العلامة محمد عوامة

اسمه ونسبه:

هو أبو الفضل محمد بن محمد بن عبد القادر بن عمر بن علي عوامة. وأمه هي السيدة عائشة بنت أحمد بن علي آل سراج الدين الحسينية.

ولادته:

ولد يوم١٤\١٢\١٣٥٨ هـ الموافق لـ٢٥\٠١\١٩٤٠م، في مدينة حلب الشهباء في حي باب المقام أحد أحياء حلب الشهيرة وأبوابها العريقة.

أسرته:

تتألف أسرته من زوجة واحدة وستة أبناء.

نشأته وطلبه للعلم:

نشأ في بيئة علمية بفكرها، تقية وصالحة بأخلاقها، متواضعة بتعاملها، بسيطة بحالها، لها قوت يومها، ولكنها كبيرةٌ معنىً بحيِّها، ذاتُ مكـانة عالية بمجتمعها، لما عُرف عن والده رحمه الله تعالى من دماثة أخلاق، وحسن معشر، وسياسة وبُعد نظر، مع علم وصلاح وتقىً، فقد كان رحمه الله جليس الكبار من الشيوخ والساسة. وكان أول من التزمه زميل والده وإمام مسجد الطواشي فضيلة الشيخ الفقيه الورع محمد السلقيني رحمه الله تعالى، فكان من أوائل من أثر في الشيخ تأثيرًا كبيرًا في خلقه المتواضع بل ونكران الذات وزهده وعفته مع التقوى والخشية والرجاء والخوف، فكانت أفعال الشيخ محمد السلقيني رحمه الله أمام هذا الطفل الناشئ تربية عملية وتنشئة روحية من شيخ جليل لطفل صغير يلاحظه بعين الرعاية والتعليم والتربية والتكريم، فهو أول مشايخه.

بدأ بطلب العلوم الشرعية على الطريقة المشيخية السائدة آنذاك التي لم تكن مرتبطة بتعليم أكاديمي أو رسمي، ذات الهيئة الخاصة في أدب التلقي وطريقته وطريقة الشرح واعتماد الأصول من الكتب. ثم التحق بعدها بجامعة دمشق فاكتسب العلم الأكاديمي المنهجي، فأخذ ما فيه من خير فلقح به علمه الأصيل فجمع بين رسوخ ماضيه وتطور حاضره.

طلبه للعلم على الطريقة المشيخية:

والمقصود بالطريقة المشيخية: ما كان عليه العلماء السابقون من دروس خاصة لطلبة خاصين يلتفون حول شيوخهم جاثين على الركب، كأنما على رؤوسهم الطير، يتعلمون أدب العلم قبل العلم، والتعامل مع الشيخ والكتاب قبل قراءة الكتاب، فيقرؤون كتب أئمتنا الأصيلة: قراءة تمحيص وتحليل، لا تمتد أيديهم إلى مذكرات عصرية، مختزلة اختزالاً، أو ممسوخة مسخاً، فيشامُّون أئمتهم مع مشايخهم، فَتَعلُوا

نفوسُهم، وترتقي أرواحهم، وينتقل إليهم هذا العلم ممزوجاً بالروح والأبوة، فيجد مكانه سهلاً في نفوس طلبته، ولهذا نجد جلَّ أهل هذه الطبقة يحفظون كلام مشايخهم حفظاً، ويذكرونه حرفاً، ويعرف هذا كل من جرَّب، ومن ذاق عرف.

طلبه للعلم الرسمي (الأكاديمي):

بعد إنهائه للمرحلة الابتدائية عام 1952م التحق بالمدرسة الشعبانية بتوصية من شيخه الشيخ محمد السلقيني رحمه الله، وقد كانت هذه المدرسة إحدى المدارس الشرعية من الآثار العثمانية في حلب، وكانت محـافظة على برنامجها العلمي بطريقته القديمة الأصيلة، ولكنها لم تكن تابعة لوزارة الدولة في مقرراتها وإدارتها، وعندما وصل الشيخ إلى الصف الخامس فيها وهو ما يعادل الصف الحادي عشر أو الثاني الثانوي رأت الدولة تعليق التدريس في الشعبانية وضمها إلى المدرسة الثانوية الشرعية العريقة المعروفة بالخسروية وقد ضمت إلى وزارة المعارف واعترفت الدولة بشهادتها، والتي تخرج منها عدد كبير من كبار العلماء، وقد قال عنها الشيخ العلامة محمد الحامد: إنها تعدل الأزهر في تبحر علومها. فالتحق الشيخ بها وتخرج منها عام 1962م.

بعد تخرجه من الثانوية الشرعية التحق بكلية الشريعة بجامعة دمشق عام 1962م وتخرج منها عام 1976م، ولم تكن دراسته فيها التزاما وإنما انتسابا يداوم فيها مدة قليلة ويعود لبلده حلب حيث اختاره شيخه الخاص الشيخ عبد الله سراج الدين مدراس في مدرسته الشعبانية وهو في الثانية والعشرين من عمره فكان يدرُس ويُدرِّس، وكان هذا من أهم أسباب قوته ونبوغه.

وهنا انتهت دراسته الأكاديمية فلم يتابع مرحلة الدراسات العليا، وكان هذا يرجع إلى سببين: أولاهما: لم تكن الدراسات العليا هيم المهمة والأساسية آنذاك بل كان مجرد العلم والإجازة من الشيوخ معترفا به ومقدرا، كحال شيخيه الخصوصيين: فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين، وفضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمهما الله تعالى. وثانيهما: تفرغه الشديد بل وتفانيه في خدمة شيخه الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله في مدرسته الشعبانية حيث كان يعيش لها وبها وفيها وإليها، وقد يكون هذا السبب الرئيس الأول.

من أهم شيوخه:

الشيخ العلامة محمد عوامة حفظه الله - جامع السلطان حسن بمصر

من مشايخه الذين تلقى عنهم العلم في المدرسة الشعبانية

الشيخ العلامة محمد عوامة حفظه الله - جامع السلطان حسن بمصر

محمد زين العابدين جذبة، قرأ عليه: الحديث والتوحيد.

محمد الحماد، قرأ عليه: الحديث.

طاهر خير الله، قرأ عليه: التفسير والخطابة.

عبد الله سراج الدين ، قرأ عليه: مصطلح الحديث، والفقه الحنفي.

عبد الله خير الله، قرأ عليه: الفقه الحنفي.

بكري رجب ، قرأ عليه: الفقه الحنفي، والعروض.

محمد المعدِّل، قرأ عليه: النحو.

سامي بصمه جي، قرأ عليه: الفرائض والنحو.

أمين الله عيروض، قرأ عليه: المنطق وأصول الفقه.

أحمد أبو صالح، قرأ عليه: التوحيد.

عبد الفتاح حميدة الناصر، قرأ عليه: التاريخ الإسلامي.

عبد الرحمن زين العابدين، قرأ عليه: النحو.

أديب حسون، قرأ عليه: الأخلاق.

نجيب خياطة، قرأ عليه: الفرائض، والتجويد.

محمد مهدي الكردي، قرأ عليه: الفقه الحنفي.

مصطفى مزراب، قرأ عليه: الفقه الحنفي وأصول الفقه.

وكان من مشايخه الذين تلقى عنهم في الثانوية الشرعية (الخسروية)

عبد الوهاب سكر، قرأ عليه: السيرة النبوية.

أبو الخير زين العابدين، قرأ عليه: التوحيد، وعلوم القرآن، والتفسير.

محمد الملاح، قرأ عليه: البلاغة، وتاريخ التشريع.

محمد السلقيني، قرأ عليه: الفقه الحنفي وأصول الفقه.

عبد الله سراج الدين، قرأ عليه: الحديث ومصطلح الحديث والتفسير.

عبد الرحمن زين العابدين، قرأ عليه: النحو.

نجيب خياطة، قرأ عليه: التجويد والقرآن الكريم.

عمر يحيى، قرأ عليه: الأدب العربي.

ضياء الدين صابوني، قرأ عليه: الأدب العربي.

واستمرارا له الطريقة وترسيخا لها في نفسه ونفوس بعض النبغاء من زملائه، ما قام به فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين، بالتشاور مع زميله وشقيقه الروحي، فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمهما الله تعالى، حيث رأيا أن المدرسة الشعبانية القديمة أُغلقت، وأُخذ الطلبة إلى الثانوية الشرعية الحكومية، فبَعُد الطلبة عن طريقة العلماء القدامى، من الدرس والكتاب، والمادة والمنهج، فاختاروا عشرة من نوابغ طلابهم، وهيئوا لهم كبار أساتذتهم من كل التخصصات، واختاروا لهم جامع الحموي مكانا، وبين العصر والمغرب زمانا لهذه الدروس.

الشيخ العلامة محمد عوامة - منزل الإمام اللكنوي ـ لكنو ـ الهند

أما الأساتذة الذين تم اختيارهم:

فضيلة الشيخ محمد أبو الخير زين العابدين، يدرس مادة التفسير، كتاب «تفسير البيضاوي»، يوم السبت.

فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين، يدرس مادة الحديث، كتاب «فيض القدير»، يوم الأحد.

فضيلة الشيخ محمد السلقيني، يدرس مادة الفقه الحنفي، كتاب «الاختيار»، يوم الاثنين.

فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، يدرس مادة الأصول، كتاب «نسمات الأسحار»، يوم الثلاثاء.

فضيلة الشيخ أحمد القلاش، يدرس مادة النحو، كتاب «أوضح المسالك»، يوم الأربعاء.

فضيلة الشيخ محمد السلقيني، يدرس مادة الفقه الحنفي، كتاب «الاختيار»، يوم الخميس.

وقد استمرت هذه الدروس الخاصة: سنة دراسية كاملة، كانت هي النواة الأولى لتأسيس فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله:

جمعية التعليم الشرعي، ثم مدرسة التعليم الشرعي، أو ما عُرف باسم: المدرسة الشعبانية.

وكان ممن درّسه في جامعة دمشق:

الأستاذ محمد المبارك، والأستاذ مازن المبارك، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والدكتور أمين مصري، وغيرهم رحمهم الله. ومن المشايخ الشباب آنذاك: الدكتور محمد أديب صالح، والدكتور فوزي فيض الله، والدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور فتحي الدريني، رحمهم الله تعالى جميعا.

نبوغه وأسبابه:

لقد هيأ الله تعالى لنبوغ الشيخ أسبابا وظروفا متعددة النواحي متشعبة الاتجاهات:

الظروف العائلية:

لعب تقدير الوالدين وحبهما للعلم وأهله دورا كبيرا في نبوغ الشيخ، فقد لاحظ والده رحمه الله نجابة هذا الابن وحرصه على العلم والتعلم، ففرغه من التكسب والعمل ولم يستعن به في مهنته بل وهبه للعلم الشرعي تماماً، صيفًا وشتاءً. وأما والدته فقد كانت ترى ضيق ذات اليد في زوجها وحاجته إلى ابنها ليساعده في عمله ورزقه، فتعلمت الحياكة وعملت بها في بيتها تجاهد في وتربية أبنائها، وفي مهنتها لتصرف هي على ولدها التي رأت في علامة النبوغ والنجـابة، فأنجبته مرتين مرة حين ولادته، ومرة حين تكفله. فكان تفرغه عن أسرته وتفرغ أسرته عنه سببا من أهم أسباب نبوغه في طلب العلم.

ظروف التلقي والتدرج:

قرأ العلوم الشرعية قراءة مشيخية، تلقاها عن أهلها، متدرجة في لكها، الأول فالأول، فشامَّ أكابرها، واستنشق عبق أصول كتبها، فهان عليه صعبها، وذلَّ له عسيرها، فرقى وارتقى، وعلا واستعلى، وكم وكم كان يؤكد على أهمية التلقي والتدرج، وأنَّ بانعدامها: انعدام حقيقة العلم والعلماء، وخروج الضُّلال والشذاذ، ويضرب الأمثلة بمن يعرف من الأشخاص، وهذا ما يريده منا الأعداء.

الظروف الذاتية:

لقد أمد الله الشيخ بأسباب حسية وهيأ له ظروفا ذاتية وهيبة ساعدته على التقدم في العلم وسرعة التحصيل، مع الفهم والتعمق، والنقد والتحقيق:

أ ـ ذاكرته العجيبة: لقد حباه الله ذاكرة عجيبة وحافظة خارقة فريدة، يعرفها فيه كل من جالسه، ويبهر بها كل من تتلمذ عليه وخالطه، فتراه يكثر في مجالسه العامة من قصص السلف وأخبارهم التي قرأها لمرة واحدة قبل خمسين أو ستين سنة، وإذا راجعتها وجدتها كما ذكرها، وقد سُمع مرات ومرات يقول: «أنا أحفظ ألفاظ مشايخي»، وخاصة الشيخين الجليلين: عبد الله سراج الدين، وعبد الفتاح أبو غدة رحمهما الله، فإنه كان قد تشبع بمحبته لهما وسرت محبتهم في عروقه ودمه. وكذلك حفظه المدهش لتواريخ وفيات الأئمة، فيكاد لا يذكر إماما من الأئمة إلا ويعرف تاريخ وفاته إن لم يكن وتاريخ ميلاده أيضا.

يذكر ولده الشيخ محي الدين عنه في كتابه «صفحات مضيئة»: أذكر أني سمعت: أنه لما كان في سنة التخرج من جامعة دمشق، وكان موعد اختبار مادة القرآن الكريم عند فضيلة الشيخ الدكتور محمد أديب الصالح، متعه الله بتمام الصحة والعافية، وكان الاختبار شفوياً، يشمل التسميع مع بعض المعلومات حول التفسير والمفسرين، فكان بجانب الوالد أحد زملائه من حلب يختبران من فضيلة الشيخ أديب الصالح، فلما كان وقت إجـابة الوالد، كان يجاوب مع ذكر وفيات الأئمة، فلما أكثر ظن الشيخ حفظه الله تعالى أن الوالد يخبئ ورقة فيها تواريخ وفيات الأئمة، فصار يفتش وينظر، فقال له زميل الوالد: إن هذا أمر معروف ومشهور عن سيدي الوالد، فتعجب الشيخ جداً وشجّعه.

ب ـ النهم بالقراءة: كان نهمًا بالقراءة، عاشقا لها يكثر القراءة وخاصة أيام الطلب والشباب، يقرأ الكتاب كاملا ويقيد ما فيه من فوائد على غلافه فعل هذا بمعظم كتبه التي تعد بالآلاف، لسهولة الرجوع إليها عند الحاجة، ولهذا نجده قال عن بعض كتبـه: «لا أبيعها بملك الدنيا»، وقال أخرى: «هي أغلى عندي من روح»، ومن هذه الكتب، نسخته الخاصة من «التاريخ الكبير» للإمام البخاري، و«الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم، و«فتح الباري»، و«الإصابة» كلاهما للحافظ ابن حجر، فإن هذه الكتب مليئة مكتظة بالفوائد والنوادر، والتصحيحات، والتعليقات، وغيرها الكثير الكثير.

جـ ـ القراءة مع الفهم: فقد كان إذا قرأ شيئا في كتاب وأشكل عليه فهمه رجع إلى مشايخه وسألهم عن ذلك، ومن أمثلة ذلك ما ذكره في كتابه «معالم إرشادية» من قصة سبب إخراج علماء سمرقند للإمام البخاري، وعندها قال له فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين: «لا تصدق كلَّ ما تَقرأ»، فقال معلقاً عليها: «فكانت لي درساً عظيماً، ومنهجاً قوياً قويماً، لا يقُدر قدره».

ثم إنَّ كثرةَ ما علَّق ونبَّه على أغلفة الكتب والمجلدات: لهو أدلُّ دليل على ما ذكرت من قراءة الفهم والتعمق والتيقظ، فمن يرى كثرة ما كُتب على كثرة ما قُرِئ، يدرك تمام الإدراك أن هذه طاقة لها مدد خاص، وملاحظة خاصة، وعناية خاصة، وخاصة عندما يرشدك إلى فائدة في كتاب قديم، أكلتها السنون، وتعاقبت عليها الأعوام والأعمار، ويقول لك: «ابحث عنها على الغلاف، فأنا كتبتها من كذا وكذا». ويذكر ولده في كتابه «صفحات مشرقة»: ويحصل أحيانا أني أذهب لأرى ما دلني عليه فلا أجد، فأراجعه وأقول: بحثت فلم أجد، فلا يوافقني لتأكده وتيقنه، ويطلب مني إحضار الكتاب، فأحضره، فنراها بين أسطر فوائد الغلاف، مكتوبة بقلم رصاص، كادت تمحوها الأيام، وتغيرها الأعوام، فأعجب وأتعجب.

د ـ الحرقة على طلب العلم: فقد كان أكثر ما يتخوف على الشباب منه هو البعد عن العلم وطلبه لأجل الدنيا ولقمة العيش، وكان يقول: «يا بني، لو تسفون التراب سفا لا تتركوا طلب العلم».

هـ ـ اغتنامه للوقت: وهذا دأبه ودأب مشايخه من قبله الذين أثَّروا بحياته، وتكوين شخصيته، وممن يضرب المثل به في حرصه على الوقت جداً فضيلة العلامة الشيخ أحمد القلاش رحمه الله تعالى، الذي قال مرة: «أنا لا آسفُ على ساعة من عمري»، وهذه منزلة ما بعدها منزلة.

وناهيك بشيخه الأجل العامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى، وهو صاحب «قيمة الزمن عند العلماء»، فكيف تكون قيمة الوقت عنده!، ينقل الشيخ محي الدين في كتابه «صفحات مضيئة»: ومرة كان سيدي الوالد مع مولانا الشيخ عبد الفتاح في بيت الله العتيق، وأراد مولانا الشيخ الانصراف، فودَّع الوالد، ثم انتبه الشيخ أن الوالد سيبقى هكذا بدون شيخه ولا معه كتاب، فعاتبه وقال له ـ بالعامية ـ : «أين الكتاب يا شيخ محمد؟!» فاعتذر الوالد من الشيخ رحمه الله، وأجزل له المثوبة على حسن الملاحظة والتربية، مع أن سيدي الوالد قال لي معقباً: «أنا لا أغفل عن هذا إن شاء الله، ولكن بقي عليَّ وردٌ لم أستطع قراءته لجلوسي مع الشيخ رحمه الله، فأنـا أرغب بقراءته أمام الكعبة المطهرة»، فلهذا بقي الوالد في الحرم، فاعجب من الشيخ وملاحظته وتربيته، أو اعجب من التلميذ وحرصه واستغلاله.

كان قد كتب ورقة صغيرة وضعها على باب مكتبه، يعتذر فيها عن استقبال المحبين، الذين يرتادون مكتبه ليغرفوا من علمه ونصحه، وأدبه وعقله، ولكن رأى أن الواجبات عليه أكثر من الأوقات، والمسؤوليات أغلى من المجاملات، فكتب: «نعتذر، العمر هو الوقت».

الظروف المحيطة به:

للظروف المحيطة بطالب العلم دور كبير وهام في إنجاحه ورفعته، كتوفر الكتب ووجود الأصدقاء وتهيؤ المكان المناسب وغير ذلك.

أ ـ ملاحظة مشايخه له: فقد كانوا له كالأب الرحيم والأستاذ الملاحظ العطوف، يتابعونه منذ الأيام الأولى التي لا حظوا فيها نجابته كي لا يستغله أهل الأهواء ولا يستدرجه أرباب الانتماء، فكان تحت رعاية الشيخ عبد الله سراج الدين في يرافقه مدرسته وبعد المدرسة يرافقه ماشيا إلى بيته، وهو في رفقة الشيخ محمد السلقيني في حيه، وقد كان مرسال تبليغ السلام بين هذين الشيخين، وبهذا كان يلاحظهم ويلاحظونه، يحفظ حركاتهم ووقفاتهم وطريقتهم في الكلام والتعامل مع الكتب، يرشدونه ويعلمونه، حتى أن الشيخ عبد الله سراج الدين كان يراقبه مع من يمشي فيوافقه على فلان ويحذره من فلان، وهذا من أهم مهام الأستاذ المربي.

ب ـ الأصدقاء: اختبار الأصدقاء أمر مهم جدا لطالب العلم وخاصة في مرحلة الطلب، فقد يضيع جهد الأساتذة سدى إن لم يوفق تلامذتهم بأصدقاء جيدين يعينوهم على البناء. متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم. ولقد أكرم الله الشيخ محمد عوامة بثلة من الأصدقاء الذين كانوا خير عون له، وكان خير عون لهم، شد كل منهم أزر أخيه، وأنار دربه واستنار به، شجعوا بعضهم وتنافسوا تنافس الشرفاء، وتباروا تباري النجباء. وإن خير ما يذكر في ذلك صديقه القديم، العلامة الفقيه الشيخ عبد الستار أبو غدة رحمه الله تعالى حيث كانا توأم روحين، فاستفاد كل منهما من صاحبه، تغذيا العلم سويًّا، واستنشقا الروح معا. ومن ثلة الأصدقاء: الشيخ زهير الناصر، والشيخ عبد المجيد قطان، والدكتور أبو الفتح البيانوني، والشيخ محمد عثمان جمال، وغيرهما الكثير، رحم الله من انتقل وحفظ الله الباقي.

جـ ـ غرفة السيًّافيًّة: السيافية هو اسم لمسجد قريب من المدرسة الشعبانية يحتوي على مصلى وست غرف تعطى لطلاب العلم للتفرغ فيها والمذاكرة، وكان للشيخ محمد عوامة حفظه الله غرفة يشاركه فيها أخوه الحميم، الشيخ عبد الستار أبو غدة رحمه الله، من عام 1377هـ إلى عام 1385هـ.

ولهذه الغرفة ذكريات جميلة ومكانة عالية في نفس الشيخ، فعلى الرغم من بساطتها وصغرها فهي بمثابة المنتدى العلمي والأدبي لهما ولزملائهما الذين يرتادون إليهما دوما، بل وبعض شيوخهما الذين يلاحظونهما، فتراه يحن لأيامها ويترنم بلحظاتهاـ ويتحسر على فواتها، ففيها الدروس والمذاكرة والاستزادة والمنافسة، تنام فيها مع الكتب وتصحو مع العلم، وسط بساطة من المعيشة وزهد في البيئة، وفراغ بال، وهدوء خاطر.

د ـ مكتبة الشيخ باسم عجم: إن توفر الكتب العلمية بين يدي طالب العلم أمر مهم مما يحتاجه طالب العلم لنجاحه وفلاحه، ولقد كان الشيخ باسم عجم زميلا للشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمهما الله، ولقد كان محبا للكتب، جمّاعًا لها، فاتحا بابها لمن يأمن من الأساتذة والطلبة، وقد وضعها في السيَّافيَّة تحت إشراف زميله الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، الذي فوض ابن أخيه الشيخ عبد الستار في الاستفادة منها فبهذا توفر للشيخ محمد عوامة حفظه الله الاستفادة من هذه المكتبة أيما استفادة.

هـ ـ تشجيع مشايخه له: من أمثلة ذلك من حياة الشيخ حفظه الله أنه كان يتدارس التفسير مع أصحابه ومحبيه، وكان الحديث حول قوله تعالى: (ولعلكم تهتدون* كما أرسلنا فيكم رسولاً) وبحث الشيخ عن تفسير حرف الكاف في قوله: (كما) فلم يجد جوابا شافيا، ثم رأى أنه ينطبق عليها معنى وإعراب كاف المبادرة، ولم عرض الأمر على الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله سُرَّ لذلك الفهم جدا وأرسل له في اليوم التالي مكافأة على ذلك.

و ـ محبته لشيوخه: إن محبة الشيخ محمد عوامة لشيوخه كلهم، وخاصة منهم شيخيه الجليلين، والعَلَمين الشهيرين: فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين الذي صاحبه خمسين سنة، وفضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، الذي صاحبه أربعين سنة، جعلته يقتدي بهم علماً وعملاً، سيراً وسلوكاً، طريقة ومنهجاً، وكلنا سمع منه مراراً وتكراراً قوله: أنا أحفظ ألفاظ مشايخي، وما هذا إلا لحبه لهم، بل تضلعه هذا الحب في جسده وأحشائه.

يذكر ولده في كتابه «صفحات مضيئة»: وأذكر مرة أنَّا كنا في مجلس شيخنا الداعية الكبير الشيخ محمد عوض رحمه الله تعالى، وكانت الأيام أيام حج، تضم عدداً من مشايخ بلاد الشام، فتكلم الوالد بكلام علمي روحي، أخذ قلوب الحاضرين، وشدَّ انتباه الجالسين، فقال أحد المشايخ الحضور وهو لا يعرف أن الوالد التلميذ الخاص لفضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين، قال: هذه الروح روح الشيخ عبد الله تتكلم، فقالوا له: إن الشيخ الوالد أخص تلامذة الشيخ عبد الله، فقال ذاك الشيخ الشامي: الآن عرفت السر.

ز ـ خدمته لشيخيه علميًّا: فقد وقف الشيخ محمد نفسه لشيخيه الجليلين: فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين، وفضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمهما الله تعالى، وقف نفسه على خدمتهما خدمة علمية خاصة، فاستفاد منهما استفادة بالغة، لا يقدر قدرها، ولا يحدُّ حدها، درسا وتدريسًا، وتأليفا وتحقيقاً، ومقابلة ونسخاً، حتى طباعة وذوقاً، فهو خرِّيجهما، وجامع خيرهما. وإليكم بعض النماذج عن ذلك:

فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين:

أكرم الله عز وجل الشيخ محمد عوامة بخدمة شيخه الأول الشيخ عبد الله سراج الدين من جهتين اثنتين: جهة خدمته بالمدرسة الشعبانية خدمة كاملة، وجهة خدمته بكتبه التي طبعها.

خدمته بالمدرسة الشعبانية: فقد تفرغ الشيخ محمد ونذر نفسه لهذه المدرسة ـ حتى كادت تعلو على بيته ـ فكان يأتيها صباحاً للتدريس والتوجيه، ويعود إلى بيته ظهراً، ثم يرجع إليها عصراً لحصص المذاكرة والمطالعة مع الطلبة، ويعود إليها ثالثة بعد العشاء لملاحظة الطلبة الذين يبيتون داخل المدرسة، لتنظيمهم وحلِّ مشاكلهم، وتأمين مستلزماتهم. ومرة كان يذكر فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين لأخيه الروحي فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ثقل أعمال المدرسة وهمومها، وقال له: «ما عندي مساعد إلا الشيخ محمد». وقال مرة أيضاً: «يا ليت لي عشرة مثل الشيخ محمد». وقال أخرى لأساتذة مدرسته: «لو كان عندي شخص آخر مثل الشيخ محمد، لكفيت جميع الأساتذة».

خدمته لفضيلة الشيخ في كتبه: فكان الشيخ حفظه الله هو المسؤول عن كتب الشيخ طباعياً، يخدمه بين البيت والمطبعة، والتصحيح والتنقيح، والمراجـعة والتعديل، وقد أكسبه هذا خبرة كبيرة في فن التأليف، وانتقاء النصوص، والعزو إلى الأصول، مع فهم كلام العلماء، ومراد الأئمة الفقهاء، بسلاسة واضحة، وبُعد عن التكلف، فاستفاد من الشيخ خبرته، وذوقه وأدبه، وروحه وعلمه. ولقد كانت خدمته هذه للشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله في جميع كتبه ما عدا الطبعة الأولى من «شرح البيقونية»، والطبعة الأولى من «الإيمـان بعوالم الآخرة وأحوالها» فإنه ألفهما قبل ابتداء صحبة الشيخ محمد عوامة حفظه الله له.

فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:

لزم الشيخ محمد عوامة حفظه الله شيخه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة وخدمه في مجال العلم والتحقيق، ونسخ المخطوطات والمقابلة والتدقيق، من أول كتاب قام بتحقيقه فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى، وهو «الرفع والتكميل» إلى وقت خروج الشيخ محمد عوامة من حلب ـ أي: حتى بعد خروج فضيلة الشيخ عبد الفتاح من حلب إلى الرياض ـ ، خدمه من مرحلة نسخ المخطوط إلى مرحلة خروجه إلى حيز الوجود.

كل هذا يخدمه ويصحبه بنفسية الطالب والمتعلم، والمستفيد والمتدرب، فأجل هذا استفاد وجمع، وارتقى وبرع، تعلم من مولانا الشيخ حبّ المخطوطات، وارتياد أماكنها، وكيفية نسخها، وقواعد خطها مع ضبطها، ثم مقابلتها، والتأكد من صحة ألفاظها، ومراجعة الأصول لنقولها، وبعد ذلك طباعتها، والتذوق والتأنق فيها، فصار معتمده، ومِرساله ومندوبه، وهو أول من دلَّ عليه للتحقيق، وأرسل إليه لخوض هذا اللجِّ العميق، وذلك في كتاب «الأنساب» لإمام السمعاني، فحقق منه المجلد السابع والثامن وربع التاسع، وهو أول تحقيق له حفظه الله تعالى.

أما عن الكتب التي خدم فيها شيخه الشيخ عبد الفتاح في حلب، فهي:

1ـ «الرفع والتكميل» للإمام اللكنوي.

2ـ «الأجوبة الفاضلة» للإمام اللكنوي.

3ـ «رسالة المسترشدين» للإمام المحاسبي.

4ـ «إقـامة الحجة» للإمام اللكنوي. ولـهذا الكتاب خدمة أكبر وأظهر، حيث كان الشيخ عبد الفتاح علَّق على الملازم الستة الأولى، وخرَّج باقي نقول الكتاب على حاشية الكتاب، وأُدخل رحمه الله عند ذلك إلى السجن، فأرسل للشيخ محمد عوامة أن يكمل التعليق على الكتاب ويطبعه، فأكمل وطبع.

5ـ «التصريح فيما تواتر في نزول المسيح» للإمام الكشميري.

حـ ـ تبكيره بالخطابة والتدريس:

1 ـ الخطابة: لقد ارتقى الشيخ محمد عوامة المنبر أول ما ارتقاه وكان عمره ثماني عشرة سنة، في مسجد سوق العطارين وظل يخطب وينتقل في مساجد حلب، من مسجد إلى مسجد، يرشد ويوجه، وينصح وينبِّه، إلى أن خرج منها وعمره أربعون سنة.

2 ـ التدريس: دخل الشيخ حفظه الله فنَّ التدريس تحت إشراف شيخه الشيخ عبد الله سراج الدين في مدرسته الشعبانية باختيارٍ وطلب من الشيخ رحمه الله، وذلك بعدما تخرج من المدرسة الشرعية، حيث كان عمره (22) سنة.

وهو معروف في دروسه ـ منذ شبابه ـ بسعة اطاعه، وجدِّه واجتهاده، حتى صار يُضرب به بين الطلبة المثل، مع ضبط لأمور وشدة، وحزم منه يصحبها همة، نوى بهذا كله تربية جيل جادٍّ مجدٍّ نابغ، محصِّل للعلوم ونابه، فدرَّس فيها علوماً كثيرة متنوعة في المادة، متفاوتة في المستوى، فكان يدرس السنة الأولى، كما كان يدرس قسم التخصص، وهذه بمفردها مزية للأستاذ المعلِّم، فالتنزُّل بالمعلومات وتبسيطها إلى المرحلة الأولى للطالب، ثم الدخول بعدها مباشرة إلى قسم التخصص، ورفع مستوى المعلومات، وكيفية التعامل والتعلم فهذا مما لا يستطيعه الكلُّ، فضلاً عن الشباب منهم.

ط ـ تفرغه في المدينة المنورة: أكرم الله تعالى الشيخ محمد بالجوار في المدينة المنورة في منتصف عام 1400هـ، وزاد في إكرامه وعطاياه أن هيأ له الأسباب، ففرغه للعلم والنماء، والاستزادة والعطاء، فصار ليله ونهاره، وصباحه ومساءه، في مكتبه أو في بيته: في العلم والقراءة، والتأليف والتحقيق، والتعليق والتدقيق، بالإضافة إلى العزلة والوحدة، والبعد عن المشاغل الدنيوية، والتخفيف من العائق الاجتماعية، مع وفرة المصادر والمراجع، ووجود المخطوطات والنوادر، فاجتمع له ما لم يجتمع لغيره، فاستغل هذا الخير واستفاد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

منهجه العام في كتاباته:

المتانة العلمية، والمنهج العلمي الأصيل، والرؤية النبيهة، كانت هذه العناصر الثلاث هي أُسُّ منهج الشيخ العلمي وأساسه.

فالمتانة العلمية التي يندرج تحتها، سعة الاطلاع بكل اتجاهاته ومعانيه، ومعرفة مدلولات النصوص وفهمها، وكيفية الاستشهاد بها واستخدامها، مع الصياغة الأدبية، والأسلوب العالي.

ثم المنهج العلمي الأصيل الذي رُبي عليه ومشى، دراسة وتدريساً، فهماً وتركيزاً، ثم تخريجاً وتحقيقاً، تنكيتاً وتدقيقاً، على أيدي أئمة أعلامه، وأساطينه وكبار رواده.

بجانب ذلك: رؤية نبيهة، ونظرة حصيفة بواقع الأمـة وأحوالها، وطلاب العلم واحتياجاتهم، مع إدراك خطورة ما تعيش به الأمة من اضطراب علمي وفكري وتربوي، استشرى بجميع الطبقات، وانتشر بكافة الفئات.

أما عن منهجه العلمي العام فيمكن التحدث عنه ضمن النقاط الآتية:

1ـ دقيق في كلامه وعباراته، يوجز وقت الحاجة، ويسهب للضرورة، قوي في أسلوبه، واضح في منهجه، يلاحظ الكلمة بل الحرف، فالحرف عنده له دليل ومعنىً، وتقديم كلمة وتأخير أخرى لها مقصد ومغزىً.

2ـ يدعم آراءه وأفكاره بأقوال العلماء السابقين، والأئمة المتقدمين، وكلما قدم النقل كان هو المقدَّم، فلا ينقل عن متأخر إذا وجد مفاده عند متقدم، فكلامهم درعه، وفهمهم حصنه.

3ـ يحاول جاهداً ألا ينقل نقلاً إلا من مصادره الأصلية، مع مقابلة ومطابقة تامة، ويؤكد على هذا أشد تأكيد، بل يلزم نفسه ومن حوله بهذا، حتى قال مرَّة: «إن كان الناقل إمام الأئمة، فهو على العين والرأس، ولكن لا بد لي أن أراجع نقله، وأتثبت منه»، وهذا إن كان مصدر النقل مطبوعاً، أما إن كان المصدر مخطوطاً: فأيضاً لا بد وأن يسعى لمراجعته، فيطلب المخطوط ـ إن كان الحصول عليه سهلاً ميسوراً ـ ، فيراجع ويقابل، ويتثبت من النص ويطابق، كي يسلم نقله، ويصح عزوه.

4ـ لا يعزو نقوله إلا إلى المصادر الأصلية القديمة، فيربط نفسه وقارئ كتبه بأئمته، فهم العمدة، وإليهم المرجع، فإن رأى نصاً ـ مثلاً ـ عن معاصر ينقله عن متقدم، وقد وافق هذا النص ما أراده الوالد: فإنه يراجع هذا النص في ذلك المصدر، ويتأكد من صحة النقل وسلامته، ثم يعزو إلى المصدر الأصيل مباشرة.

5ـ عند عزوه إلى مصادر النصوص، يقدم العزو إلى الكتاب القديم المسند على القديم غير المسند، ويختاره، ولا يذكر غير المسند إلا لنكتة.

6ـ يختار في طريقة عزوه إلى المصادر، أن تكون طبعاته صحيحة أولاً، ثم متداولة مشهورة ثانية، ولا يعزو إلى طبعات صحيحة مفقودة أو نادرة مع وجودها في مكتبته، لصعوبة رجوع القارئ إليها.

7ـ يحاول أن تكون كتابته في العزو بطريقة توافق أكثر الطبعات، تسهياً للقارئ على مراجعة ما يحتاج إليه، وعدم احتياجه إلى شراء ما ليس عنده.

8ـ يعزو كل نقل إلى كتبه المختصة به، فكلمة لغوية تراجع في كتب اللغة، ومسألة أصولية تراجع في كتب الأصول، بل أدق من هذا: إن كانت المسألة الفقهية أو الأصولية شافعية ـ مثلاً ـ فلا يراجعها إلا في كتب الفقه أو الأصول الشافعية، وكذا إن كانت مالكية أو غير ذلك، ولا يرضى أبداً الرجوع للعزو إلى كتب الفقه المقارن، فلكل مذهب كتبه ومصادره.

9ـ يرجع ـ إن احتاج الأمر ـ إلى أهل الاختصاصات الأخرى، ويستشيرهم، بل ويستكتبهم أحياناً، فنراه عندما حقق كتاب «قلائد الخرائد» لباقشير الحضرمي، في الفقه الشافعي، استكتب الطبيب عبد الله الكتاني في بحث التدخين، ونسب ذلك إليه، وهكذا تكون كتبه معتمدة، وآراءه موثقة.

10ـ يريح القارئ مما قد يعترضه من إشكالات، فيحل له الغموض، ويكشف له العبارة، ويضبط له النص، ولا يتركه في حيرة من أمره، وانغلاق في فهمه، ويكرر القول على طلابه: المحقق خادم للقارئ.

الشيخ العلامة محمد عوامة - مكتبة جامعة ديوبند ـ الهند

11ـ يهتم بعلامات الترقيم جداً، ويسميها لنا: علامات التفهيم، ويقول: إن صحة وضعها، وسلامة استخدامها، هي نصف التحقيق.

12ـ دقيق حتى في اختيار ألفاظ كتابة مراجع بحثه، فتراه ـ مثلاً ـ عند ذكر طبعة كتاب معين، إن كان التحقيق لم يرق له: فلا يقول: حققه فلان، إنما يقول: طبعة فلان.

13ـ يهتم بالفهارس العلمية جداً، ويحب التنوع بها، تسهيلاً للباحث، وإسراعاً في وصوله إلى بغيته.

15ـ بجانبه كتب لا تفارقه تأليفاً أو تحقيقاً، كقواميس اللغة، و«نهاية» ابن الأثير، و«مفردات الراغب».

16ـ يخاطب في كل ما يكتب: العقل والروح معاً، فلاذ يستجيب له العقل، وينبسط له الفؤاد، وتنقاد له الروح.

منهجه العلمي في مؤلفاته:

أما منهجه العلمي في التأليف، ومراحله فيه ـ إضافة إلى ما سبق من منهجه العام في الكتابة ـ ، فألخصه بنقاط عدة:

1ـ يحدد الشيخ -حفظه الله- الموضوع الذي يرى الكتابة فيه ملحة، والحاجة إليه ماسَّة، سواء أكانت علمية تخصصية، كـ «حجية أفعال النبي صلى الله عليه وسلم»، ودراسة حديثية مقارنة لـ «نصب الراية»، و«فتح القدير»، و«منية الألمعي»، أم علمية فكرية: كـ «أثر الحديث الشريف»، و«أدب الاختلاف»، أم علمية تربوية: كـ «معالم إرشادية لصناعة طالب العلم» أم علمية ثقافية للعامة، كـ «شرح الأحاديث القدسية».

2ـ يجمع المصادر التي تناولت هذا الموضوع، أو التي هي مظنة لتناول الموضوع، ولسعة اطاعه، فإننا نرى من مصادره في أبحاثه كتباً ليست مظنة لما يكتب، وهذا يرجع إلى تقييده للفوائد وقت القراءة، سواء في قصاصات، أو على أغلفة الكتب، فتكون وقت الحاجة إليها سهلة المتناول، قريبة المأخذ.

3ـ يستوعب القراءة في الموضوع استيعاباً كاملاً ـ وهذا قبل بدء الكتابة ـ ، كما أنه يستوعب استيعاباً شاماً ما في المصادر المجموعة، ويضم إلى هذا وذاك ما في ذاكرته سابقاً، فيكون موضوعه تام الأطراف، متكامل البنيان.

4ـ من عادته قبل بدء الكتابة: أن يخط خطة لبحثه، فيركز أصوله وفروعه، وأساسياته ومسائله، مع تشجيره له تشجيراً علمياً منطقياً، كي يسهل استيعابه، ويشمل موضوعاته.

5ـ يكثر من الاستشهاد بالآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، مع حسن استدلال، وسلامة فهم، وجودة عرض، فهما أساس المراجع، وأصل النقول.

6ـ يربط القارئ بعصره وواقعه، فيكثر من ذكر قصص واقعية حصلت معه أو مع أحد شيوخه، لها علاقة وطيدة، وصلة أكيدة بما يكتبه، أو يبحث فيه، فتكون الكتابة أنفع، وصلتها بالروح أمتع.

منهجه العلمي في التحقيق:

اشتهر قول العلامة فضيلة الشيخ محمد سعيد الطنطاوي عن الشيخ محمد عوامة حفظه الله: «لا أعلم على وجه الأرض أعلم منه في علم التحقيق». وسأعرض نقاطا تتعلق بمنهجه في التحقيق تضاف إلى منهجه العام في كتاباته:

1ـ يحاول أولاً في كل كتاب يريد أن يحققه أن يحصل على نسخة المؤلف ـ وخاصة الأخيرة منها ـ ، فيبحث عنها بحثاً حثيثاً، ويفتش ويسأل وينقب، فإن استطاع الحصول عليها، فذاك بغيته ومناه، وقد أكرمه الله عز وجل في عدد من تحقيقاته، فحصل على نسخة المؤلف في: «تقريب التهذيب»، و «الكاشف»، و «مجالس ابن ناصر الدين»، و «القول البديع». ينقل الشيخ محي الدين في كتابه «صفحات مضيئة»: وبهذه المناسبة أقول: إن نسخة المؤلف التي يرى سيدي الوالد أن يُحرص عليها ويُعتمد: هي التي تكون قد بقيت تحت يد مؤلفها، يزيد فيها وينقص، وينقح فيها ويصحح، ويقرؤها على أصحابه، ويقرؤونها عليه، فهي التي ينبغي أن يُسعى إليها. والغرض من هذا واضح لذاته، ولأمر علمي آخر ينبني عليه، هو أن المؤلف قد يكون ألّف هذا الكتاب في وقت مبكر من حياته رحمه الله، قبل أن يوُصف بالإمامة في العلم، والحفظ والحجية بأحكامه وآرائه واختياراته، فحينما تبقى هذه النسخة تحت يده، وتنقيحاته ظاهرة عليها، يدلنا ذلك على استقرار رأيه العلمي الذي في هذا الكتاب، وإلا فالاحتمال وارد أن يكون قد عرض له اختيار آخر.

2ـ إن لم يتيسر له الحصول على نسخة المؤلف يبحث عن أحد فروعها، من نسخة نقلت عن نسخة المؤلف، أو نسخة قوبلت على نسخة المؤلف، فلا تقوم مقامها بالكلية، ولكن يستأنس بها استئناساً عالياً.

3ـ إن لم يستطع الحصول على نسخة المؤلف، أو فرع عنها، يبحث عن نسخة كانت بين يدي إمام من الأئمة الأعلام، فغالباً ما تكون مزينة بالحواشي، مجملة بالسماعات، دقيقة مصححة، فتقوم مقام الأصل أو الفرع، بمقامها والاعتماد عليها.

4ـ إن حصل على نسخة المؤلف، فإنه يعتبرها هي الأصل، وإن لم يحصل عليها فالأصل عنده هو الفرع، وإن لم يحصل على هذا أو ذاك، فالأصل ما كانت عند إمام من الأئمة، أو هم كلهم سواء.

5ـ يعتمد الأصل اعتماد تاماً، فيثبته كاملاً في الأعلى ـ حتى لو كان خطأ ـ إلا إذا كان مما يُقال عنه: سبق قلم الناسخ، يعني أنه غير مراد، ويشير إلى باقي المغايرات، أو إلى صوابه في التعليق. أما إن لم يكن هناك أصل يعتمد، فيقوّم النص من النسخ جميعاً، ويشير إلى ذلك تعليقاً، وإن اتفقوا جميعاً على عدم الصواب الظاهر، وكان الخطأ عندهم واضحاً، فإنه يثبت ما يراه صحيحاً سليماً في الأعلى، وينبّه إلى ذلك في التعليق.

6ـ يثبت ما يراه من حواشي المخطوطات كاملة، ولا يضيّعها على القارئ الكريم، كي لا يحرمه إفادات الأئمة العلماء، بل ينتقد من لا يكتبها أشد انتقاد، ويعتب عليه أشد العتب.

7ـ دقيق في وصف المخطوطات التي يعتمدها أو يرجع إليها، كي يعطي القارئ صورة واضحة، وبه تتبيّن مكانتها، ومدى الثقة بها.

8ـ دقيق شديد في مقابلة النسخ الخطية، فهو في جميع كتبه لا يرضى أن يقابل أحد مكانه، أو تفوته كلمة من المقابلة، فيحضرها بنفسه، ويراقبها بنظره.

9ـ يشير إلى كثير من المغايرات، والتي ليس لها فائدة أو معنىً، لا يرهق بها حواشي الكتاب، فيتركها ولا يثبتها.

10ـ يهتم بربط الكتاب أوله بآخره، وكذا آخره بأوله، فإن تكرر معنىً أو مبحث، أو فائدة أو عنوان، فإنه يحيل إليه، ويوفق بينهما، فيبقى الكتاب سبيكة ذهبية، محكمة الاتصال، متينة البنيان.

11ـ يخرج الأحاديث تخريجاً يلائم طبيعة الكتاب وحاله، ووضعه وموضوعه، فليس كل كتاب يكون تخريجه للحديث مطولاً، كما أنه ليس كل كتاب يصح أن يكون تخريجه مختصراً، وليس كل كتاب يبين فيه درجة الحديث، وليس كل كتاب يحكم فيه على الحديث ـ ما لم يكن موضوعاً ـ، فالتخريج ذوق، والتعامل مع الكتاب فن.

12ـ شخصيته العلمية المتينة ظاهرة جداً في تحقيقاته وتعليقاته، فهو ليس ككثير ممن يدَّعي التحقيق، همه إثبات المغايرات المفيدة وغير المفيدة، إنما هو عالم مشارك، يشارك المؤلف بعلمه ورأيه، لغة وفقهاً، وأصولاً وحديثاً، وعقيدة وغير ذلك، فتراه إما موافقاً مؤيداً، وإما منبهاً ومناقشاً، وإما مستدركاً ومعقباً.

13ـ يحاول أن يغني القارئ عن كل الطبعات السابقة، فيستوعب حسنات من قبله، ويزيد عليها من عنده، فتخرج نسخة نفيسة كاملة، لا يحتاج القارئ إلى غيرها.

أسانيده وإجازاته:

لقد تعرض الشيخ حفظه الله لذكر مشايخه الذين أخذ عنهم العلم والإجازات في نص إجازة كتبها لأحد علماء عصرنا، فقال:

«لقد منَّ الله الكريم المتفضِّل عليَّ ـ وأنا العبد الضعيف ـ بالإجازة من عدد من أكابر أهل العلم، وتشرَّفت بالاتصال بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق أسانيدهم، جزاهم الله خيراً عن الإسلام والعلم والدين. فمنهم:

من مدينة حلب: ـ مع غاية الإجلال والاحترام لمقاماتهم ـ العلماء المشايخ: عبد الله سراج الدين، وعبد الفتاح أبو غدة ـ وهما وليّا نعمتي في هذا العلم ـ، ومحمد أسعد عِبَه جي، وعبد الله حماد، ومصطفى الزرقا، ومحمد زين العابدين جذبة.

الشيخ العلامة محمد عوامة - في الجامع الأزهر ـ القاهرة

ومن مدينة حماة: محمد علي المراد.

ومن مدينة حمص: عبد العزيز عيون السود، ووصفي المسَدِّي.

ومن مدينة دمشق: محمد أبو اليسر عابدين، وأديب كلاس، وعبد الرزاق الحلبي، وأحمد نصيب المحاميد، ومحيي الدين الكردي، ووهبي سليمان الغاوجي.

ومن المدينة المنورة: محمد حيدر الأيوبي، ومحمد عبد الله ولد آد.

ومن مكة المكرمة: حسن المشاط، ومحمد ياسين الفاداني، وإبراهيم فَطاني، وعبد الفتاح راوة، ومحمد علوي المالكي.

ومن الطائف: محمد أمين الساعاتي.

ومن جدة: عبد الله الناخبي.

ومن رابغ: عبد القادر كرامة الله البخاري.

ومن الأحساء: أحمد الدوغان.

ومن فلسطين: محمد نمر الخطيب.

ومن لبنان: حسين عسيران.

ومن العراق: عبد الكريم المدرس، وساطع الجُمَيلي.

ومن اليمن: إسماعيل الأكوع.

ومن حضرموت: عبد القادر السقاف، ومحمد أحمد الشاطري.

ومن مصر: حسام الدين القدسي.

ومن السودان: محمد المجذوب المدثِّر الحَجّاز.

ومن الهند: محمد زكريا الكاندهلوي، وحبيب الرحمن الأعظمي، وأبو الحسن النَّدْوي، ومجاهد الإسلام القاسمي، وأحمد السَّوْرَتي، وأحمد رضا البِجْنَوَري، ومحمد حياة السَّنْبهلي، ومحمد عاقل السَّهارَنْفوري، وحبيب الله قربان المَظاهري.

ومن باكستان: محمد عبد الرشيد النعماني، ومحمد عاشق إلهي البرني.

فهؤلاء سبعة وخمسون عالماً، رحم الله من انتقل منهم إلى دار كرامته، وحفظ من بقي منهم بخير وعافية.

والذي ينبغي أن يقال في هذا المقام: إن مدار الإجازات في هذه الأيام المتأخرة على ثلاثة أثبات، مع كثرة ما طُبع منها: ثَبَت العامة الأمير الكبير (1154 – 1232)، الذي سماه «سدّ الأرب»، وعلى «الأوائل السُّنْبلية» للعلامة محمد سعيد سُنبل المكي (ت 1175)، وعلى «فهرس الفهارس» للسيد محمد عبد الحي الكتاني (1303 – 1382) رحمهم الله تعالى، وهذا الأخير يحقّ أن يقال فيه: ك