رشيد الخطيب الموصلي
رشيد الخطيب الموصلي
(1303-1399هـ / 1886-1979م)


بقلم : مجد مكي

 

من العلماء المجهولين لدى جمهرة كبرى من المثقفين عالم من الموصل في العراق ، ومن أنصار مدرسة المنار في مصر ، وأبرز أقطابها في العراق ، وله تفسير مطبوع لا يكاد يسمع به إلا الندرة من المشتغلين بعلوم القرآن والتفسير فضلا عن غيرهم .
فمن هو هذا العالم الكبير ؟
 1) اسمه ونسبه وأسرته:
هو الشيخ رشيد الخطيب الموصلي، بن العلامة صالح الخطيب، بن الحاج طه الطائي الخطيب.
اكتسبت الأسرة لقب الخطيب من جد الشيخ الحاج طه، الذي كان مشهوراً بالخطابة.
أما والد الشيخ رشيد، فهو عالم كبير، وقد وصفه ولده حين ترجم له بأنه: «العالم النحرير والعلامة الجليل الشيخ صالح أفندي ابن الحاج طه الخطيب، درس العلوم على أوحد زمانه وفريد أوانه الشيخ عبد الله أفندي العمري(الملقب برئيس العلماء في الموصل الحدباء... وأعطاه الإجازة العالِمية، وكان عمره إذ ذاك نيِّفاً وعشرين سنة».
وكانت وفاة والد المُتَرجَم  الشيخ صالح الخطيب رحمه الله في سنة 1306 للهجرة ، الموافق لسنة 1889م .
2) ولادته ونشأته:
في ذلك البيت الذي اتخذ الشيخ صالح الخطيب جانباً منه مدرسة ومناراً للإفادة، وفي ذلك الكنف الصالح والبيئة المزدانة بحب العلم والعلماء، ولد الشيخ رشيد الخطيب ليلة الجمعة آخر جمادى الأولى سنة 1303 للهجرة، الموافقة لسنة 1886 للميلاد من أبوين صالحين كريمين، فأبوه من قد عرفنا وهو الشيخ صالح، وأمه بنت الشيخ محمد نوري العمري.
هيأ الله للشيخ رشيد كرم الغرس وطيب المنبت، وكانت نشأته صالحة برغم فقده والده ولمّا يتجاوز الثالثةَ من العمر، ولكن الغِراسَ الطيبةَ التي خلَّفها أبوه في الأهل والبلد، كانت خير عوض وبديل له في ولده، ولنستمع إلى الشيخ يحدثنا عن ولادته ودراسته ونشأته، فيقول: «كانت ولادتي سنة 1303هـ، وبعد أن درست القرآن دخلت الكتاب، فتعلمت الكتابة القراءة ، ثم قرأت مبادئ العلوم على بعض علماء الموصل، حتى إذا تذوقت طعم العلم، لازمت تدريس الأستاذ الشيخ محمد الرضواني (1357)، الذي يغني اسمه عن وصفه، ولم أزل أدرس عليه العلوم المقررة في المدارس الأهلية حتى أكملت المنهج المعروف للعالِمية، وأخذت منه الإجازة العالمية، وكان ذلك سنة 1329هجرية فقد قرأت عليه العلوم العربية، النحو والصرف والبلاغة، ثم قرأت عليه المنطق والكلام وأصول الفقه والحديث والفرائض».
 
3) ثقافته وشيوخه وطائفة من تلاميذه:
أ) ثقافته وشيوخه:
كان الشيخ رشيد أثناء دراسته على الشيخ محمد الرضواني يختلف إلى الأستاذ أمجد (بك) العمري، فيدرس عليه شيئاً من مبادئ الحساب والجبر والهندسة والفلك. يقول: «فأخذت ما ينفعني في حياتي العالمية، وما لابد منه لمثلي ممن يحاول التجدد والتجديد في هذا المسلك».
وهذا المنهج الدراسي الذي انتهجه الشيخ، يدل على روح تنزع منذ وقت مبكر إلى التجديد وتتطلع إلى التغيير نحو ما هو أفضل، وعدم الرضا بأساليب ومناهج الدراسة القديمة. ويبدو أن لهذا أثراً بتعلقه وافتتانه بالكتابات الجديدة الوافدة من مصر، التي كانت سباقة إلى الاتصال بالحضارة الغربية، بالإفادة منها، ويبدو من كلامه أنه عمد إلى تجديد ثقافته منذ بداية العشرينيات -حيث بداية الحكم الوطني- بألوان من الثقافة. ولذلك نراه يقول: «وبعد أن تشكلت الحكومة العربية العراقية، وردت علينا الكتب المصرية بسائر أنواعها فاطلعت على ما لم أكن أعرفه من قبل، ولم يدر بخلدي وجود مثله من الكتب الجديدة المؤلفة في أنواع العلوم، ومن ضمنها الكتب التجديدية والانتقادية والاجتماعية وكتب الأدب، فهمت بها أشد هيام، وأخذت أبحث عن هذه الكتب التي كنت أراها غريبة في بابها، بأساليبها ومواضيعها وفوائدها وترتيبها، إذ لم نكن نعرف مثل ذلك من قبل. وكانت لذتي بمطالعة الكتب لا يشابهها لذة».
على أن الشيخ كان واعياً في اختيار ما يقرأ، يتخيّر منه ما يلائم عقيدته وقيمه، ويقول: «فإذا بلغني أن قد أتى كتاب جديد من نوع هذه الكتب، لا ألبث أن أتصفحه كله حتى آتي على آخره، وأعي ما فيه من الفوائد الجديدة المقتبسة من المدنية الجديدة -إن كانت تلائم البيئة والمبدأ والدين- وقد كثرت لدينا أمثال تلك الكتب في هذا العهد، أو من الكتب المحورة عن الكتب القديمة التي أعرفها من قبل، ولكنها قد حورت إلى صورة تناسب العصر الحاضر والروح الجديدة».
غير أنه وجد بغيته بين هذه الكتب فيما أنتجته (مدرسة الإصلاح)، إذ التقت تطلعاته أهدافَهم ومراميهم، في الحفاظ على الموروث من علومنا، والإفادة مما أنتجته الحضارة الغربية الحديثة، بوعي لا عشوائية، والتوفيق بين هذا وذاك، فيقول: «وأكثر ما كنت أرغب فيه كتب علماء الإصلاح كالأستاذ جمال الدين الأفغاني على قلتها، والأستاذ الإمام محمد عبده، وما إلى ذلك من كتب علماء التجديد والإصلاح، حتى استفدت من ذلك علماً نافعاً، وعلواً في المدارك، ونظراً صحيحاً في الملاحظات العلمية والإصلاحية، أياً كانت والحمد لله على ذلك. ومما لا شك فيه أنَّ الانتباه ورقيَّ المدارك إنما يكون بالمطالعات المتواصلة لمثل هذه الكتب القيمة».
ثم يكشف الشيخ رشيد عن مصدر آخر مهم من مصادر ثراء ثقافته وتكوين شخصيته العلمية، وهو مهنة التدريس فيقول: «ثم إني دخلت سلك التدريس في المدرسة الثانوية، وكنت أُدرِّس فيها الآداب العربية للصف المنتهي ، قضيت في ذلك نيفا وعشرين سنة ، لم تكن سلوتي إلا رضاء التلاميذ عني ورغبتهم في درسي ، لأنهم يستفيدون منه فائدة جلى لا ينسونها لي بعد إنهائهم دور الدراسة ودخولهم معترك الحياة ".
هذه هي روافد ثقافة الشيخ رشيد، نشأة صالحة، وإقبال على العلم مبكر، وشيوخ مرموقون، وعقلية نيِّرة متفتحة، ومداومة على البحث والتنقير في كل ما هو مفيد وجديد. هذه الميزات، مع قدر كبير من الإخلاص والتحمس، كونت شخصية الشيخ رشيد، الذي خلّد تفسيراً للقرآن المجيد، وعدداً كبيراً من المصنفات في العلوم الشرعية وغيرها.
ب) أشهر تلاميذه:
للشيخ رشيد تلاميذ كثيرون، فقد أمضى عمراً مديداً قارب المائة في تحصيل العلم ونشره، وهو لا يجد سلوته إلا في العلم والتعليم، ونشر العلوم المختلفة بين المسلمين، لأنها -كما أدرك ذلك- السبيل إلى الإيمان الصحيح والحياة الكريمة، وسأكتفي بذكر أشهر هؤلاء التلاميذ، وخاصة من طالت صحبته وتلمذته له، دون من أخذ منه النزر اليسير.
1- الشيخ إبراهيم النعمة: المولود عام 1943 ، وهو من أسرة (آل النعمة) المعروفة بالعلم والفضل. درس على الشيخ رشيد لمدة خمس سنوات ، وحقق رسالة شيخه في أصول الفقه .
2- الشيخ ذنون البدراني: عالم فاضل، قرأ على الشيخ رشيد تفسيره مرتين، فأجازه، وأعطاه إجازة العالِمية. وكان الشيخ رشيد راضياً عن اتجاهه في التفسير، وقد توقع له النبوغ والتفوق في هذا الميدان( ). وكان يلقي دروسه في التفسير والفقه وغيرهما في جامع الخلفاء الراشدين، المعروف بجامع سوق الحنطة، إلى أن توفي رحمه الله حوالي عام 1995.
3- إسماعيل مصطفى الكتبي: ولد سنة 1902، قرأ على الشيخ رشيد تفسيره مرتين، درس عليه علوم البلاغة والمنطق والفقه على المذاهب الأربعة، وأصول الفقه والفرائض وشيئاً من علم الفلك، ثم أخذ عنه إجازة العالمية بتاريخ 28/ صفر/ 1377هـ، توفي رحمه الله سنة 1966م.
4- صالح عارف البامرني: التحق بدروس الشيخ رشيد الخطيب وحصل منه على إجازة العالمية، توفي  1988رحمه الله .
5- شمس الدين عبد العزيز سيد حاتم: ولد سنة 1931 حفظه الله .
6- يونس شيت ميرزا: ولد عام 1937، درس على الشيخ رشيد الخطيب بصورة متقطعة، ما مجموعهُ نحو سنتين فأخذ عنه التفسير والبلاغة.
7- الشيخ ذنون يونس الغزال: ولد عام 1934، لازم الشيخ رشيد من سنة 1961 ودرس عليه العلوم الشرعية والعربية في بيته. ، ثم سافر إلى مصر عام 1966 للدراسة في الأزهر ولم ينقطع عن شيخه، إذ كان يلازمه أثناء الإجازات، وفي عام 1968 منحه الإجازة العالِمية، كما حصل بعد ذلك على إجازة الليسانس من الأزهر كلية أصول الدين. وكان برغم كف بصره دؤوباً على العلم .
4) آثـاره:
ترك الشيخ رشيد عدداً من المؤلفات المتنوعة المادة والموضوع في التفسير والحديث واللغة والأدب والفقه والكلام،وأهمها تفسيره المسمى :(أولى ما قيل في آيات التنزيل).
وهو أهم وأوسع مؤلفاته، ومحط فخره واعتزازه، وموطن عنايته، قرأه عليه غير واحد من تلامذته مرة أو مرتين، وكان قد كتبه أوّلاً غير متواصل الآيات، ثم كتبه متواصلاً كاملاً، ثم راجعه للمرة الرابعة معتنياً في تنقيحه وتهذيبه وأدخل عليه كثيراً من الإصلاح. ثم شرع به للمرة الخامسة في 29/ أيار/ 1944م، وأكمله في 21/ آذار/ 1946م، وقد تم طبعه سنة 1971م في مطبعة جامعة الموصل.
والتفسير في تسعة أجزاء، ومقدمة سابغة فريدة طبعت مستقلة، تكلم فيها على خصائص القرآن وأساليبه وتراكيبه، كما أوضح فيها كثيراً من المسائل المهمة في كتاب الله، زيادةً عما في هذه المقدمة من شرح وافٍ لمنهجه في تفسيره، وقد اعتمد عليها حين شرع بتفسير الآي، فكان يحيل عليها عند تفسيره لكثير من الآيات مكتفياً بتلك الإحالات. تبلغ صفحات التفسير مع المقدمة (2433) صفحة من القطع المتوسط، ولم يكن الشيخ راضياً عن تلك الطبعة لكثرة أخطائها ، وعدم العناية بترقيمها ، برغم حرصه على خروجها للناس بأفضل صورة، إذ قعد به المرض والشيخوخة عن متابعتها بنفسه ممّا عرضها لأخطاء مطبعية وفنية كثيرة، وهذا ما حمل الشيخ على وضع شروط أوصى بالأخذ بها عند الطبع الثاني للتفسير، وخاصة تنقيته من تلك الأغلاط المطبعية، ومراعاة مستلزمات الإخراج الجيد .
وأقوم الآن بمراجعة نسخة المؤلف رحمه الله ، وفيها تصحيحات كثيرة وزيادات عديدة ، وقد قمت بخدمته وتصحيحه والتعليق عليه ، وسيصدر قريبا في حلة قشيبة وعناية مميزة بعون الله وتوفيقه .
وللأخ الكريم الدكتور خالد حماش الحلبي رسالة ماجستير عن منهج الشيخ رشيد في تفسيره . وفي التمهيد لرسالته  ترجمة موسعة عن الشيخ استفدت منها في التعريف بهذا العالم الجليل .
5) وفاتـه:
أمضى الشيخ رشيد حياة حافلة بالعلم والتعليم والتأليف، وكان يتمتع بأخلاق سامية تليق بعلمه ونسبه وفضله، فلم يؤثر عنه إلا ما هو طيب حسن، فقد أنفق دنياه في سبيل دينه، وعاش مجاهداً الجهل والبدع والتقاليد المخالفة للدين. وقد جعل من بيته مدرسة لتدريس العلم، لا يردّ أحداً يطلبه، فكان ينهض كل يوم مبكراً لصلاة الفجر ثم يبدأ بالتدريس حتى صلاة الظهر، وبقي هذا دأبه -وهو دأب العلماء القدامى- حتى بلغ من الكبر عتيا، فأقعدته الشيخوخة والمرض عن مواصلة التدريس، فانتقل إلى بيت إحدى بناته الأربع، إذ لم يبق له من أولاده إلا هنّ، أما أولاده الآخرون من الذكور والإناث فقد توفوا جميعاً وهم صغار.
أمضى الشيخ في بيت ابنته عدة سنوات، لم ينقطع خلالها عن القراءة والمطالعة والدرس والتمحيص فكان في ذلك له سلوة، وراحة.
وكان حريصاً كل الحرص على أن يبقى له عقله نيِّراً واعياً إلى آخر لحظة من عمره، وله في ذلك رأي وهو: «أن من تعهد عقله بالقراءة والدرس والمراجعة لم يفقده، ولم يلحقه الخرف الذي يلحق كثيراً من المعمرين»
انتقل إلى جوار ربه في عصر يوم 19/11/1979 عن عمر قارب المائة.
وخسرت الموصل بفقده عالمها الجليل،  كما خسره العراق ،رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.