الشيخ محمد بدر الدين الحسني - علامة الشام والمحدث الأكبر
بقلم: محمد حامد الناصر

العلاّمة المحدِّث، أصله من مراكش، ولد في دمشق، وحفظ الصحيحين غيباً بأسانيدهما، ونحو عشرين ألف بيت من متون العلوم المختلفة، وانقطع للعبادة والتدريس، وكان ورعاً وبعيداً عن الدنيا، وارتفعت مكانته عند الحكام وأهل الشام كن محدث الشام في عصره، وكان يأبى الإفتاء ولا يرغب في التصنيف، ولا نعرف له غير رسالتين مطبوعتين، إحداهما في سنده لصحيح البخاري، والثانية في شرح قصيدة "غرامي صحيح" في مصطلح الحديث(2) .

كان الشيخ بدر الدين مكانة عظيمة، لعلمه وورعه، وأثره في الناس.

يقول الشيخ على الطنطاوي في كتابه "رجال من التاريخ" : "لقد فتحت عيني على الدنيا، وأنا أسمع الناس في دمشق، العالم منهم والجاهل، يصفونه بأنه شيخ الشام، وأنه المرجع في كل أمر في الخاص والعام، إن قال، وقف العلماء عند قوله ... يُجمعون على تقديمه وتعظيمه، يرون طاعته من طاعة الله، لأنه يبيِّن للناس حكم الله، ويعلِّمهم شريعة الله".

"رجل عاش ثمانين سنة بالعلم وللعلم، وما جرى فيها بغير العلم لسانه، إلا أن تكون كلمة لابد منها ... ما ترك الدرس قط، ولا يوم وفاته، الرجل الذي لبث ثمانية سنة، ما مَسَّ جنبه الأرض، وما اضطجع إلا في مرض الموت ... وما نام كما ينام الناس، بل كان يجلس في الليل ليقرأ ... الرجل الذي كان يراقب الله والناس عنه غافلون".

"كان يجلس في الليل ليقرأ فإذا غلبه النعاس، اتكأ برأسه على وسائد أعدت له ، فأغفى ساعتين أو ثلاثاً من الليل متقطعات، ومن النهار ساعة، وكان يقرأ دائماً لا يشغله عن القراءة إلا أن يكون نائماً، أو في صلاة، أو درس، أو في طريقه من المسجد إلى البيت، ما فارق الكتب قط ... وما أحب في الدنيا غير الكتب، فكان يشتري الكتاب يسمع به، ولو كان مطبوعاً في أقصى الهند، ويشتري المخطوط ولو بوزنه ذهباً، ولا يدع كتاباً حتى يقرأه أو يتصفحه تصفح المثبت"(3).

يقول الأستاذ محمد المبارك عن الشيخ بدر الدين – رحمهما الله - : "كان أكثر دهره صائماً، قلما يتكلم إلا بعلم أو ذكر، يمنع الناس من القيام له ومن تقبيل يده، ويغضب لذلك، وكان يعلن في دروسه فرضية الجهاد لإخراج الكافر المستعمر، وكان على صلة مستمرة مع الثائرين على فرنسا في سورية"(4) .

الشيخ بدر الدين في حلقات العلم :

يقول الشيخ عبد الرزاق البيطار عن الشيخ بدر الدين : "كان – رحمه الله – يقرأ في كل يوم جمعة بعد الصلاة صحيح البخاري في جامع بني أمية، ويزدحم الناس على درسه ازدحام الطالبين على العطية، غير أنه يسرد ما علق بذهنه، ولا سؤال من أحد ولا جواب"(5).

"ففي الحديث الشريف، كان يأخذ حديثاً كيفما جاء، فيذكر طرقه كلها، ويعرِّف بالرواة جميعهم، ثم يشرحه لغة، ونحواً، وبلاغة، شرح إمام من الأئمة الأولين، ثم يذكر تعليقات المحدِّثين بأسانيدها ومصادرها، ثم يذكر ما أخذ منه الفقهاء، وما اختلفوا فيه، وأدلة كل منهم، ثم يوازن بينها ويرجح راجحها، وأعرف من كتب، من هذا الدرس عشرة مجلدات ضخام، وفيه يبدو علم الشيخ، وهذه الذاكرة التي لا تمنّ بمثلها الدنيا مرة كل مائة سنة"(6) .

كان – رحمه الله =- يصلي الفجر في المسجد الأموي جماعة، ثم يخرج إلى دار الحديث إلى غرفة له (فيها) صغيرة مبسوطة بالبسط، ولطالما دخل هذه الغرفة أناس : من رجال الدين ورجال الأديان، وطالما دخلها علماء أعلام، وأمراء وحكام، وكانت ترتجُّ الأرض من تحتهم، وترتجف القلوب من خشيتهم، فإذا دخلوها نزعوا أحذيتهم، وجلسوا على ركبهم وصمتوا، جمال باشا (وما أدراكم ما جمال باشا)، وولاة من قبله، والعالم العلاّمة تلميذاً ... أمام هيبة العلم والتّقى والدين ... فيبقى فيها في إقراء وذكر حتى يقترب الغروب، فيمشي إلى داره ليُفطر، وغالباً ما يكون صائماً".

كان – رحمه الله – فهرساً لكل مخطوط ومطبوع من الكتب في كل فن .. كان والعلماء في دمشق متوافرون، وأهل الاختصاص كثيرون، يُعَدُّ الإمام والمرجح في كلِّ فنّ : في اللغة وغريبها، وفي الصرف والنحو، وفي فقه الأئمة الأربعة المدونة، والمذاهب التي لم تدوَّن، مذاهب الصحابة والتابعين والأئمة ... وفي الحديث رواية ودراية ... لا يشغله عن القراءة إلا أن يكون نائماً أو في صلاة أو درس ..."(8).

أما مؤلفاته :

التي تركها فقليلة، لأنه ما كان يرغب في التصنيف، وقد طبع تلامذته بطابعه في أغلب الحالات.

يقول الزركلي في الأعلام :

"كتبت إلى السيد محمد سعيد الحمزاوي، نقيب الأشراف في دمشق، أسأله في تأليف الشيخ بدر الدين، فبعث إليّ بقصيدة من نظم الشيخ طاهر الأتاسي، يمدح فيها الشيخ ويذكر كتبه منها :

شرح البخاري، وشرح الشمائل، وشرح الشفا، وشرح البيقونية في المصطلح، وله حواش على كتب النحو، وشرح مغني اللبيب، وشرح لأمية الأفعال، وشرح السلَّم في المنطق.

ويذكر الحمزاوي : أنه انتهى بعد طول البحث، إلى رؤية اثنتي عشرة رسالة، مما بقي لصاحب الترجمة في الحديث والتفسير.

ومن تآليفه : شرح خلاصة في الحساب، وحاشية على عقائد النسفي، وكتب أخرى"(9).

الشيخ بدر الدين ورحلته الجهادية مع أصحابه:

ذكر السيد الحمزاوي أنه لما قامت الثورة على الاحتلال الفرنسي في سورية : "كان الشيخ يطوف المدن السورية، متنقلاً من بلدة إلى أخرى، حاثا على الجهاد وحاضاً عليه، يقابل الثائرين ويغذيهم برأيه، وينصح لهم بالخطط الحكيمة، فكان أباً روحياً للثورة والثائرين المجاهدين"(10).

ويتحدث الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – عن هذه الرحلة بقوله : "وأنا أحب أن أعرض للقراء صفحة مطوية من تاريخ الشيخ بدر الدين، هي رحلته في سنة 1924م، مع الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب، من دمشق إلى دوما إلى النبك إلى حمص وحماة إلى حلب.

هذه الرحلة التي طافوا فيها لبلاد الشام "سورية" كلها، وكانوا كلما وصلوا قرية أو بلدة، خرج أهلها عن بكرة أبيهم لاستقبالهم بالأهازيج والمواكب، ثم ساروا وراءهم إلى المسجد، فتكلموا فيه ووعَظوا وحمّسوا، وأثاروا العزة الإسلامية في النفوس، وحثّوا على الجهاد لإعلاء كلمة الله، فكانت هذه الرحلة هي العامل الأول والمباشر لقيام الثورة السورية ضد فرنسا، وقد امتدت سنتين منذ عام 1925م، وأذهلت ببطولاتها أهل الأرض.

وقد قامت الثورة في الغوطة كما نعرف – وقد رأيناها رأي العين – قبل أن تقوم في الجبل (جبل حوران)، وقد بدأت بخروج طلبة العلم بدافع الجهاد، ومن أوائل من خرج إليها شيخ من تلاميذ الشيخ هاشم الخطيب، هو الشيخ ممد بن إسماعيل الخطيب.

ومن هؤلاء الذين خرجوا وعملوا العجائب، البطل الشهيد حسن الخراط، كان حارساً ليلياً، قاد عصابات المجاهدين، ووقف بهم في وجه فرنسا، يوم كانت فرنسا أقوى دولة برية في أعقاب الحرب الأولى، وغلبها واحتل دمشق ثلاثة أيام ... لم يبق في البلد فرنسي واحد"(11).

"لقد وقف حسن الخراط مع إخوانه الذين باعوا نفوسهم لله، وقف في وجه فرنسا يوم كانت تملك أقوى جيش بري في العالم، يوم اقتسمت مع بريطانيا بلادنا.

ولما عجزت فرنسا عن مواجهة الحارس الدمشق في ميدان القتال، حاربت البيوت فهدمت الجدران، ودكَّت الأركان وأزالت العمران"(12).

"فالثروة السورية لم تخرج من (جبل الدروز) كما شاع في الناس، حتى أخذوه حقيقة مسلمة، والحقيقة أن الثورة خرجت من غوطة دمشق.

أما أحداث الجبل، فكانت حدثاً فردياً، جاء لبناني اسمه (أدهم خنجر) محكوم عليه بالإعدام، يستجير بسلطان الأطرش فلم يجده ولجأ إلى داره ... قبض عليه الفرنسيون متجاوزين عادات وقانون الجوار، فثار سلطان ومن معه من الطرشان".

"وكان قد اشترك في الثورة ضد فرنسا العديد من طلاب العلم، ومن تلاميذ الشيخ علي الدقر، ومحدّث الشام الحسني، ومنهم الشيخ حسن حنبكة الذي انضم إلى الشيخ محمد الاشمرن كان الشيخ حسن يحمل السلاح متنقلاً من مسجد إلى مسجد، ومن حي إلى حي، ولما ضعفت الثورة التجأ إلى الأردن مع بعض الثوار، ويقي هناك سنتين تقريبا"(13).

توفي ودفن في دمشق – رحمه الله -.

وحول تأبين الشيخ علي الطنطاوي للشيخ بدر الدين قال الأستاذ عصام العطار، يصف ذلك الحدث حسبما رأى وسمع:

"سمعت الطنطاوي، وسمعت به أول مرة في الجامع الأموي في دمشق، وأنا في نحو الثامنة من عمري، سمعته يقول : "مات مَن كانوا يلقبونه بالمحدِّث الأكبر في الشام، الشيخ بدر الدين الحسني، رحمه الله تعالى. وسعينا مع الناس، وكنا تلاميذ صغاراً في مدرسة ابتدائية، أغلقت في ذلك اليوم أبوابها، كما أغلبت دمشق أسواقها للمشاركة في تشييع العالم الجليل.

واكتظ الجامع الأموي بالألوف، بل بعشرات الألوف من الناس الذاهلين، أو الباكين، أو المهللين المكبرين، وارتفع من أعماق المسجد، من على منبره، صوت قوي مؤثر، دون مكبِّر وصل إلى جميع المسامع، فسكن الناس بعض السكون، وانصتوا لكلام الخطيب، الذي تحدث ، كما لازال أتذكر، عن فداحة المصاب بالمحدث الأكبر، الشيخ بدر الدين، وفداحة المصاب بالعلماء الأعلام، عندما يموت العلماء الأعلام، فنفذ إلى قلوب الناس ومشاعرهم، بصدقه وعلمه وبلاغته، وجمال إلقائه، وصفاء صورته قوته.

وسألت : من هذا الخطيب ؟! قالوا: إنه الشيخ علي الطنطاوي، وعملت، أناعلماء الشام هم الذين اختاروه وقدموه لهذا الموقف، كان ذلك سنة 1935م، وله من العمر ست وعشرون سنة". رحم الله الفقيدين بدر الدين الحسني وعلي الطنطاوي .



المراجع

1- ينظر : ترجمة الشيخ بدر الدين في : الأعلام للزركلي : 7/158، رجال من التاريخ : للشيخ علي الطنطاوي، ص381، وما بعدها، وذكريات علي الطنطاوي : 7/75-76، وعلماء ومفكرون عرفتهم : للشيخ محمد المجذوب، ج1، 239.

2- الأعلام : خير الدين الزركلي ، 7/158، دار العلم للملايين – بيروت ، ط12، 1997م.

3- رجاله من التاريخ : الشيخ علي الطنطاوي ، ص381، دار النمارة، جدة، ط 8، 1411هـ/1990م.

4- علماء ومفكرون عرفتهم : الشيخ محمد المجذوب، 1/239، دار الاعتصام، القاهرة، ط3.

5- حيلة البشر في تاريخ القرن الثالث عشر : للشيخ عبد الرزاق البيطار، نقلاً عن الأعلام : للزركلي ، هامش ص158.

6- رجال من التاريخ : الشيخ علي الطنطاوي ، ص382-383.

7- رجال من التاريخ : الشيخ علي الطنطاوي ، ص384.

8- المرجع السابق : ص382

9- الأعلام : للزركلي ، 7/158.

10- الأعلام : للرزكلي ، 7/158.

11- رجال من التاريخ : ص393.

12- ذكريات علي الطنطاوي : 1/207-208، 213.

13- المرجع السابق : 1/217 – 219 ، 223.

14- تتمة الأعلام، محمد خير رمضان يوسف، 2/138، دار ابن حزم، بيروت ، ط1، 1418هـ - 1998م.

15- الشرق الأوسط في : 20/3/1420هـ - 1999م.