الشيخ محمود المشوح - مفتي منطقة الفرات في شرق سوريا
الشيــــخ محمود المشــوح "أبو طـــــريـف"
مفتي منطقة الفرات في شـرق سـوريا
1929ـ2000

بقلم: ابن عمه وصهره الأستاذ: عبد العزيز المشوح

( الناس رجلان: "رجل نام في النور" ورجل " استيقظ في الظلام " ) ولعل الشطر الثاني من هذه الحكمة، ما ينطبق على عمّنا الشيخ الجليل محمود عمر المشوح (أبوطريف) رحمه الله تعالى.
1ـ بيئته:

لقد عاش الشيخ في بلدة متواضعة تتكئ على نهر الفرات، ملقية رجليها بمائه العذب، تغتسل وتتبرد من لفح حرارة الشمس الآتية من بادية الشام، وتستند بصدرها ورأسها إلى قلعة الرحـبة ( رحبة مالك بن طوق ) تتنسَّم منها عبق التاريخ ؛ الذي مرت عليه مئات السنين منذ عهد الرومان إلى هارون الرشيد، نـعم، عـاش شيـخنا كذلك. وعاش صغيراً، ينطلق بين مسجد العائـلة ((مسجد المشوّح)) الملاصـق لبيت والده، والمطل على هذا النهر العظيم يستمع إلى خُطب والده الشيخ (عمر المشوّح) وإلى دروسه، ثم ليتأمل مياه النهر متدفقةً هادرةً تعلو وترتفع حتى تحاذي سور المسجد، وخاصة إبَّان الفيضان.. فلا يقبل أن تكون همته أقلَّ من همة هذا النهر العظيم، ثم لينظر من حوله فلا يرى إلا قبائل متناحرة، وعشائر متقاتلة. فتجتمع في نفسه معاني الإصلاح، والقيادة والرأي الحصيف، واستمع إليه يقـــول:
2_ نشأته وحياته:

" لقد ولدت ونشأت في منطقة الميادين... البلدة الصغيرة على شاطئ الفرات العظيم، وأكملت دراستي الابتدائية في مدرستـها الوحيدة آنذاك ـ ثم انتقلـت إلى الكـلية الشرعيـة في دمشق، فقضيت فيها عامين ونصف العام طالبا مجداً نشيطاً، بالرغم من أنني لم أكن أرغب في هذا اللون من الدراسة _ لأنني كنت أحب أن أتخصص في دراسة الأدب العربي، ولكن وفاة والدي في منتصف عام 1945م ورغبة من حولي في أن أخلفه في منصب الإفتاء فرض علي الانقطاع عن الدراسة ـ وعملت معلماً في المدرسة الابتدائية في بلدتي لمدة عام واحد، وفي منتصف عام 1946م عُينت مفتياً في منطقة الميادين خَلفاً لوالدي ". رحمه الله.
3_ صفاته:

_ أما صفاته الخَلْقية: فكان نحيفاً، طويلاً، أبيض البشرة، لحيح الوجه، عيناه سوداوان تميلان إلى البروز قليلا ً في أنفه أَنَفَ، جللَّ الشيب رأسه منذ شبابه، تلمح علائم الذكاء على محياه طليق اللسان، هادئ الحركة، متئد المشية، إذا مشى فنظره إلى الأرض أو ربما كانت نظراته مسرحا ًلخياله وأفكاره، لا يلتفت يمنة ولا يسرة.
_ وأما صفاته المعنوية:

فقد كان هادئ الطبع، واسع الصدر، حليماً، عاقلاً، جاداً في ما يعمل يلاطف جلساءه ويمازحهم، إذا تكلم فكأنما يغرف من بحر بهدوء وروية لا يتكلم إلا أن يُسأل، وإذا أجاب أجاب باختصار، أما إذا خطب فلا تكاد تسمع كلماته عند الابتداء، ثم يرتفع صوته رويداً رويداً فكأنه البحر هائجاً، والرعد مزلزلاً _ ولعل فيما قال ابن المقفع عن صديقه شيئا ممــا فيه: " تراه ضعيفا مستضعفا حتى إذا جدَّ الجد فهو الليث عاديا ".

كان كالريح المرسلة في كرمه _ لايبخل على أضيافة بما عنده _ ولا يخرجون يوم الجمعة من بعد خطبته إلا وقد طُعموا.
4_ همته وعصاميته:

كان ذا همة عالية، وعزيمة صلبة، ونفسٍ أبية ويصدق فيها قول الشاعر:

إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه ونَكَّب عن ذكر العواقب جانبا

حمل المسؤولية شاباً، وهل أكبر من ذلك مسؤولية ؟ أن يقعد مقعد المفتين، صاحب القول الفصل، والحُكم العدل. والرأي المسدَّد، والحجة الدامغة، تطلَّب هذا منه أن يشمر عن ساعد الجد وأن يهجر النوم وينبذ الراحة، فكان يسهر ليله على مصباح تلك الأيام ( لمبة نمرة أربعة على الكاز ) حتى الفجر، ثم ينام قليلا ليواجه السائلين والشاكين، وأصحاب القضايـا والخلاف. حتى الظهر، وربما جاء من أقلق راحته خلال القيلولة، ليعود بعد العـصر إلى نشـاطه العلمي.

كـان قارئا نهماً، وعقـلاً حافظاً، وقلباً زكياً، ولساناً طلقاً، وهمةً تناطح السحاب ؛ وربما انتهت قراءة ما بحوزَته من الكتب، فإنه يعود إلى المعاجم يُقلّبها ويستخرج دفينها، ويصنف كنوزها فقد ذكر: أنه في فصل شتاءٍ قارس أعاد قراءة "القاموس المحيط" عدة مرات وهو يستخرج الكلمات، من العامي الفصيح، أو الكلمات ذات الإيقاع الموسيقي أو الكلمات الوحشية الغريبة وهكذا....، وكان يقول: إنه يستعيد الفقه كل عام مرة، ولم تكن قراءته قاصرة على كتب الفقه والتفسير والحديث فهو يقرأ في الأدب وفنون اللغة وأساليبها، والسياسة، والاجتماع وأفكار الشرق والغرب.
5_ حياته الفكرية:

أينما رأيته رأيت معه الكتاب:جالساً أو ماشياً، وحتى نائماً تجد بجانبه الكتاب، لا يملُّ المطالعة ، ولا يتعب من القراءة، ويصدق فيه ماقال الشاعر: " أنا من بدَّل بالكتب الصحابا ".

" وخير جليس في الأنام كتاب " فالكتاب رفيقه في السفر والحضر، في الصحة والمرض.

قال لي أحد أصهاره ( وأنا واحد منهم ): أتيته بصندوق كبير من الكتب. فقرأه في أسبوع.

وكان جريئاً في طرح أفكاره، وفي التراجع عنها إن وجدها غير صحيحة. ولعلَّ مثالاً من خطبه عن العلم التي أخذت منه وقتاً طويلاً خلال عام 1980م يريك مكانة الرجل وعميق فهمه:{ فقد أعطى صورةً عن العلم في الإسلام، وعن مفهوم العالم مالم يسبق إليه ولايدركه فيه بعده أحد..لقد توصل إلى أن العلم الذي هو أعلى مرتبة من الجهاد..عملاً وشرحاً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " من طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع "

وتوصل إلى أن العالم لا يكون عالماً حتى يعمل بالذي يعلم وحتى يُعلِّم الناس. وأن العالم اكتسب منزلته، وأخذ وصفه هذا من خدمته للناس الذين يعاشرهم، وتوصل إلى أن العلم في الإسلام جاءت الدعوة إليه مطلقة فهو طلب الحقيقة وقال: " أنا لا أستطيع أن أطلب الحقيقة إذا لم أركض وراءها في كل مجال وفي كل ميدان "..

ومن خلال تأكيده على إطلاقية العلم وشموليته كمزية للإسلام لم يتوقف عند معرفة علوم القدماء. ولا يجوز التوقف عندهم: " لأننا على أبواب تحولات جذرية في واقع مجتمعاتنا _ نحن المسلمين _ ونحن على أبواب مآزق حضارية خطيرة على المستوى العالمي والإنساني، ولا يجوز أن نتصور أن ما عندنا في الكتب الصفراء يكفي..غلط..هذا غلط إن الكتب الصفراء على العين والرأس، ولكنها كتب أفرزتها عقول عاشت في فترات تاريخية معينة، شهدت تحديات محددة استجابت لها استجابة محددة فهي محكومة بظروفها محكومة بإطارها التاريخي.

العلم يجب أن يبقى كما وصفه الله تعالى.. وكما حدده النبي صلى الله على وسلم – "في إطاره العام: لا محظور؛ وسلاح التحليل والتحريم يجب أن يبطل في ميدان العلم.. ". من خطبةٍ في بداية العام الهجري 1401هـ.
6- حياته السياسية:

لقد تطورت أفكاره مع رسوخ علمه، وعميق تجربته، فقد أغرته الأفكار القومية في بداية شبابه، والبلاد تخرج من نير الاستعمار الفرنسي، وحركات التحرر تنطلق في العالم العربي وتزهـو بحريتها وعـروبتها، ولكـنَّهُ سرعـان ما تركـها لمـا رأى فيهـا مـن محـدودية، وحـزبية، وعنصرية، وبُعدٍ عن الدين القويم ليئرز إلى إسلامه وعقيدته فكان المسئول عن < B>"الإخوان المسلمين" في بلده " الميادين " في أوائل الخمسينيات، يجوب منطقة الفرات مع إخوانه بعمامته البيضاء الأنيقة، وجبته الكاسية الفضفاضة يخطب هنا ويحاضر هناك ويدرِّس في الفقه، والحديث، والتفسير، ثم يقف في خطبه على المنبر، من الأحزاب الأخرى موقف المفند والمندد بكل جرأة وشجاعة، حتى إذا قامت الوحدة بين مصر وسوريا وانحلَّت الأحزاب بقي صوتُه مجلجلاً على المنابر.. وعندما حدث الانفصال بين مصر وسوريا عاد ليهاجم الانفصاليين وليمجِّد الوحدة، وليس الرؤساء، ويطالب الجميع بأن الوحدة وسيلة المسلمين إلى جمع كلمتهم وظهور قوتهم أمام أعدائهم، فلما حدثت نكسة 1967م كان هو وإخوانه في السجون، فأفرجت السلطات عنهم وفور خروجه من السجن بدأ سلسلة من الخطب يحلل فيها أسباب النكسة، وأحوال الأمة ويهاجم فيها أصحاب الآراء المنحرفة، والأفكار اليسارية، والعلمانية ليصل إلى منهجية الإسلام في الحكم، وعدله في المجتمع، وخلاص هذه الأمة من هزيمتها بالتمسك به و السير على سننه. وكان المسجد وما حوله يكتظ بالمصلين المُحبطين لما حل بالأمة من انكسار وخذلان، راجعين إلى ربهم، عائدين إلى دينهم، وتُحيي خُطبُ الشيخِ فيهم الأمل، وتبعث فيهم الحياة.

وخلال الأحداث التي وقعت بين( السلطة في سوريا مع الإخوان المسلمين) كان يُخطِّئْ بعـض الأفكار، وينادي بالتعقل، ويلجم الشباب عن التهور، فقلبه معهم ولكنَّ فكره ولسانه لا يرضى عن كثيرٍ من تصرفاتهم، وقد مُنع من الخطابة عام 1985م وجلس في بيته مختارا السجن الذاتي بعد أن أقعده المرض، وهو يحمل هموم الأمة (( وهو بذلك يعتبر نفسه على طريق صديق قراءته وعمره ورفيق دربه أبي العلاء المعري.. فذاك رهين المحابس الثلاثة: "النفس والبيت والبصر " وأبو طـريف رهين المحبسين: " البيت والنفس " وكان يقول الله يسترنا من الثالثة.. رحمه الله.
7- حياته الاجتماعية:

تربى في بيت علم وتقوى، والده كان مفتياً وجده كان عالماً جاء من العراق، ولا يزال لأقاربه وأبناء عمومته مكانه علمية ودينية في عانة والرمادي في العراق ( وهم يعـرفون ببيت السيد هديب ) فأقام في الميادين على نهر الفرات وبنى فيها مسجداً تُؤدى فيه الصلاة، وتقام فيه الدروس، وكانت العائلة على صغرها مرجعاً في الفتوى الشرعية والعرفية، فقد خطب في الخمسينيات خطبة في دير الزور:ذكر فيها أنه بصفته مفتياً للمنطقة يطالب الأغنياء أن يؤدوا حقوق الفقراء، فإن لم يفعلوا فيحق للفقراء أن يأخذوا حقوقهم عنوة، وكان نتيجة ذلك أن خرجت مظاهرة تجوب البلد تطالب بحقها من أموال الأغنياء.

وقد وقف يوما على المنبر ليطالب أهل البلد أن يجتمعوا لصلاة العيد خارج البلد في مصلى واحد كما كان يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام.

وفي يوم آخر وقف ليطالب أهل البلد بجمع صدقة الفطر في صندوق واحد توزع على البيوتات الفقيرة كلٌّ حسب حاجته فتشمل الفرحة الجميع ولا تذهب هذه الأموال بدداً.

وكم من مرة وقف ليندِّد بحالات الفساد الاجتماعي، والتقاتل العشائري، وليعلنها حملة شعواء على كل قاتل أو مفسد أو متعدٍ على الحرمات والأنفس.

ولكم وقف أمام الجميع أوقات الانتخابات البلدية أو النيابة ليعلن رأيه بصراحة: " إننا كعائلة لا نعطي أصواتنا إلا لمن يلتزم هذا الدين ويعاهد على ذلك "

ولقد كان بيته مجمع الناس وملتقاهم في السراء والضراء والأعياد والمناسبات وحتى في الأيام العادية لسائلٍ أو شاكٍ أو مظلوم أو محتاج.
8- تطور أفكاره وقراءاته:

" الذين سمعوا لفقيدنا العزيز وأصغوا إلى آرائه لأول وهلة قالوا متسرعين: إن الرجل غارق في التراث وحده إلى أذنيه، متمسك بها إلى حد التعصب ؛ لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن الرجل يقرأ المكتبة العربية كتاباً واحداً فهو يقرأ كتاب التفسير والحديث والفقه، إلى جانب كتب اللغة والشعر والمعاجم على حد سواء، بل يضيف إليها ما غاب عن كثير من علمائنا ومشايخنا من الفكر العربي ؛ بشقيه الاشتراكي والرأسمالي ويتكلم في هذا الفكر وكأنه واحد من منظريه حيث يسرد مقولاتهم بأمانة وإتقان ثم يكشف ما فيها من ثغرات، وعثرات غير متجاهل ما فيها من صواب وفائدة، ساعده في ذلك ذكاء وقاد، وحافظةٌ واعية، وأدبٌ و مصابرة، ولعلي أضرب مثالاً يبين جرأته وصراحته وعلمه في عرض مسألة ثارت يومها الآراء حول ولاية الفقيه، وكان قد ندد بولاية الفقيه، وأكد أنه لا يمكن أن يوافق ولا لحظة على مفهوم ولاية الفقيه وشرح ذلك بقوله: " على الأقل لسبب مصلحي وهو أن الفقهاء عندنا هاربون من القرون الوسطى... هاربون من عصور التخلف والجهالة.. ويعيشون اليوم بين الناس بأثواب تلك القرون... عالمهم غير عالم اليوم... إدراكهم غير إدراك الناس...مفاهيمهم غير مفاهيم الناس، اهتماماتهم غير اهتمامات الناس هذا السبب المصلحي القريب الذرائعي على الأقل يمنعني من الموافقة على إعطاء الفقيه والعالم أي دور..." وبسبب هذا الموقف من الفقـهاء قال: " لقد قلت كلاماً عارضا عن الفقهاء في معرض الحديث عن ولاية الفقه فسَّره بعض الناس تهجماً على الفقيه، ثم قال:لو أن الناس عرفوا الفقهاء من هم لعرفوا أن فقهاء اليوم لا علاقة لهم به..لأن الفقه شيء غير ما يعرفون وغير ما يقرأ في بطون الكتب..الفقه هو العلم مضموماً إلى السلوك، مضموما إليه التحرك الإيجابي على أعلى الوتائر من أجـل نصـر الحقيقة، أما الفقه اليوم فإنه يسير في الركاب.. وتبحث في مشرق الأرض ومغربها فلا تجد فقيها قادراً على الإدلاء بآرائه ومواقفه، ومواكبة العصر الذي يعيش فيه.. هذه هي الحقيقة ومع ذلك لم يكن في ذهني أن أهجو الفقه والفقهاء، وإنما كان في ذهني أن أستنهض الهمم إلى ضرورة أن يتعلم الناس، وإلى ضرورة أن يدرس الناس أبعاد هذا العلم ". وكثيراً ما كان يراجع أفكاره وينتقد نفسه ويذكر تأملاته وآماله.
9-تفسيره للقرآن واهتماماته الفكرية الأخرى:

لقد اهتم الشيخ رحمه الله كثيرا في تدبُّرالقرآن الكريم، وفصَّل في مقاصده وأسهب في تفسـيره، وكشف عن الكثير من لطائفه بخطبٍ طوال قضى بها ردحا كبيراً من أيـام حيـاته، وله سلسلة من الخطب في موضوع القرآن الكريم على حسب ترتيب السور في المصحف، ثمَّ أتبعها بسلسلةٍ ثانيةٍ في التفسير بحسب نزول الآي الكريم، لكن ليس لديه من المطبوعات سوى تعليقاتٍ قليلةٍ على حاشية القرآن الكريم، وهو مطبوعٌ ومعروضٌ في الأسواق ودعه يحدثك عن ذلك يقول:" إن عشرتي للقرآن الكريم طويلة ٌجداً، فهو الرفيق الدائم والمحور الذي يدور حوله تفكيري كله، لقد درست التفاسير التي وقعت بين يدي وهي بالعشرات، وتنتمي إلى مختلف المذاهب والطوائف، وتعتمد في التفسير مناهج شتى، ولا أقول إنها لم تقع مني موقع القبول والرضى، ففي كل منها علم لا يستغني الإنسان عنه، ولكن هذه التفاسير تحمل أمزجة مؤلفيها، وصورة المناخ العقلي للعصر الذي كُتبت فيه، وكثير منها غطى فيه حشد العلوم المختلفة على الحقيقة القرآنية الناصعة...".

ثم يحدثنا عن المنهج الذي اتبعه في تفسيره للقرآن: " وهذا الهدف هو الذي رسم حدود المنهج ويمكن تلخيصه فيما يلي:

"هذا القران نزل بلغة العرب، وخوطبت به الأمة العربية قبل سائر الناس، وجاء نظمهم الكريم على الأساليب المعهودة في مخاطبتهم نبيهم فمن أجل ذلك اعتمدت على حيوية اللغة العربية وقدرتها على الأداء المباشر وغير المباشر، ومن هنا رفضت أي تأويل لا يتسع لهُ لسان ُالعرب ولا تأذن ُبه طرائقهم في البيان:

أ _ لقد كان يَغْمضُ على بعض من سمع القران من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَهْمُ مواطن معينة من كتاب الله تعالى فكانوا يفزعون إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فيبين لهم ما يحتاجون إليه من بيان، ولهذا فقد التزمت ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا ثبت نسبته إليه، ذلك هو الفرض عليَّ، وعلى كل دارس للقرآن الكريم لأن الله تعالى وضع نبيه من كتابه موضع المُبَيَّن عن الله سبحانه وتعالى معنى ما أراد في تنزيـله، وذلك في قوله تعالى:[بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] {النحل: 44} .

والقرآن حمَّال أوجه كما قال الإمام علي كرم الله وجهه في الجنة:" وليس من الأمانة العلمية أن نلتزم وجها واحداً ولا نرى غيره، إذا كان الكلام الإلهي يحتمل وجوها من التأويل لأن في هذا عدواناً على خصيصة من أهم خصائص الكتاب الكريم، وهي المرونة التي لا تشكل قيدا حديديا على الفكر البشري، ولذلك فقد حرصت على إبراز الوجوه المحتملة في التأول ضمن الحدود التي تسمح بها أساليب هذه اللغة الشريفة...".

ب - قلما تجد تفسيراً لا يحرص مؤلفه على أن يحشد فيه كل ما تصل إليه يده من المسائل العلمية وبعض المفسرين أسرف على نفسه في هذا وأسـرف على قـرائه إسرافـاً غير مستساغ، وليس مما يعلي من شأن القرآن أن يتطابق مع الحقائق العلمية وإن كان ذلك يزيد الذين اهتدوا هدى، لأن الكلام الإلهي هدايةٌ وإرشاد، والمعرفة العلـمية شأن بشـري بـحت، وهذه المعرفة العلمية ماضية في طريقها _ سواء وجـد الـوحي الإلهـي أم لم يـوجد _ والخلط بين الميدانين مسلك شديد الخطورة على الوحي والقلم جميعا، وما مأزق شراح التوراة والإنجيل ببعيدة عن الأذهان، لذلك حافظت على محل الهيمنة القرآنية على التفكير البشري، وتجنَّبت الخوض في المسائل العلمية.

ج – وليس يذهب عني إن شاء الله تعالى أن سليقة اللغة اليوم قد تراجـعت تراجـعاً خـطيرا، وليست الشكوى من استعجام الألسنة دون الشكوى من استعجام العقول. وأنت تعلم أن كل سورة من سور القرآن الكريم لها شخصيتها المحدودة ذات الملامح< SPAN> الواضحة _ وأن نظم القرآن يسير على نهجه الخاص، وأن جزئيات السورة تتلاقى على إبراز قضيةٍ، أو قضايا محددة، وهذا الإدراك الشامل للهدفية القرآنية يحتاج إلى معاناة شاقة، لذلك حرصت على أن أقدم لكل سورة بمقدمة مختصرة تشرح أغراضها وتحدد أهدافها، فذلك أحرى أن يجعل الإدراك المناسب لمعنى ما أراده الله في كتابه أيسر منالا , تلك هي أهم الملامح التي يمتاز بها هذا التفسير. فإذا أعان الله تعالى، ومنَّ على ببلوغها إنني إذن لسعيد.".

" وأنا أعلم أن الكلمة المكتوبة لها في أذهان الناشئة محل القداسة والبداهة التي تعلو على النقاش، وإذا وجد خطأ في الكلمة المكتوبة فسيعيش طويلاً في عقول الناشئة، وسيحتاج إلى جهود مضنية لتصحيحه، من هنا نشأ لديَّ عبء من الكلمة المكتوبة غير المحددة _ لأنها قد تجني على أجيال _ وهذا أحد سببين جعلاني أحجم عن تقديم إنتاجي إلى الناس _ أما السبب الثاني _ فهو أني أصبت بضعف في العيون في سنٍ مبكرة، فاضطررت إلى أن ألقي الخطب، وأقرر الدروس دون الاستعانة بشيء مكتوب، واستمرت هذه الحالة عشرات السنين فكان من ذلك أن جار اللسان على القلم، وإنه لمن الهين أن أتحدث الساعتين أو أكثر دون خطأ عقلي أو لفظي، ولكني أحس بضيق شديد إن أنا اضطررت إلى كتابة صفحة واحدة ".
10 _ كتاباته الأخرى:

وعن شرحه لغريب القرآن يقول: " شرح غريب القرآن الكريم الذي صدر لم يكن ضمن اهتماماتي، ولكنه كان تلبية لرغبة الأخ الناشر وهو الذي وضع له هذا العنوان، وهو أدرى بحاجة سوق الكتاب ولكن الشيء المؤكد أن أعمالاً من هذا القبيل تؤدي لقارئ القرآن خدمة جليلة، فالكثير من ألفاظ القرآن الكريم يصعب فهمه على القارئ، فإذا وجد إلى جانب الآية شرحاً لغريبها فقد كُفِيَ مؤونة الرجوع إلى كتب التفسير أو معاجم اللغة، وهذا الشرح الموجز يمتاز ؛ بكونه أعطى لمفردات القرآن معانيها المرادة بها، في المواطن التي وردت بها فمن المعلوم أن القرآن الكريم أعطى بعض المفردات من مدلولات شرعية، لم تكن لها أصل في الموضوع اللغوي، ومن المعلوم أن المفرادت تأخذ مدلولات إضافية من خلال السياق الذي وردت وقد حرصت على أن أنص على ذلك في هذا الشرح، وأرجو أن أكون قد وفقت إلى ما أردت ".
ولعلي أختم بنصيحته للشباب:

" إن على شبابنا العربي المسلم أن يدرك بصورة عميقة جدا، أنه يحمل الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأَبَيْنَ أن يحمَلْنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، وعليه أن يدرك بنفس العمق أنه يحمل على كاهله وفي أعماقه مواريث قرون من التخلف، والتشتت، وسوء الظن، ووهن الروابط الاجتماعية، وضياع الهدف الذي وُجد هذا الإنسان العربي المسلم من أجل بلوغه، فواجبه المُلح أن يعمل بكل قواه على كسر طوق التخلف، وتصحيح المسار الحضاري الإنساني، هذه مسؤولية ضخمة قد يبعث الرعب في القلب مجرد التفكير بها، ولكنها يسيرة على من يسرها الله له ".
11_ مرضه ووفاته:

لقد تحمل الشيخ من الهموم والآلام ما أثقل كاهله وأوهن جسده، فتكالب عليه الداء واصطلحت عليه الأمراض، وكان هَمُّ الدعوة أكبرها، وأثقلها على نفسه، كما قال:" إن طريق الدعوة إلى الله زرع الداء في جسمي ". فقضى السنوات الأخيرة من عمره لا يخرج من بيته وفي مساء السبت الثالث والعشرين من شوال 1420هــ الموافق 29 كانون الثاني 2000م _ وقد كان هادئ البال رضيَّ النفس، طلق الوجه _ خرجت روحه إلى بارئها راضية مرضيه " سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ولقد كان موكب جنازته في بلدة الميادين، يوما مشهوداً لم تعرف المنطقة في تاريخها مثله..

مضى طاهر الأثواب لم تبق روضةٌ ٌ

غداةَ ثوى إلا اشتهت أنها قبــرُ
المراجع:

مجلة ( النهضة الكويتية )، مقابلة صحفية بمناسبة صدور( غريب القران)

محاضرة الأستاذ ( رياض درار) _ "حياة وفكر" لم تكتمل".

(الشيخ محمود المشوح في الذكرى الرابعة لوفاته). وأيضاً مقال عن حياته بمناسبة وفاته. (( فاروق المشوح ))

(الشيخ محمود المشوح مع العلماء الراحلين)، مجلة المجتمع الكويتية/ "عبد العزيز المشوح في رثائه".

مع مراثي أخرى متعددة.

فقرات من خطبه المسجلة.