الصيام عبادة ورياضة للنفس وللدين

 

كثيرٌ من الناس يَنظرون إلى العبادة التي فرضها الله تعالى من ناحية واحدة من نواحي أسرارها وحكم تشريعها، وكلما رأوا بحسب مشاهداتهم أنَّ هذه الناحية ضعيفة، وأنَّ العبادة لا تحققها، جادلوا في العبادة نفسها، وزيَّن لهم الشيطان إهمالهم العبادة وخروجهم عن أمر ربهم، فتراهم في شأن فريضة الصوم مثلاً يجادلون فيها ويُبَرِّرون تركهم لها؛ لأنها لا تُعَوِّد الصائم البرَّ بالفقراء والسخاء بالمال، ولا تكفُّ الصائم عن اللغو وقول الزور وفعل السوء، ولا تكبح جماح النفس عن شهواتها، ويستعرضون حِكَم الصيام من الناحية الإنسانية، وكلما رأوا ضعف تأثيره من هذه النواحي جادلوا وربما تهكَّموا بالصائمين.

والحقيقة التي أقرِّرُها وأدعو إلى الإيمان بها: 

هي أنَّ كلَّ ما فرضه الله تعالى على المسلمين من صلاة وزكاة وصيام وحج، المقصود منه أمران: 

أحدهما، وهو المقصود الأول، عبادة الله تعالى كما أمر أن يُعبد، واستشعار ألوهيته وعظمته بالشعائر التي شرعها وكلَّف بها. وإلى هذا المقصود الأول أشار الله سبحانه بقوله: [وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] {البيِّنة:5}. وبقوله: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56}. 

وإلى هذا المقصود الأول أرشد الله تعالى بأن جعل أول مناجاته في فاتحة الكتاب التي تُقرأ في كل صلاة: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}. والعبادة التي هي المقصود الأول من كل ما فرضه الله تعالى هي الخضوع البالغ الغاية، الناشئ عن استشعارِ القلب عظمةَ المعبود، واعتقاده الجازم بكمال قُدرته وقوة سلطانه.

وثاني الأمرين المقصودين من فَرْض العبادات: تحقيق مصالح الناس ومَنَافعهم أفراداً وجماعات، من ناحية أنفسهم، ومن ناحية أبدانهم، وإلى هذا المقصود الثاني أشارَ الله سبحانه بقوله في الصلاة: [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] {العنكبوت:45}. وبقوله في الزكاة: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] {التوبة:103}. وبقوله في الصيام: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183}. وبقوله في الحج: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ] {الحج:27}.

فكل عبادة فرضها الله تعالى على المسلمين لها ناحيتان: ناحية إلهيَّة، وناحية إنسانيَّة، والناحية الإنسانيَّة لها شعبتان: شعبة نفسيَّة تهذيبيَّة، وشعبة بدنيَّة صحيَّة وقائيَّة وعلاجيَّة، والعبادة التي لا تحقق مَعْناها الإلهي فلا تشعر العابد بعظمة المعبود ولا تذكره بألوهيَّته، ولا تحقق معناها الإنساني فلا تُهَذِّب نفس العابد ولا تُقَوِّمُ خُلقه، ولا تصحِّحُ بدنَه ولا تكون علاجاً له ووقاية - هي صورة العبادة لا حقيقتها.

وفي مثل هذه العبادة الصوريَّة قال الله سبحانه: [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا] {النساء:142}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش). 

والذين يَعْترضون على العبادة لأنها لا تحقق معناها الإلهي ولا معناها الإنساني، مَثَلهم مثل من يَعترض على القانون بسبب أنَّ القاضي عبث بتطبيقه، ولم يحقق العدالة التي يقصدها، ومثل من يَعيب البذر الصالح بسبب أنَّ الزارع لم يراعِ في زراعته طرق الإحسان، ولم يتعَهَّدْه كما ينبغي أن يُتَعَهَّد. 

وكان حقاً على هؤلاء المعترضين أن يعبدوا العبادة الحقيقية التي تحقق أهدافها، وأن يدعوا العابدين إلى إحسان عبادتهم، لا أن يَعترضوا على العبادة نفسها. 

ولمقصودٍ إنساني نفسي وبدني، وتوضيحاً لما قرَّرتُه من أنَّ كل عبادة فرضها الله تعالى هي لمقصود إلهي، ولمقصود إنساني نفسي وبدني أفَصِّلُ هذا في فريضة الصوم: 

في السنة الثانية للهجرة فرض الله تعالى على المسلمين صيام شهر رمضان بقوله سبحانه: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ] {البقرة:185}. وفرض الله تعالى على المسلمين في هذه السنة نفسِها فريضة الزكاة، وحوَّل لهم قبلتهم في الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة، وشرع الأذان للإعلام بوقت الصلاة، فكانت السنة الثانية للهجرة فاتحة عَهْدِ إعلان الشعائر الإسلاميَّة، وإبراز الشخصيَّة الإسلاميَّة.

الصيام ناحيةُ العبادة فيه ظَاهرة، وكمال الخضوع به لله بيَّن، لأنَّ الصائم يكفُّ نفسه عن الشهوات التي تدعوه إليها غَريزته وطبيعته، ويتحمَّل مشقَّة الجوع والعطش، ويترك ما اعتاده طولَ السنة، ولا باعث له على هذا إلا امتثالُ أمرِ الله تعالى، وأداء ما فرض الله سبحانه، واستشعاره عبوديَّته لله تعالى ووجوب طاعته، وكفّه عن شهواته وإمساكه عن طعامه وشرابه، لا رقابة لأحد من الناس عليه، والرقيب عليه هو الله تعالى وحدَه. 

فالصائم في خلوته وانفراده يستطيع أن يأكل وأن يشرب آمناً من أعين الناس، ويستطيع أن يجيب دعوة غريزته في غفلة من الناس، ولكن الذي كفَّه عن شهواته وحمَّله مشاقَ جُوعه وعطشه هو طاعته لأمر ربه تعالى، واستشعاره برقابته وإحاطة علمه، وهذه ناحية العبادة في الصيام.

وأما ناحية الرياضة النفسيَّة في الصيام فتتجلى في أنَّ الصائم يُرَوِّض نفسَه على احتمال المشاقِّ والصبر على المكاره، والحياة كلها مشقات ومكاره، ومن لم يُعدَّ نفسه لاحتمالها واعتاد الترف وأخلد إلى الرفاهية يضيق ذرعاً بالحياة كلما صادف فيها مكروهاً أو مَشَقَّة.

فالإسلامُ يقصدُ إلى أن يكون المسلم جنديَّاً لا ييأس إن أصابَه جُوع أو عطش، ولا يضجر إذا احتمل مكروهاً أو شدة، ولهذا كلَّفه أن يصوم في كل سنة شهراً ليعتادَ حياةَ الجوع والعطش، وإلى هذا أشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (الصيامُ نصفُ الصبر) [أخرجه أحمد، والدارمي، وابن ماجه، والترمذي، وحسَّنه]، ففي الصيام تدريب على الشدائد وعلى معيشة الحرمان، ليكون المسلم مُستعِداً للكفاح والجهاد، والحياة في ميادين العمل.

كذلك الصائم يُرَوِّض نفسه على مُقاومة الغريزة البهيميَّة، وتغليب الغريزة الإنسانيَّة، والإنسان تتنازعه في حياته غريزتان: غريزته البهيمية الحيوانية التي تدفعه إلى الأنانيَّة والاسترسال في الشهوات والظلم والعدوان، وتؤدي به في بعض الأحيان إلى أن يكون حيواناً مُفترساً، وعن هذه الغريزة تتولد شرور الإنسان وآثامه، من عدوان وإيذاء وانتقام، وغريزته الإنسانيَّة الملائكية التي تدفعه إلى الرفق والعدل والرحمة، وتسمو به إلى المستوى الملائكي الذي لا إثم فيه ولا ظُلم ولا عصيان.

فالصيامُ رياضةٌ نفسيَّة تحدُّ من قوة الغريزة الإنسانية، وتذكر الإنسان بإنسانيته، وحلمه وعفوه، وصفحه وصبره، وإلى هذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم) أي: فليذكر أنَّه صائم، أي: في رياضة نفسيَّة تهذِّب نفسه من مُقابلة السبِّ بالسب، والسيئة بالسيئة.

ومن هذا نفهم حِكْمة ما جاء في السنة: من أنَّ الصوم جُنَّة، أي: وقاية للنفس من استرسالها في شهواتها وآثامها، وما جاء في السنة من قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قولَ الزورِ، والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابه).

وأما ناحية الرياضة البدنية فقد بيَّنها بعض الأطباء ووفاها، وخلاصة ما قاله: 

أنَّ كلَّ عضو من أعضاء جسم الإنسان في حاجة إلى فترة استجمام، والصيام فترة استجمام للمعدة وللأمعاء لو أدَّاه الصائمون على نظامه، كذلك الصيام يُنظِّمُ أوقات تناول الطعام، ويجعل لكلِّ وجبةٍ وقتاً معيناً، وفي هذا تنظيم الجهاز الهضمي وتيسير أدائه لوظيفته.

والصيام يكفُّ الناسَ عما اعتادَ أكثرهم من إدخال الطعام على الطعام والشراب على الشراب، وكلما مرَّ بالواحد منهم طعامٌ أكل منه أو شراب شرب منه، فالصيام يحول بين الصائم وبين عادات كثيرة ضارَّة به في أكله وشربه، وإذا كان الصائمون يُسرفون بعد الإفطار، ويرهقون المعدة والأمعاء بالغذاء الكثير بعد طول راحتها، فهذا عَيبُ الصائم لا عيب الصيام.

وهذه النواحي الإنسانيَّة للصيام نفسيَّة وبدنيَّة أشار الله سبحانه لها بقوله: [ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:21}. أي: تقون أنفسكم وأبدانكم من الأضرار. 

وهذه بعض أحاديث صحيحة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيام أختم بها كلمتي ليردِّدها كل صائم، ويتحرَّى الاهتداء بها:

1 – روى الإمام مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عزَّ وجل كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصيام فإنَّه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صومِ أحدكم فلا يَرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن شاتمه أحدٌ أو قاتله فليقلْ إني صائم، والذي نفسُ محمدٍ بيده لخلُوف فمِ الصائم أطيبُ عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فَرِحَ بفطره، وإذا لقي ربَّه فرح بصومه) (1).

2- وروى البخاري في صحيحه وأبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يدَع قولَ الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامَه وشرابَه).

3- وروى مُسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الأول، المجلد التاسع، رمضان 1374 أبريل مايو 1955).

(1) الصيام جُنَّة: أي وقاية، ولا يرفث: أي لا يُفحش في القول، ولا يَصْخب: أي لا يضج بالخصومة، ولا يجهل: أي: لا يحمق ولا يسفه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين