رمضان في حياتنا

 

هل هلال رمضان فانقلبت الحياة كلها ظاهرها وباطنها، ليلها ونهارها، بيوتها ومساجدها، هناك حياة أخرى بلون آخر ونكهة أخرى، وهناك روح جديدة سرت في هذا الكون ودخلت في أخصّ خصائص الناس حتى في نومهم ويقظتهم ومواعيد أكلهم وشربهم وأسلوب حياتهم، أما صلاة التراويح فهي أشبه بالاحتفال الروحي الذي يعبّر عن حالة الابتهاج الجماعي بقدوم هذا الشهر الكريم مع ما فيها من انتفاضة القلب وانطلاقته من قيود الخمول والكسل والحياة الرتيبة الثقيلة. 

 ربما يكون كل ذلك مقصودا من التشريع، وربما يكون بعضه مجرّد تعبير عاطفي ووجداني عن الفرحة بهذا الشهر اعتزازا بالهويّة الإسلامية الجامعة وتعظيما لشعيرة من شعائر الله بغض النظر عن دقائق الأحكام الشرعية، ونظرة الفقهاء لبعض هذه الفعاليات والسلوكيات، كما هو الشأن في تشييد المآذن وزخرفة المساجد وتذهيب المصاحف وتزيين الكعبة. 

 إلا أن رمضان في الحقيقة أعلى شأنا وأبعد شأوا من كل ذلك، فرمضان له غاية محدّدة وقيمة محوريّة حاكمة تقيس مدى قربنا أو بعدنا عن جوهر رمضان، هذه الغاية حدّدها الله الذي شرّع لنا رمضان، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) فجوهر رمضان إنما هي التقوى، ومقياس النجاح والفشل في رمضان إنما هي التقوى، والغاية الأسمى التي ينبغي أن يسعى لها المؤمنون ويتنافس فيها المتنافسون إنما هي التقوى. 

 التقوى أن ينمّي الإنسان في نفسه حس الرقابة الذاتية، فيتوقّى عن كل إثم ظاهر أو باطن، ويضع بينه وبين حقوق الآخرين حدّا فاصلا، فلا يتعدّى ولو بكلمة أو همزة أو لمزة، ولا يدخل في بطنه إلا ما يحل له، أرأيت للصائم كيف يحذر من أن يذهب صومه ولو بقطرة من ماء أو حبّة من رز، فهذا شأن التقيّ دائما وأبدا مع أموال الناس وحقوقهم دقيقها وجلّها، هكذا يعلمنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث البخاري: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). 

 التقوى أن لا يؤخّر رب العمل أجور العاملين عنده ولو ليوم واحد، فبقاء مال الغير مختلطا بماله دون إذن منهم لا يخلو من إثم. 

 التقوى أن لا يغش الطالب في الامتحان ولو باختلاسة نظر، وأن لا يغش المعلّم طلابه بمعلومة لم يتأكد منها، أو بدرجة ينحاز فيها لطالب على بقية الطلاب. 

 التقوى أن يتورّع السياسي والإعلامي عن قول الزور، وعن إشاعة الفتنة، فالفتنة نائمة لعن الله من أيقظها ولو بشطر كلمة. 

 التقوى أن لا يسرق الموظف من وقت دوامه المحدد له، وأن لا يهمل معاملة أحد من المراجعين، فإتقان العمل وأداء حقوق المراجعين أقرب إلى الله من الوقت الذي نقضيه في صلاة القيام أو صلاة التراويح، فالتراويح نافلة وأداء الحقوق واجب. 

 التقوى أن لا تهمل الأم أولادها وتتركهم بيد الخادمة تمسخ فطرتهم وتغيّر لغتهم. 

 التقوى روح تسري في مفاصل هذه الحياة كلها، فمتى ما اقتربنا منها كان صومنا أقرب إلى القبول عند الله، فصوموا صيام التقوى، والله يتقبل منا ومنكم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين