خَواطر حَول أزمة الخُلق المسلم المعاصر -1-

المقدمة:

الحاسّة الخلقية أمر فطري جُبل عليه الإنسان، منذ خلق:[وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا] {الشمس:8}. فهي تعني إدراكاً للخير وللشر وانفعالاً أيضاً بالخير والشر، ثم نزوعاً لفعل الخير والشر، وهي نبتة ضعيفة بحاجة للرعاية لتنموَ وتسمو، ولذا بعث الله النَّبييِّن يركِّزون في النفوس مكارم الأخلاق، ويثبِّتون في الأرض معالم الخير، وهكذا ما خُتمت الرسالات السماويَّة حتى كانت شجرة الأخلاق باسقة، وصدق رسول الله: (إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق).

وقد لقيت تلك الحاسة الرعاية الإلهية بطريقين يتمِّم أحدهما الآخر: طريق التعليم والتوضيح مع الحضّ والتَّشجيع، وطريق الحساب والجزاء، وهكذا كانت الأخلاق عندنا مع أساسها الفطري بإلزام وجزاء كأكمل ما يكون الإلزام والجزاء، إلزام ذاتيّ وخارجيّ، وجزاء معنوي ومادي.

والعقيدة تنمِّي الأخلاق بالحب قبل الخوف، بحبِّ لله والتقرُّب إليه سبحانه بما يحب والله يحب السمو، إذن فليحب الإنسان الكمال وفعل المكرمات، أي: إن العقيدة تنمي النزعة إلى السمو، وهي نزعة لها أصل فطري، وبعد هذا الحشد من القوى الذاتية الداخلية التي تنمِّي الأخلاق يأتي جانب الجزاء من ثواب وعقاب ـ انظر الدستور الأخلاقي في القرآن للدكتور محمد عبد الله دراز ـ.

ثم إن العبادة تنمِّي العقيدة وتنمي الأخلاق معاً، إنها تفتح الآفاق الرحيبة أمام النفس، إنها تذكر الإنسان بمعالي الأمور وتحضّ عليها، إنها تحبِّب إليه السمو وتكرِّه إليه الهبوط والإخلاد إلى الأرض، إنها تضع الإنسان في محراب الإيمان فينهل من النبع الخالد، إنها المصنع الدائم للإنسان حيث يشحن العقل والقلب بالنور، إنها مدرسة العبوديَّة الخالصة لله تعالى يتخرَّج منها عبادٌ لله لا يعرفون الخضوع لغير الله فيعمرون الدنيا بالحق والخير.

أخلاق الفكر:

وهذه في مرتبة عالية من النظام الخلقي حيث يقوم الفكر بدور كبير في حياة الإنسان، فإذا استقام الفكر ساعد ذلك على استقامة حياة الإنسان، وإذا كانت قوة الفكر: أي: الذكاء، أمراً فطرياً فإنَّ تحرر الفكر وحب الحقيقة أمر فطريّ ومكتسب، وتحري الحق عبارة عن مزيج من التحرُّر الفكري [...قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ] {البقرة:170}. ومن حبّ الحقيقة: [...إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا] {النَّجم:28}.

ومن التحرُّر الفكري ومن حب الحقيقة معاً يتكوَّن للفكر خلقه الأول والأساسي، فالتحرر يكفل للفكر أن يعمل بكامل قواه التي أودعها الله فيه دون أيِّ ضغوط، وحب الحقيقة يدفع الفكر للسعي الحثيث كي يدرك الأمور كل الأمور على حقيقتها، أمور الغيب وامور الهدى وأمور الواقع لا يقعده خمول أو رضا مهين عن السَّعي الحثيث والبحث المتَّصل، وصدق القائل: إنَّ الفكر في جانب من جوانبه خلق أي أن قوى الفكر عندما تكون أمينة لوظيفتها ـ و هذا شرطها الأساسي ـ تغدو خلقاً، وإن الخلق هو في جانب من جوانبه فكر؛ إذ يقوم على أساس من الإدراك الصحيح للقيم الدينية، وهذا الإدراك الصحيح من عمل الفكر.

والتوحيد وهو أول وأسمى درجات العقيدة لا سبيل أن يدركه غير العقل المتحرر اليقظ  المتأمل.

وتحرِّي الحق ـ كخلق أول للفكر ـ هو الأساس الذي تقوم عليه أخلاق فكرية أخرى مثل: 

حُسْن الحوار: [...وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...] {النحل:125}.

التسامح الفكري: [...وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] {هود:119}.

التسامح الديني: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ] {البقرة:256}.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين