رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للمصلحين

 

رسول الله محمدُ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى للمجاهدين في إصلاح الأمم والشعوب، والعاملين على تحرير العقول من رقِّ الأوهام والأباطيل، وتخليص النفوس من دَنَس الشر وسوء الرذيلة، وتقويض نظم الظلم والفساد والطغيان، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

وهو الأسوة الحسنة لمن ينشدون الخلق الكريم، والأدب الرفيع، وتواضع العزيز، وحياء المهيب، والصبر في البلاء، والشكر في النعماء، وحسبه أنَّ الله تعالى أقسم إنَّه على خلق عظيم، فقال وهو أصدق القائلين: [ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) ]. {القلم}. 

 فسيرتُه صلى الله عليه وسلم الزكيَّة شجرة مُباركة، في كلِّ فرع من فروعها ثمار طيبة وخيرات للناس، وهي مصباح ذو شُعب ينبعث من كل شعبة منها نورٌ يَهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، يهدي المجاهدين إلى أنفع الدروس في الصبر والثبات والتضحية، ويهدي الدعاة إلى أقوم السبل في الحكمة والرفق والأناة والتخول بالموعظة الحسنة، ويهدي القضاة إلى تحري العدل، وإحقاق الحق، ويهدي الأزواج إلى حسن المعاشرة والقيام بحقوق الزوجية، ويهدي كلَّ فرد في شؤونه الخاصة وشؤونه العامة إلى خير ما يكون عليه الإنسان الكامل في أداء الحق والقيام بالواجب لدينه ولنفسه وللناس.

وأنا أقصر كلمتي على نظرة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية أنَّه مصلح ومجاهد في سبيل هداية الناس لعلنا نستلهم بعض المبادئ القويمة التي يجب أن تقوم عليها دعوة الإصلاح، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وخير إمام يقتدى به.

أول أساس أقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته الإصلاحيَّة أنه مصلح إنساني عالمي قصد بدعوته خير الناس جميعهم، وبثَّ النور والهدى في أرجاء المعمورة، وما قصد بدعوته أن تسودَ أمَّة على أمة، ولا أن يعلو جنس فوق جنس، وإنما كانت غايته صلى الله عليه وسلم أن تسود دعوة الحق، وأن تعلو كلمة الله تعالى في أية بيئة وأي إقليم، وما كانت وجهته في جهاده صلى الله عليه وسلم أن يكون العرب فوق الجميع، أو أن تكون الرياسة في بني هاشم أو قريش، بل كانت وجهته صلى الله عليه وسلم أن تتحرَّر عقول الناس، وتطهر نفوس الناس وتصلح نظم الناس، لا فرق بين جنس من الناس وجنس، ولا بين إقليم من الأرض وإقليم، ولا بين عربي وغير عربي، ولا بين أبيض وأسود، وهذا الأساس استقرَّ في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم مما أنزله الله عليه في كتابه الكريم، فإنَّ الله سبحانه أوحى إليه أنه أنزل عليه كتابه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور لا ليخرج أمة من الناس دون أمة، وأنه أرسله رحمة للعالمين، وليكون نذيراً للعالمين، قال تعالى: [الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] {إبراهيم:1} وقال سبحانه: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] {الأعراف:158}.

وأقوم أساس تقوم عليه دعوة الإصلاح أن تكون دعوة إلى عقائد حقَّة، ومبادئ قويمة، ونظم عادلة، لا إلى أشخاص أو أجناس، أو ألوان أو أصقاع، والمصلح الصادق في قصده وغايته هو الذي يغزو الفساد والطغيان أينما كان، ويهدي إلى النور والعدل والحق كل من استطاع هدايته.

ومن أجل هذا وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه شطر كل جهة، ووجَّه دعوته إلى كل من استطاع أن يوجه دعوته إليهم من أفراد وجماعات، ومن ملوك ورعايا، من العرب وغير العرب، ففي مكة قبل الهجرة إلى المدينة كان يغنم موسم الحج فرصة ويعرض دعوته على القبائل العربية التي تَفِدُ للحج، وفي المدينة أرسل رسله وكتبه إلى القبائل والولاة والملوك، ووفدت عليه عدة من الوفود، وفي كتبه إلى الملوك والرؤساء حملهم تبعة الإثم إذا حالوا بين رعاياهم وبين دعوته، وفي خِطبته يوم الجمعة في حجَّة الوداع في السنة العاشرة للهجرة قال للمسلمين: (وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات، وقال: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب).

ومن أجل هذا كان أظهر شعار لدعوته الإخاء والمساواة، فلم يفرق بين فرد وفرد لحسب أو نسب، أو جنس، أو لون، عملاً بقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ] {الحجرات:13}. 

وتبرَّأ من العصبية والاعتزاز بها وحدَها، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية)، وقضى على التنابز بالألقاب والتفاخر بالأنساب، والاعتماد على الآباء والأمهات، فقال صلى الله عليه وسلم: (الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحمر على أسود، ولا لعربي على عجمي إلا بالتقوى)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه)، وقال صلى الله عليه وسلم لقومه بني هاشم: (يا بني هاشم لا يجيئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنساب). 

وقال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: (ساببت رجلاً فعيَّرته بأمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أعيرته بأمه! إنك امرؤ فيك جاهلية! ). 

ولم يفرق بين فرد وفرد في تكليف بواجب أو تحريم لمحرم، أو خضوع لقانون، كلمه أسامة بن زيد في شأن المخزوميَّة التي سرقت فقال صلى الله عليه وسلم له: (يا أسامة أتشفع في حدٍّ من حدود الله! إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!).

ولم يصطفِ أحداً بولاية، أو يخص فرداً بمنزلة لجاه أو نسب أو حسب، فبلال الحبشي رضي الله عنه من خير أصحابه، وسلمان الفارسي رضي الله عنه من أفضل قُوَّاده، وجعل للذميين مثل ما للمسلمين وعليهم مثل ما عليهم، وقال صلى الله عليه وسلم: (من آذى ذمياً فأنا حجيجه يوم القيامة).

فدعوة الإسلام دعوة إصلاح عام، وكل من أظلتهم راية هذه الدعوة سواء في الحقوق وفي الواجبات، وكل امرئ وبلاؤه، والوسيلة إلى العز والسؤدد في متناول كل عامل، وميدان السباق في الفضل فيه متسع للجميع.

ومن أقوم الأسس التي قامت عليها دعوته صلى الله عليه وسلم الإصلاحية، أنه صلى الله عليه وسلم كان داعياً بخلقه وعمله، وبسيرته في قومه وبين أصحابه، والدعوة بالأخلاق والأعمال أبلغ من الدعوة بمجرَّد الأقوال، وكثيراً ما دفعت شمائله وسيرته صلى الله عليه وسلم ما اتهمه به أعداؤه، وكثيراً ما استجاب المستجيبون لدعوته لِما رأوه من أخلاقه صلى الله عليه وسلم.

اتهمه بعض المشركين بأنه ساحر فقال النضر بن الحارث وهو من ألدِّ أعدائه: (قد كان محمد غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً فلما وخطه الشيب قلتم ساحر، والله ما هو بساحر!).

ولما مَثُل سفيان بن حرب رضي الله عنه بين يدي هرقل عظيم الروم وسأله هرقل عدة أسئلة بشأن محمد صلى الله عليه وسلم وكان مما سأله: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان رضي الله عنه: لا، قال هرقل: ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله.

ولما جاء زيد اليهودي يتقاضاه ديناً له وأغلظ في المطالبة وقال: إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطل، همَّ به عمر رضي الله عنه وانتهره وأغلظ له القول، فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال لعمر رضي الله عنه: (أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر: تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي) ثم قال: لقد بقي من أجله ثلاث، وأمر عمر أن يقضيه حقه ويزيده عشرين صاعاً لما روَّعه، فقال اليهودي: أشهد أنَّك رسول الله، إنَّ من علامات النبي أن يسبق حلمه غضبه.

وكانت ديمقراطيته النفسيَّة صلى الله عليه وسلم وسهولته الفطرية تحببه إلى كل من سلمت فطرته، وكان صلى الله عليه وسلم بين أصحابه كواحدٍ منهم، لا يتميز عنهم في ملبس ولا في مسكن، ولا في مجلس، وحجرات أمهات المؤمنين كحجرات سائر المسلمات، وهو صلى الله عليه وسلم في أصحابه ليست له شارة خاصة به، ولا فراش خاص به، حتى دخل أعرابي المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه فلم يعرفه من بينهم وقال: أيكم محمد؟ 

وكان صلى الله عليه وسلم لا يستبدُّ برأيه في الشؤون الدنيويَّة العامَّة، بل كان يشاور فيها أصحابه، وكان صلى الله عليه وسلم يعدل عن رأيه إذا تبين أنَّ الصواب رأي غيره، وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يستقبله أصحابه بالقيام له، ويقول: (لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يُعظِّم بعضهم بعضاً) وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يسمع مدحه وإطراءه ويقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله رسوله).

وبهذه النفس الديمقراطية والأخلاق السهلة السمحة أيَّد دعوته صلى الله عليه وسلم وحبَّب إلى الناس إجابته.

وتوافر لدعوته الإصلاحيَّة صلى الله عليه وسلم عاملان هما أقوى عوامل النجاح لكل دعوة إلى الإصلاح.

العامل الأول: أنَّ الدعوة إلى عقائد حقة يقرها العقل ويطمئن لها الوجدان، وإلى أخلاق كريمة تدين لها الفطر السليمة، وإلى نظم عادلة تؤمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وتقيم العدل بينهم وتكفل لهم مصالحهم في الدنيا ومثوبة الله تعالى في الآخرة.

والعامل الثاني: أنَّ الداعي صادق أمين رؤوف رحيم، لا يريد بدعوته رياسة ولا سيطرة، ولا امتياز بأية ميزة في أي مظهر من مظاهر حياته.

ومن أكرم شمائله صلى الله عليه وسلم التي قامت أصدق برهان على أنَّ غايته إصلاح الناس، وأنَّه ما أراد لنفسه ولا لذويه غُنماً ولا نفعاً، وأنه صلى الله عليه وسلم عاش أزهد الناس في الدنيا، وأكثرهم تقشفاً، وأقلهم تمتعاً وترفاً، عاش فقيراً، ومات فقيراً، وقد فتحت عليه الفتوح وحملت إليه الغنائم، ولكنه صلى الله عليه وسلم زهد فيما يحرص عليه الناس، وآثر أن يعيش فقيراً جائعاً يحتمل الأذى ويكابد المشاقَّ في سبيل هداية الناس، ومن يكن أكبر همه توحيد الله تعالى وإقامة العدل والحق بين الناس فكل الذي يلقاه محبب إليه.

قالت عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين مُتواليين، وقالت رضي الله عنها: ما ترك رسول الله ديناراً ولا درهماً، ولا شاة ولا بعيراً، ولقد مات صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء نأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رق له، وقالت رضي الله عنها: إن كنا آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً إن هو إلا التمر والماء، وقالت أم سلمة رضي الله عنها: زُففت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما وجدت في حجرتي إلا حصيراً ورحاً وقعباً فيه قليل من لبن وقدحاً فيه شعير فطحنت الشعير وعصدته في اللبن، وهذا كان طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الزفاف.

هذه الحياة حياة الزهد والتقشف التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعلى مثل لحياة المصلح المضحي الذي لا يستغلُّ منزلته لخير نفسه، ولا يشغل باله بمنفعة لشخصه، ولا يلهيه ترفه أو تمتعه بالنعيم عن الغاية التي يَهدف إليها، والإصلاح الذي يَنشده.

ذلكم هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، المصلح الإنساني العالمي، الذي تبرَّأ من العصبيَّة ودعا إلى الوحدة الإنسانيَّة، وقضى على التنابز بالألقاب، والتفاخر بالأنساب، وقد نشأ في بيئة شعارها العصبيَّة، وفخارها الأنساب والأحساب، والذي قرَّر المساواة بين الناس وفتح باب العزَّة والكرامة لكل عامل في بيئة لا عِزَّة فيها إلا بالنسب.

وذلكم هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي كان صدقه وأمانته ووفاؤه وعفوه وحلمه وجميع أخلاقه وشمائله من أقوى الأدلة على أنه لا يريد إلا الخير والإصلاح، ومن أفضل الوسائل إلى استجابة دعوته والذي كانت ديمقراطيته ومعاملته من يعاشره من أقوى الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم لا يبغي جاه رياسة، ولا أبهة ملك، وإنما يبغي للناس الهدى والنور.

وذلكم هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي عاش فقيراً ومات فقيراً، وجاع والغنائم بين يديه، والفتوح تتوالى عليه، ليضرب للمصلحين أعلى مثل في التقَشُّف، والزهد فيما يَتَكالب عليه الناس، وليلفت المصلحين إلى أن تكون عنايتهم بما يحقِّق غايتهم لا بما يوفِّر لهم مُتعتهم، ولا شيء يصفي نفس المصلح ويسمو بها إلى العالم الملائكي مثل احتقار ملذَّات النفس، ولا شيء يفسد نفس المصلح ويهوي بها إلى المستوى البهيمي مثل العناية بالشهوات والملذات.

فلتكن لنا في رسول الله أسوة حسنة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد السابع، المجلد السادس، ربيع أول 1372، نوفمبر 1952).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين