هل يجوز أن نحكم بكفر اليهود والنصارى

 

يقر بعض الكتاب أن الله جل شأنه قد كفر النصارى واليهود وكل من لا يؤمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً والقرآن كتاباً مهيمناً على سائر الكتب، ولكن يستدرك فيقول: إن التكفير حق لله وحده وليس ذلك لنا - نحن البشر -، يزعمون أن لله وحده أن يقول: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)(لقد كفر الذ ين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم)، ولكن ليس لأحمد زاهر -مثلاً- ولا غيره من البشر أن يقولوا ذلك لغير المسلمين فإن الله - فيما زعموا- لم يقل لنا: قولوا للنصارى: أنتم كفار.

وهذا زعم باطل، وقول فاسد فائل.

والأدلة على بطلان هذا الزعم كثيرة، منها: سورة سماها الله تعالى سورة (الكافرون) يقول الحق في مطلعها: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون).

ومنها: قوله تعالى في سورة آل عمران الآية ??:( قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون). 

ولمْ أستدل بالآية الأخرى من سورة آل عمران وهي قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون)?? لعدم تصديرها بكلمة( قل ) التي تقطع كل تشغيب.

ومنها: قوله تعالى في سورة فصلت:( قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين)?.

ومنها: قوله تعالى في سورة الكهف:( قال له صاحبه وهو يحاوره: أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا؟!!  لكنا هو الله ربي ولا أشرك به أحدا)??-??.

وفي الآية إشارة إلى أن التكفير قد يقع في أثناء الحوار مع الكفار دون أن يتسبب في فتنة ولا صد عن سبيل الله، بل إن بيان الأمر على حقيقته قد يكون موقظاً من الغفلة باعثاً على النظر، حاثّاً على البحث للوصول إلى الحقيقة فيكون سبباً في الهداية.

فهل طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات؟وهل فعل ما أمره به ربه؟ وهل بلغ ما أوحى إليه؟

نعم بلا شك ولا ريب.

قال الإمام ابن هشام في كتابه السيرة النبوية الذي هو أشهر مصادر السيرة:(قال ابن إسحاق  : فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومَه بالإسلام وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومُه ، ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها ؛ فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته ، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام ، وهم قليل مستخفون ، وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب، ومنعه وقام دونه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله، مظهرا لأمره، لا يرده عنه شيء.  ثم ذكر أن قريشا شكلوا وفدا من زعمائهم - وذكر ابن إسحاق أسماءهم - مشوا إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ؛ فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه فقال لهم أبو طالب  قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه . 

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه ، يظهر دين الله ، ويدعو إليه ، ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا ، وأكثرت قريش  ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها ، فتذامروا فيه ، وحض بعضهم بعضا عليه، ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى ، فقالوا له : يا أبا طالب  ، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين ، أو كما قالوا له، ثم انصرفوا عنه ، فعظم على أبي طالب  فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.

قال ابن إسحاق  : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس  أنه حُدِّث : أن قريشا  حين قالوا لأبي طالب  هذه المقالة ، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا ابن أخي ، إن قومك قد جاءوني ، فقالوا لي كذا وكذا ، للذي كانوا قالوا له ، فأبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ؛ قال : فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه ، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته قال : ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكى ثم قام ، فلما ولى ناداه أبو طالب  ، فقال : أقبل يا ابن أخي ، قال : فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اذهب يا ابن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا . 

(ج?ص???-???-???) 

وروى الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسيره بإسناد صحيح عن  عن ابن عباس  قال : (لما مرض أبو طالب  دخل عليه رهط من قريش  فيهم أبو جهل بن هشام  فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ، ويفعل ويفعل ، ويقول ويقول ، فلو بعثت إليه فنهيته ، فبعث إليه ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل البيت) الحديث.

ورواه والنسائي بلفظ: (ألا ترى ابن أخيك يقع في آلهتنا فقال: ابن أخي ما لقومك يشكونك؟) الحديث.

وروى مسلم في صحيحه(???)عن أبي هريرة  قال: لما أنزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا  فاجتمعوا، فعمَّ وخصَّ، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس  أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها).

وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمران بن الحصين قال: (جاءت قريش إلى الحصين وكانت تعظمه فقالوا: كلم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم) الحديث.

ولعل قارئا الآن يعترض علي فيقول: أين أنت من قول الله تعالى في سورة الأنعام: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)???، فإنه نسخ السب الذي تنقله ونهى عنه.

فالجواب: أن الآيات التي صدرت بها مقالتي والتي يأمر الله فيها نبيه بأن يقول للكافر كافر كافية وافية في رد الشبهة التي راجت على بعض الكتاب ، ولكني تبرعت بذكر الأحاديث إتماما للمقال وتصويرا لحقيقة الحال.

والتحقيق أن الله أنزل هذه الآية إرشادا للمسلمين الذين تنفلت منهم أثناء محاورة الكافرين كلمات الشتم المجردة والسب الجارح فنهاهم الله عن ذلك، ولكنه لم ينههم عن التصريح للكافر في السياق المناسب وعند الحاجة لذلك بكفره دون مسبات وشتائم تجري على ألسنة السوقة الدهماء، ولم ينه عن التصريح بكفر اليهود والنصارى بلفظ عام ليس فيه خطاب لشخص بعينه، لأن التكفير ليس سبا ولا شتما بل بيان لحكم شرعي تترتب عليه أحكام شرعية عديدة.

وهذا ما كان يصدر من نبينا الكريم صاحب الخلق العظيم عليه الصلاة والسلام، ولكن كفار قريش كانوا يكذبون فيعدون هذا سبا وشتما تشنيعا عليه وتنفيرا من اتباعه، مع أنه ليس كذلك عند كل عاقل.

وأدعكم مع قلم الحبر المحقق الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره النفيس(التحرير والتنوير) يجلي هذه الحقيقة خير جلاء، يقول رحمه الله: (والسب : كلام يدل على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرة ، بالباطل أو بالحق ، وهو مرادف الشتم . وليس من السب النسبة إلى خطأ في الرأي أو العمل ، ولا النسبة إلى ضلال في الدين إن كان صدر من مخالف في الدين . 

والمخاطب بهذا النهي المسلمون لا الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول لم يكن فحّاشا ولا سبابا؛ لأن خلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك، ولأنه يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن ، فإذا شاء الله تركه من وحيه الذي ينزله ، وإنما كان المسلمون لغيرتهم على الإسلام ربما تجاوزوا الحد ففرطت منهم فرطات سبوا فيها أصنام المشركين . 

روى الطبري عن قتادة قال : كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم . وهذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآية ، وأوفقه بنظم الآية). 

ثم يقول هذا الحبر رحمه الله:

(والوجه في تفسير الآية أنه ليس المراد بالسب المنهي عنه فيها ما جاء في القرآن من إثبات نقائص آلهتهم مما يدل على انتفاء إلهيتها ، كقوله تعالى:(أولئك كالأنعام بل هم أضل) في سورة الأعراف .

وأما ما عداه من نحو قوله تعالى: (ألهم أرجل يمشون بها) فليس من الشتم ولا من السب ؛ لأن ذلك من طريق الاحتجاج وليس تصديا للشتم ، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذم والتعيير لآلهة المشركين ، كما روي في السيرة أن عروة بن مسعود الثقفي جاء رسولا من أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فكان من جملة ما قاله : وايم الله لكأني بهؤلاء ( يعني المسلمين ) قد انكشفوا عنك ، وكان أبو بكر الصديق حاضرا ، فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات، إلى آخر الخبر .

ووجه النهي عن سب أصنامهم هو أن السب لا تترتب عليه مصلحة دينية ؛ لأن المقصود من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى ، فذلك هو الذي يتميز به الحق عن الباطل ، وينهض به المحق ولا يستطيعه المبطل ، فأما السب فإنه مقدور للمحق وللمبطل فيظهر بمظهر التساوي بينهما . وربما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحق ، فيلوح للناس أنه تغلب على المحق.على أن سب آلهتهم لما كان يحمي غيظهم ويزيد تصلبهم قد عاد منافيا لمراد الله من الدعوة ، فقد قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: (وجادلهم بالتي هي أحسن) ، وقال لموسى وهارون عليهما السلام: (فقولا له قولا لينا) ، فصار السب عائقا عن المقصود من البعثة ، فتمحض هذا السب للمفسدة ولم يكن مشوبا بمصلحة . وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إقضاؤه إلى مفسدة ؛ لأن تغيير المنكر مصلحة بالذات ، وإفضاؤه إلى المفسدة بالعرض . وذلك مجال تتردد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوة وضعفا ، وتحققا واحتمالا . وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلها . 

والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبين للكفار كفرهم وضلالهم دون مواربة ولا مغمغة، وليس ذلك سبا وشتما، وإن زعم الكفار كاذبين أنه كذلك، وأن الموجه إليه في النهي هم المسلمون لا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين