المظلومية لا تكفي

لا يكفي أن تكون مظلوماً لتنجح، لا يكفي أن تكون مظلوماً لتنتصر، بل إن هلاك الظالمين لا يعني تمكين المظلومين. 

 

طغى فرعون وتجبر، وأفسد في الأرض وتكبر، وأهلك الحرث والنسل، وذهب في الاستبداد كل مذهب، حتى رأى من خنوع الناس له وخضوعهم، أنه ينبغي أن يكون إلاهاً، فقالها اعتماداً على ضعفهم، واستناداً لذلهم: ( أنا ربكم الأعلى) !!

 

ولم يكن لدى موسى من الإمكانات ما يمكنه من الخلاص منه، فلجأ الى ربه داعياً: "ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) فأوحى الله اليه باستجابة دعوته: "قال قد أجيبت دعوتكما"، وإن كان، تنفيذ هذه الاستجابة تحقق بعد أربعين سنة كما ذكر المفسرون .

 

ولكن مع إجابة الدعوة كان التكليف الأهم ، حيث أمر الله موسى وهارون أن يقوما بواجبهما لكي يتحقق الانتصار ، وبدون القيام بهذا الواجب فلن ينفع هلاك الطغاة.

 

: فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون .

 

واجب المصلحين هو الاستقامة على أمر الله، أما موعد التمكين، ووقت التغيير، وزمن الفتح فعلمه عند رب حكيم. مهمة المُصلح أن يأخذ بالأسباب المشروعة لنهضة الأمة، ولا ينتظر فقط هلاك الظالمين.

 

لا يكفي أن تكون مظلوماً لتنجح ،لا يكفي أن تكون مظلوماً لتنتصر ، بل إن هلاك الظالمين لا يعني تمكين المظلومين، فقد أهلك الله فرعون وجنوده، فسقطت منظومة الطغيان كاملة، ولم يعن ذلك تمكين بني إسرائيل مع موسى عليه السلام، حتى يكتمل إعدادهم وتنصلح قلوبُهم، ويأخذوا بأسباب النصر والتمكين.

 

فبعد أن رأوا بأعينهم إغراق فرعون وجنوده، وانفلاق البحر لهم ، سرعان ما طلبوا أن يكون لهم إلاهاً كما للأقوام آلهة!! ثم سرعان ما صنعوا من حليهم عجلاً وعبدوه، وظلوا في نكرانهم يعمهون، حتى كتب الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض؛ ليُخرج الله من التيه جيلاً أعد للنصر عدته ، وتملك أدوات التمكين ، ففتح الله لهم، ورزقهم الملك والحكمة .

 

فالذين يكتفون بالمظلومية سلاحاً لا يدركون سنن الله في خلقه ، بل إن الله تعالى يحاسب المقصرين المفرطين الذين لم يأخذوا بالأسباب، كما يحاسب المعتدين الظالمين!!

فالنصر لا يُوهب للمخذولين، والتمكين لا يُمنح للمتواكلين ، وإنما النصر لمن تأهل للاستخلاف، وتأهب للاستعمال، واستشرف مستقبله، وأعد مما يستطيع عدته، واستثمر جهود المخلصين من حوله.

 

وذراع المدد من الله مضمون، ولكنه مشروط ببذل شبره، وباع المدد موقوف كذلك على بذل الذراع، وفق سنن لا تحابي أحداً، ولا تستثني أحداً ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً.

 

هذه هي الاستقامة التي أمر الله بها ، وحقيقة الإيمان الذي تكفل الله بنصرة أهله ، فمن لم يدخل من بابه فالحرمان مآله، والخذلان عقابه، والاستبدال عقوبته.

 

لذا فلست من أنصار الحديث الدائم ليل نهار عن جرائم المجرمين، وظلم الظالمين، دون السعي الجاد في التخلص من إجرامهم، أو تجنب طغيانهم، ناهيك عن بذل كل جهد لحماية الأمة من إجرامهم، وتخليصها من استبدادهم .

 

فالله لن ينصر المجاهدين بصبرهم على المظالم فحسب، ولكن سينصرهم بما بذلوه لدفع الظلم، وبما أعدوه لتجنب تكرار هذه المظالم.

 

أما التترس بالمظلومية فحسب فهو من أفعال النساء، وحيل الضعفاء، وأسلحة البلهاء !! وعبادة الأوقات تختلف كما أن أسلحة الأزمان تختلف.

 

ومن زعم أن المظلومية بطولة، وذهب تيهاً يسوّقها، ويتغنى بتحملها، ويتفنن في ذكر تفاصيلها، وعظيم ألمها، ويُربي الأجيال على التعايش مع ألامها، والتماهي مع لهيبها، فإنه شرعاً يجب الحجر عليه، لأنه يٌفسد العقول، ويُضيع الأجيال، بل هو أشد خطراً ممن يُحجر عليه لتضييع الأموال !!

 

لذا فمهمة الاستقامة لا تتوقف، والسعي اليها لا ينتهي ، وشمولية تحقيقها لا تغيب، واليقين في عظيم نتائجها لا يتزعزع.

 

وتأمل معي بتدبر بشارة الله لأهل الاستقامة، قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. (سورة فصلت).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين