كتبه:

ـ معالم السنن في تفسير كتاب السنن لأبي داود.

ـ أعلام السنن في شرح صحيح البخاري، أو تفسير المشكل من أحاديث البخاري.

ـ كتاب شرح الأسماء الحسنى.

ـ كتاب غريب الحديث.

ـ كتاب العزلة.

ـ كتاب الغُنية عن الكلام وأهله.

ـ كتاب إصلاح غلط المحدثين.

ـ كتاب الشّجاج.

ـ كتاب الجهاد.

ـ رسالة في إعجاز القرآن.

ـ علم الحديث.

على أنَّ الكتب الأربعة الأولى كانت هي أكثر مؤلفاته أهمية في إثبات فضل الخطابي وغزارة علمه، وقوة احتجاجه واقتداره، وتجاوبه مع ما يجري في زمنه، ولذلك نتناولها هنا في شيء من الإيجاز:

معالم السنن في تفسير كتاب السنن لأبي داود:

أوضح الخطابي في هذا الكتاب ما أشكل من متون ألفاظ كتاب السنن، وشرح ما استغلق من معانيه، وأبان وجوه أحكامه، ودلَّ على مواضع الانتزاع والاستنباط من أحاديثه، وكشف عن معاني الفقه المنطوية في ضمنها، ليستفيد تلاميذه. 

وبين لتلاميذه منزلة كتاب السنن فقال: (اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف، لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رُزق القبول من الناس كافة، فصار حَكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء، على اختلاف مَذاهبهم، فلكل فيه وِرْد ومنه شِرْب، وعليه معول أهل العراق، وأهل مصر، وبلاد المغرب وكثير من مدن أقطار الأرض).

ويذكر الخطابي فضل الكتاب فيقول: (وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم، وأمهات السنن، وأحكام الفقه، ما لا نعلم متقدماً سبقه إليه، ولا متأخراً لحقه فيه).

ويبدو أنَّ تلاميذه سألوه الكتابة عنه فقال يخاطب تلاميذه: (وقد انتهيت من مسألتكم بقدر ما تيسرت له، ورجوت أن يكون الفقيه ـ إذا ما نظر إلى ما أثبته في هذا الكتاب من معاني الحديث، ونهجته من طرق الفقه المتشعبة عنه، دعاه ذلك إلى طلب الحديث وتتبع علمه، وإذا تأمله صاحب الحديث رَغَّبه في الفقه وتعلمه).

ويختم كلامه معهم: (وقد كتبت لكم فيما أمليت من تفسيرها، وأوضحته من وجوهها ومعانيها، وذكر أقاويل العلماء واختلافهم فيها علماً جماً، فكونوا به سعداء، ونفعنا الله وإياكم برحمته).

 أعلام السنن في شرح صحيح البخاري:

وهو من الكتب الهامة التي شرحت كتاب الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، أو بعبارة أدق تفسير المشكل من الأحاديث التي احتواها، وتبيين الغامض من معانيها.

وبيَّن الخطابي الفرق بين ما احتواه كتاب البخاري، وبين ما في كتاب السنن لأبي داود فيقول: (وغرض صاحب هذا الكتاب، إنما هو ذكر ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث في جليل من العلم أو دقيق، ولذلك أدخل فيه كل حديث صحَّ عنده في تفسير القرآن، وذكر التوحيد والصفات ودلائل النبوة، ومبدأ الوحي، و شأن المبعث، وأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحروبه ومغازيه وأخبار القيامة والحشر والحساب، و الشفاعة، وصفة الجنة والنار، وما ورد منها في ذكر القرون الماضية، وما جاء من الأخبار في المواعظ والزهد إلى ما أودعه بعد من الأحاديث في الفقه والأحكام والسير والآداب، ومحاسن الأخلاق وسائر ما يدخل في معناها من أمور الدين، فأصبح هذا الكتاب كنزاً للدين وركازاً للعلوم، وصار حَكَماً بين الأمة فيما يُراد أن يعلم من صحيح الحديث وسقيمه، وفيما يجب أن يعتمد ويعول عليه).

سبب تأليف المشكل:

ثم يذكر السبب الذي من أجله اتجه إلى تفسير المشكل فيقول: (إني أفكرت بعد فيما عاد إليه أمر الزمان في وقتنا من نضوب العلم وظهور الجهل، وما عليه أهل البدع، وانحراف كثير من أنشاء الزمان (1) إلى مذاهبهم، وإعراضهم عن الكتاب والسنة، وتركهم البحث عن معانيها ولطائف علومها ورأيتهم حين هجروا هذا العلم وبخسوا حظاً منه فأهبوا وأمعنوا في الطعن على أهله، وكانوا كما قال الله عزَّ وجل: [وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ] {الأحقاف:11}. 

ووجدتهم قد تعلَّقوا بأحاديث من مُتشابه العلم قد رَواها جامع هذا الكتاب، وصحَّحها عن طريق السند والنقل، لا يكاد يعرف عوام رواة الحديث وجوهها ومعانيها، إنما يعرف تأويلها الخواص منهم، الراسخون في العلم، المتحققون به، فهم لا يَزالون يَعترضون به عوامَّ أهل الحديث والدَّخل والضَّعفة منهم، فإذا لم تجدوا عندهم علماً بها ومعرفة بوجوهها اتخذوهم سُلَّماً إلى ما يريدون من ثَلْب جماعة أهل الحديث والوقيعة فيهم، ورموهم عند ذلك بالجهل وسوء الفهم، وزعموا أنَّهم مُقلِّدون، يروون ما لا يَدرون، وإذا سئلوا عنه وعن مَعَانيه ينقطعون ويسمونهم من أجل ذلك: حمالة الحطب، وزوامل الأسفار، ونحوهما من ذميم الأسماء والألقاب.

فكم غُمِرَ بغيرهم من الأغمار والأحداث الذين لم يخدموا هذا الشأن، ولم يطلبوه حق طلبه، ولم يقضوا في علمه بناجز، فيصير ذلك سبباً لرغبتهم في السنن، وزهدهم فيها، لطرح كثير من أمر الدين عن أيديهم، وذلك تسويل الشيطان لهم، ولطيف مكيدته فيم، وتخوَّفت أن يكون الأمر فيما يُناجز من الزمان أشد، والعلم فيه أعز، لقلَّة عدد من أراه اليوم يُعنى بهذا الشأن ويهتمُّ به اهتماماً صادقاً ويبلغ فيه من العلم مبلغاً صالحاً).

ويختم كلامه بقوله: (ورأيت في حق الدين وأجر النصيحة لجماعة المسلمين ألا أمنع ميسور ما أسيغ له من تفسير المشكل من أحاديث هذا الكتاب، وفتق مَعَانيها حسب ما تبلغه معرفتي، ويصل إليه فهمي، ليكون ذلك نصرةً لأهل الحق، وحجَّة على أهل الباطل والزيغ، فيبقى ذخيرة لغابر)

كتاب شرح الأسماء الحسنى:

وهو مخطوط، ويسمى أيضاً تفسير الأسماء والصفات، وكتاب الدعاء، ويذكر الخطابي سبب تأليف هذا الكتاب فيقول: (سألتموني إخواني عن الدعاء، وما معناه، وفائدته، ومحلُّه في الدين، وموضعه من العبادة، وما حكمه في باب الاعتقاد، وما الذي يجب أن ينوي الداعي بدعائه، وما يصحُّ أن يدعو به من الكلام مما لا يصح منه، إلى سائر ما يَتصل به من علومه وأحكامه، ويستعمل فيه من سننه وآدابه، وطلبتم أن ألخص لكم ما شكل من ألفاظ الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي جمعها إمام أهل الحديث محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى إذ كان أولى ما يدعى به ويستعمل منه ما صحَّت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه بالأسانيد الصحيحة، فإنَّ الغلط يعرض كثيراً في الأدعية التي يختارها الناس لتباين مذاهبهم في الاعتقاد والانتحال).

إلى أن يقول: (وقد فعلت من ذلك ـ أكرمكم الله ـ ما تيسَّر لي، وبلغه علمي وتوخيت الإيجاز والاختصار...).

كتاب غريب الحديث:

وقد كتب الخطابي له مُقدمة وافية بيَّن فيها فضل أئمة القرون الثلاثة الأولى على علم السنة، وأنه لما ذهب هؤلاء الأعلام، وتناقل الحديث العجم، وكثرت الرواة، وفشا اللحن، ومرنت عليه الألسن، رأى أولو البصائر والعقول أن يُعنَوا بجمع الغريب من ألفاظه، وتفسير المشكل من مَعَانيه، وأن يُدوِّنُوها في كتب تبقى على الأبد لتكون لمن بعدهم قدوة وإماماً، ومن الضلال عصمة وأماناً.

ثم ذكر أنَّ أول من سبق إلى ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام بكتابه غريب الحديث، ثم انتهج نهجه أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، فألَّف كتابه في الغريب أيضاً.

وبقيت بعدهما بقية من الأحاديث تولى الخطابي جمعها وتفسيرها في كتابه (غريب الحديث) متيمماً قصدهما، ومتبعاً نهجهما، بعد أن مضت عليه مدَّة من الزمان وهو يظن أنَّه لم يبقَ لأحد في الحديث مقال، مبتدئاً أولاً بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ثنَّى بأحاديث الصحابة وأردفها أحاديث التابعين، وألحق بها مقتطفات من الحديث لم يجد لها سنداً في الرواية، إلا أنها ـ كما يقول ـ  قد أخذت عن المقانع من  أهل العلم، والأثبات من أصحاب اللغة. وختم الكتاب بإصلاح ألفاظ من مشاهير الحديث، يرويها عوام النقلة ملحونة ومحرَّفة عن القصد.

ولم يعرض الخطابي لشيء فسَّره أبو عبيدة أو ابن قتيبة في كتابيهما، إلا أن يتَّصل حرف منه بكلام، فيذكر في ضمنه، أو يقع شيء منه في استشهاد أو نحوه، وإلا أحاديث وجد في تفسيرها لمتقدمي السلف وأهل الاعتبار أقاويل تخالف بعض مذاهبهما.

وكان غرضه الأول من هذا أن يظهر الحقَّ ويبين الصواب، لا أن يكون القصد الاعتراض على ماضٍ أو الاعتداد على باقٍ.

ويسمو الخطابي إلى ذروة التواضع وإنكار الذات فيقول: (ولعل ما نأثره منها لو بلغ أبا عبيد وصاحبه ـ يعني ابن قتيبة ـ لقالا به، وانتهيا إليه وذلك الظن بهما يرحمهما الله).

منهاجه:

كان الخطابي - رحمه الله تعالى - يورد الحديث، يتبعه بسنده، وأحياناً كثيرة يأتي بسند آخر وبرواية أخرى، ثم يُفسِّر الكلمات اللغويَّة، ويؤيد تفسيرها بحديث آخر، أو بعض حديث، أو آية قرآنية، أو بيت من الشعر أو الرَّجَز، وكثيراً ما يَستطرد، فيشرح الكلمات الغريبة في هذه الشواهد في إفاضة ومقدرة، وإذا كان في الحديث شيء من الفقه سجَّله بعد الشرح.

وكان منهجه ألا يذكر حديثاً أو شرحاً سبقه به أحد زميليه أبو عُبيد أو ابن قتيبة إلا أن يكون الحديث قد خَلا من الشرح، فيذكره ليشرحه، أو يكون هناك خلاف بين صاحبيه في معنى كلمة فيذكر قولهما، ويختار أحد الرأيين مُستدلاً بأحاديث أخرى أو شِعْر، وغالباً ما ينصر أبا عبيد ويؤيده؛ لأنَّ النصوص كانت تؤيده.

وننقل هنا من كتاب (غريب الحديث) للإمام الخطابي رحمه الله تعالى مثالاً يُشير إلى غزارة علمه، وسعة اطلاعه وحدَّة ذكائه: 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أُرِيتُ فِي المَنَامِ أَنِّي أَنْزِعُ بِدَلْوِ بَكْرَةٍ عَلَى قَلِيبٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا، أَوْ ذَنُوبَيْنِ نَزْعًا ضَعِيفًا، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ، وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ» [أخرجه البخاري ومسلم].

قد وقع هذا الحديث أولاً في كتاب أبي عبيد، وثانياً في كتاب ابن قتيبة، وفَسَّر كل واحد منهما طائفة من لفظه، ولم يَعرض واحد منهما لمعناه. 

وقد علمنا أنَّ هذا مَثَل في رؤيا أريها صلى الله عليه وسلم وإنما يُراد بالمثل تقريبُ علم الشيء وإيضاحه بذكر نظيره، وفي إغفال بيانه والذهاب عن معناه، وعن موضع التشبيه فيه إبطال فائدة المثل وإثبات التفضيل لعمر على أبي بكر، إذ قد وُصف بالقوَّة، من حيث وُصِف أبو بكر بالضعف وتلك خُطة أباها المسلمون.

والمعنى والله أعلم: أنَّه صلى الله عليه وسلم إنما أراد بهذا القول إثبات خلافتهما، والإخبار عن مدة ولايتهما، والإبانة عما جرى عليه أحوال أمته في أيامهما، فشبَّه أمر المسلمين بالقليب، وهو البئر العادية، وذلك لما يكون فيها من الماء الذي به حياة العباد وصلاح البلاد، وشبَّه الوالي عليهم والقائم بأمورهم بالنازع الذي يستقي، ويقريه للواردة، ونزع أبي بكر ذنوباً أو ذنوبين على ضعف فيه، إنما هو قصر مُدَّة خلافته، والذنوبان مثل في السنتين اللتين وليهما وأشهراً بعدهما، وانقضت أيامه في قتال أهل الردَّة واستصلاح أهل الدعوة، ولم يتفرَّغ لافتتاح الأمصار وجباية الأموال، فذلك ضعف نزعه.

وأما عمر فقد طالت أيامه، واتَّسعت ولايته، وفتحَ الله على عهده العراق، والسواد، وأرض مصر، وكثيراً من بلاد الشام، وقد غَنِم أموالها فقسمها في المسلمين، فأخصبت رحالهم، وحَسُنت بها أحوالهم، فكان جودة نزعه مثلاً لما نالوه من الخير في زمانه رضي الله عنهما، والله أعلم.

وما من كتاب أُلِّف بعد (غريب الحديث) للخطابي، يتصل بالحديث أو غريبه إلا رجع إلى هذا الكتاب، وكذلك الكتب اللغويَّة التي أُلِّفت بعده، سواء صرَّحت بذلك أم لم تُصرِّح؛ لأنَّ النقل قد يكون عن طريق غير مباشر، فمثلاً نقل ابن الأثير في (النهاية)  (2) الكثير عن الخطابي مسجلاً ذلك في كثير من المواد، و(النهاية) إحدى المصادر التي ألَّف منها ابن منظور كتابه (لسان العرب).

كما نقل البيهقي عن الخطابي في السنن الكبرى، وكان مرجعاً للزمخشري في كتابه (الفائق).

ولو تتبَّعنا كتب اللغة والحديث والفقه والأدب التي أُلِّفت بعد هذا الكتاب لوجدناها قد أفادت منه، لأنَّه حوى الكثير القيِّم من هذه المواد جميعاً.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر: (مجلة الأزهر، السنة 69 جمادى الآخرة 1417 ، الجزء السادس).

 

* اعتمدنا في إعداد هذا المقال على كتاب (غريب الحديث) وهو واحد من أهم مؤلفات الإمام أبو سليمان حمد بن محمد ابن إبراهيم الخطابي البُستي، تحقيق الدكتور عبد الكريم إبراهيم الغرباوي، من منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بكلية الشريعة جامعة أم القرى ط 1982 وهو يقع في ثلاثة أجزاء.

1 ـ جمع نشء. أي أبناء الزمان.

2 ـ النهاية في غريب الحديث.