قالوا عن صلاح الدين الأيوبي شهادات من الشرق والغرب -2-

 

علمنا ديينا الحنيف أننا لا نقدس الأشخاص ، ولا نعتقد عصمتهم ، ولكن بالمقابل لا ننكر أفضالهم ، ولا نقلل من الأمجاد التي قدموها خدمة لأمة الإسلام ، ودفاعاً عن مقدساته .

اقتبستُ هذه الشهادات الرائعة في القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله والتي نقلها الدكتور محمد مؤنس عوض في كتابه : «قالوا عن صلاح الدين الأيوبي: شهادات من الشرق والغرب». 

أولا: شهادة بعض المؤرخين المسلمين :

1- استفتح المؤلف بشهادة الأديب والكاتب العماد الأصفهاني، الذي كان من المقرَّبين من صلاح الدين وتولَّى ديوان الإنشاء في عهده، وهذا الديوان يعادل وزارة الخارجية في أنظمة الحكم المعاصرة. وقد أشاد الأصفهاني في شهادته عن صلاح الدين، بأنه ترك كثيراً من الأولاد: سبعة عشر ولداً وبنتاً واحدة، ومع ذلك لم يشغل باله بجمع المال لهم، بدليل أنه ترك في خزائنه عند وفاته ديناراً واحداً وستة وثلاثين درهماً، أما ما دخل خزانته من أموال مملكته الواسعة التي ضمَّت مصر والشام واليمن والحجاز، فقد أنفقها جميعاً في الجهاد وأغراضه.

2- شهادة الأديب المعاصر أمين معلوف، صاحب كتاب «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، الذي قال: «وإذا كان صلاح الدين قد فتح القدس فما ذاك لأجل المال ولا حتى الانتقام. لقد سعى على الأخص إلى القيام بما يفرضه عليه ربه ودينه. وانتصاره أنه حرر المدينة المقدسة من نير الغزاة من غير حمام دم ولا تدمير ولا حقد، وسعادته هي أن يستطيع السجود في هذه الأمكنة التي لولاها لما استطاع مسلم أن يصلي فيها».

3- أما شيخ مؤرخي مصر والإسلام تقي الدين المقريزي، فقد مدح في صلاح الدين كثيراً من الصفات، مثل التواضع والصبر وقوة الاحتمال والورع، وقبل كل ذلك الكرم الذي فاق بمراحل كرم حاتم الطائي، إذ يقول: «لم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به وصاحبه ملازم في طلبه.. وكان ورعاً، رأى يوماً العماد الكاتب يكتب من دواة محلاّة بالفضة فأنكرها، وقال هذا حرام، فلم يعد يكتب منها عنده. وكان لا يصلي إلا في جماعة، وله إمام راتب ملازم، وكان يصلي قبل الصبح أربع ركعات إذا استيقظ، وكان يسوي في المحاكمة بين أكبر الناس وبين خصمه، وكان شجاعاً في الحروب، يمر في الصفوف وليس معه إلا صبي».

4- وتتفق المؤرخة هادية دجاني شكيل مع من شبَّه فتح صلاح الدين القدس بالفتح العُمَرِي، حين تقول : «قابل المؤرخون فتحه هذا بالفتح العمري ، كما قابلوا فتحه بمعجزة الإسراء والمعراج، وعدُّوه الفتحَ الثاني للقدس الجغرافية، والفتح الثالث للقدس الجغرافية والروحية معاً».

ثانياً: شهادة بعض المؤرخين الغربيين المنصفين :

1- ومن ذلك ما ذكره المؤرخ الصليبي أرنول المعاصر لصلاح الدين، إذ قال: «اجتمع كثير من النساء اللواتي دفعن الجزية وذهبن للسلطان يتوسلن قائلات إنهن أما زوجات أو أمهات أو بنات لبعض من أسر أو قتل من الفرسان والجنود، ولا عائل ولا سند لهن الآن ولا مأوى، ورآهن يبكين فبكى معهن تأثراً وشفقة، وأمر بالبحث عن الأسرى من رجالهن وأطلق الذين وجدهم منهم وردهم لنسائهم. أما اللواتي مات أولياؤهن، فقد منحهن مالاً كثيراً جعلهن يلهجن بالثناء عليه أينما سرن، ثم سمح السلطان لهؤلاء الذين منحهم الحياة والحرية وأغدق عليهم نعمه، بأن يتوجهوا مع نسائهم وأولادهم إلى سائر إخوانهم اللاجئين في مدينة صور».

2- كما نجد أن المؤرخ البيزنطي نيكتاس خونياتس الذي شاهد بأم عينيه سقوط القسطنطينية في يد الصليبيين عام 1204م وما فعلوه بهذه المدينة العريقة من سلب ونهب وهتك أعراض نسائها، حتى راهبات الأديرة لم يسلمن من هذا الفعل الفظيع، هذا المؤرخ حين يتحدث عن صلاح الدين ودخوله على رأس المسلمين القدس، تختلف نبرته وتعتدل لهجته ويقول: «المسلمون أكثر رحمة من الصليبيين، فعندما استعادوا بيت المقدس عاملوا اللاتين بلطف ورقة، وحافظوا على حريمهم، ولم ينتهكوا، ولم يدنسوا على الإطلاق قبر المسيح، وحرصوا على عدم دفن موتاهم بجواره».

3- وهو ما جعل مؤرخ سقوط الإمبراطورية الرومانية إدوارد جيبون، يشيد بصلاح الدين ويمتدح تواضعه وتقشفه حين يقول: «كان متواضعاً لا يعرف البذخ ولا يرتدي إلا العباءة المصنوعة من الصوف الخشن، ولم يعرف إلا الماء شرباً، وكان متديناً قولاً وفعلاً، يشعر بالحزن لعدم تمكنه من أداء فريضة الحج، لأنه كان منهمكاً في الدفاع عن دين الإسلام» .

4- وعن مكانة صلاح الدين الأسطورية في أوروبا، يقول المؤرخ الروسي ميخائيل زابوروف إن «الرقة النسبية التي أبداها القائد العسكري صلاح الدين الأيوبي بعد الاستيلاء على القدس كانت، في ما كانت، سبباً لتزيين تاريخ صلاح الدين في الغرب في ما بعد بشتى الأساطير التي تطري شهامته غير العادية ».

5- ويعجب المؤرخ البريطاني هاملتون جب بصلاح الدين أيما إعجاب، إذ يرى في عهده نقطة فارقة في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، حين يقول: «يشكل عهد صلاح الدين أكثر من مجرد حادثة عابرة في تاريخ الحروب الصليبية، فهو يمثل إحدى تلك اللحظات النادرة والمثيرة في التاريخ البشري... استطاع صلاح الدين أن يتغلب على جميع العقبات لكي يخلق وحدة معنوية برهنت أن لها من القوة ما يكفي القول للوقوف بوجه التحدي من الغرب».

 

ملاحظة :

اهتم الدكتور محمد مؤنس عوض ببطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي فقد ألف عنه عدداً من الكتب منها: «صلاح الدين بين الحقيقة والأسطورة»، ثم زار قبر صلاح الدين ودوَّن انفعالاته وانطباعاته عن هذه الزيارة في كتاب «رحلتى إلى صلاح الدين»، ولم يكتف بذلك، بل قرر إبراز أخلاق الفروسية الحقة التي تحلى بها صلاح الدين بإجماع أهل الشرق والغرب، فكتب «صلاح الدين الأيوبي فارس عصر الحروب الصليبية»، ثم قرر أن يجمع في صعيد واحد كل ما أُلف عن صلاح الدين فكتب «صلاح الدين الأيوبي بيبلوغرافيا كرونولوجية» جمع فيها جُلَّ ما كُتب عن صلاح الدين بمختلف اللغات، وبعد كل هذا رأى أنه لم يوف الرجل حقه، فألف كتاباً جديداً صدر حديثاً عن دار «الكرز» في القاهرة بعنوان «قالوا عن صلاح الدين الأيوبي: شهادات من الشرق والغرب».

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين